كون الأسواق المالية ( البورصة) أسواقًا حديثة، لا يعني خلو النصوص القرآنية والنبوية من إشارات لضبط هذه الأسواق لتحقيق العدل بين الأفراد المتعاملين بها، قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، وقال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } [الشورى: 17].

والميزان  كما قال كثير من المفسرين: “هو العدل”، أو هو: “المعايير التي يُعرف بها العدل” . فليس غريبا على الوحي الذي من أعم مقاصده بيان معايير العدل، ليس غريبا عليه أن يضع قواعد العدل ومعاييره في أسواق سوف تنشأ بعد قرون من انقطاع الوحي.

التلاعب في البورصة

وُجدت في بورصة الأوراق المالية ممارسات تؤدي إلى الإضرار بطائفة من المتعاملين بها،تهتم هذه الورقة برصد أبرزها، وبيان حكمها في الشريعة الإسلامية.

البيع الصوري: ويقصد بهذا العمل خلقُ تعامل نشط على سهم ما. لإيهام المتعاملين بأن السهم عليه حركة تداول عالية.

ويحدث البيع الصوري بتكوين عدة محافظ للمستثمر الواحد، بحيث يبيع ويشتري من نفسه، أو يحدث البيع والشراء بين أفراد يتم الاتفاق بينهم على ذلك لإحداث هذه الصورة من الحركة الوهمية، بينما تكون المحصلة النهائية بقاء وثبات الأسهم في محافظها. وهو ما يعرف في هذه الأسواق «بعملية التدوير».

وهذه العملية تتم بطرق احترافية؛ بحيث لا تثير اهتمام المتعاملين والمضاربين. حتى إذا استحوذ المتلاعب على كمية يستطيع من خلالها إرباك صغار المضاربين على السهم؛ يقوم بطريقة يسميها بعض المضاربين طريقة (التجميع بطريقة التصريف), وهي أن يقوم بالرش والبيع المكثَّف على السهم. وهي عمليات العرض المفاجئة بالكميات الكبيرة؛ للضغط على ملاّك السهم. وتخويفهم حتى يرسم في أذهانهم صورة  بأن لدى السهم أخباراً سيئة من شأنها أن يتدهور سعر السهم عن سعر السوق الحالي. فيقومون بالبيع .

الحكم الشرعي لهذه الصورة: لا يجد الباحث عناء في تكييف هذه العملية على أنها من النجْش، الذي وردت السنة بالنهي عنه وتحريمه، فعن ابن عمر – رضي الله عنهما -: قال: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «عن النجش» . [ البخاري ومسلم ومالك في الموطأ] وأضاف الإمام مالك : والنجش: أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها، وليس في نفسك اشتراؤها فيقتدي بك غيرك.

قال ابن عبد البر: “وأما النجش: فلا أعلم بين أهل العلم اختلافًا في أن معناه: أن يعطي الرجل الذي قد دسه البائع، وأمره في السلعة عطاء لا يريد شراءها به، فوق ثمنها، ليغتر المشتري، فيرغب فيها، أو يمدحها بما ليس فيها، فيغتر المشتري حتى يزيد فيها، أو يفعل ذلك بنفسه، ليغر الناس في سلعته، وهو لا يعرف أنه ربها. ” [التمهيد (13/ 348)].

ونصُّ ابن عبد البر صادق على الصورتين ( أي ما إذا قام صاحب السهم نفسه بالتغرير، أو ما إذا طلب من غيره القيام بذلك).

العروض الوهمية بالبيع والشراء

من الممارسات التي ينتهجها بعض الكبار في البورصة، التغرير بالمتعاملين والتحكم في توجهاتهم لمصلحة الكبار؛ وذلك عن طريق وضع عروض بيع مكثفة على السهم المراد. فمثلا يضعون عروض بيع مكثفة على السهم بسعر 40،1، وذلك قبل افتتاح السوق بوقت قليل ، فيتولد انطباع لدى الآخرين أنهم لن يتمكنوا من البيع إلا إذا وضعوا عروضهم تحت هذا السعر، كما أن هذه العروض المكثفة تخلق لديهم انطباعا بأن السهم به قوة بيعية، فيسارعون إلى التخلص منه، فإذا لم يبق على افتتاح جلسة العمل إلا ثانيتان أو ثلاث ثوان، قام الكبار بإزالة هذه العروض؛ ليجد الصغار أن عروضهم أصبحت في المقدمة وحدها، ما يؤدي إلى بيعها بسهولة لصالح الكبار، فإذا ما اشتراها الكبار أعادوا عرضها بأسعار أعلى محققين ربحا مرضيا لهم، فيقبل الصغار مرة ثانية على شراء الأسهم التي باعوها، ليكرر الكبار اللعبة مرة  ثانية، وربما ثالثة ورابعة !

كما يمكن أن يفعل الكبار بهم الأسلوب نفسه بطريق عكسي بوضع طلبات شراء وهمية.

الحكم الشرعي لهذه الصورة: هذه الصورة تدخل في النجش المنهي عنه،  فمما جاء في تعريف النجش:”وهو أن يستام السلعة بأزيد من ثمنها وهو لا يريد شراءها بل ليراه غيره فيقع فيه”[ تبيين الحقائق (4/ 67)، موطأ مالك (2/ 684)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 228)، المغني (4/ 148).]

وقد ذكر العلماء أن سبب تحريم النجش أنه : “مكر وخداع” [التمهيد (13/ 348)]

وقال ابن قدامة عن النجش: “حرام وخداع، قال البخاري: الناجش آكل ربا خائن ، وهو خداع باطل لا يحل” [المغني لابن قدامة (6/ 304)]

الاحتكار والاستحواذ

من الممارسات الشائعة في الوسط البورصوي سعي فرد ، أو مجموعة أفراد بالاتفاق فيما بينهم على التجميع في سهم معين لفترة طويلة حتى يقلّ المعروض من هذا السهم. وكلما وجد هؤلاء عرضاً من العروض قاموا بالشراء بصورة لا تثير متابعي الأسهم ، وحتى إذا بدأ السهم في الارتفاع لسبب من الأسباب المقتضية لذلك، قام هؤلاء بالضغط على السهم محاصرة لارتفاعه.

وسبيلهم إلى ذلك، عرض كميات من التي يحوزونها، لكسر الدعوم  الفنية التي يشي كسرها بمزيد من الهبوط، عندئذ يبدأ حائزو الأسهم من التخلص مما معهم؛ ليقوم هؤلاء بشرائها منهم ليزداد استحواذهم للسهم واحتكارهم له.

الحكم الشرعي لهذه الصورة : ربما لا يساعد تحريم الاحتكار في الفقه الإسلامي على تحريم هذه الممارسة؛بسبب أن كثيرا من الفقهاء يرى أن الاحتكار لا يكون حراما إلا في السلع الضرورية، والأسهم ليست كذلك غالبا، ولكن بإزاء هذا الاتجاه الفقهي يوجد اتجاه آخر يذهب إلى حرمة الاحتكار مطلقا في جميع المبيعات، وعلى كل فإن الاحتكار وحده لا يؤدي إلى نجاح هذه الممارسة إلا إذا أضيف إليها البيع الصوري مما ذكر في الصورة قبل السابقة، وهو ما بينا أنه داخل في مفهوم النجْش.