في الأيام الأخيرة من حكم السلطان العثماني إبراهيم خان الأول ساءت أحوال الدولة وازدادت الأمور سوءًا، واضطربت مالية البلاد، ونزع الجنود الإنكشارية إلى التدخل في شئون الحكم وعمت الفوضى والقلاقل، وحاول السلطان أن يعيد الأمور إلى نصابها ويقمع حالة الفوضى التي اجتاحت العاصمة إستانبول، ويقضي على رؤوس الفتنة من الإنكشاريين الذين تخلوا عن وظيفتهم في الدفاع عن البلاد، وتفرَّغوا لمناهضة السلطان، لكن السلطان لم ينجح في عزمه، وكان الإنكشاريون أسرع منه، فاشتدت ثورتهم التي اندلعت في (18 من رجب 1058هـ = 8 من أغسطس 1648م)، ولم تنته ثورتهم إلا بخلع السلطان وتولية ابنه محمد الرابع بدلاً منه في منصب الخلافة.

تولية محمد الرابع

كان السلطان محمد الرابع حين جلس على عرش الدولة في السابعة من عمره، فقد ولد في (29 من رمضان 1051هـ = 1 من يناير 1642م)، ولما كان صغيرًا فقد تولت جدته “كوسم مهبيكر” نيابة السلطنة، وأصبحت مقاليد الأمور في يديها، واستمرت فترة نيابتها ثلاث سنوات، ساءت فيها أحوال الدولة وازدادت سوءًا على سوء، واستبد الإنكشارية بالحكم، وسيطروا على شئون الدولة، وتدخلوا في تصريف أمورها، ولم يعد لمؤسسات الدولة معهم حول ولا قوة، وقد أطلق المؤرخون على هذه الفترة “سلطنة الأغوات”.

وبعد وفاة السلطانة الجدة في سنة (1062هـ = 1651م) لم يكن محمد الرابع قد بلغ السن التي تمكنه من مباشرة سلطاته وتولي زمام الأمور، فتولت أمه السلطانة “خديجة تاريخان” نيابة السلطنة، وكانت شابة في الرابعة والعشرين، اتصفت على صغرها برجاحة العقل واتزان الرأي، ذات رأي وتدبير، تحرص على مصالح الدولة العليا التي أصبحت تعصف بها أهواء الإنكشارية، ولذا شغلت نفسها بالبحث عن الرجال الأكفاء الذين يأخذون بيد الدولة، ويعيدون إليها هيبتها، وكانت تأمل في أن تجد صدرًا أعظم قديرًا يعتمد عليه السلطان في جلائل الأعمال، حيث توالى على هذا المنصب كثير من رجال الدولة الذين عجزوا عن الخروج بدولتهم من محنتها الأليمة.

ووجدت السلطانة الشابة ضالتها المنشودة بعد خمس سنوات من البحث الدءوب في محمد باشا كوبريللي، وهو من أصل ألباني، قوى الشكيمة، ورجل دولة من الطراز الأول، فاشترط لنفسه قبل أن يتولى هذا المنصب الرفيع أن يكون مطلق اليد في مباشرة سلطاته وألا تُغلّ يده، فقبلت السلطانة هذا الشرط؛ حرصًا على مصالح الدولة، ورغبة في أن يعود النظام والهدوء إلى مؤسسات الدولة.

باشر كوبريللي عمله في (26 من ذي القعدة 1066هـ = 15 من سبتمبر 1656م)، وأعلن أن السلطان محمد قد بلغ سن الرشد، وانتهت بذلك نيابة السلطانة الوالدة التي دامت خمس سنوات، وتوارت إلى الظل، ولم تتدخل في أمور السلطنة بعد أن اطمأنت أن مقاليد البلاد في يد أمينة، وانصرفت إلى أعمال الخير وتربية ولديها: سليمان وأحمد.

وبدأ محمد باشا كوبريللي أعماله بإعادة هيبة الدولة، فضرب على يد الخارجين من الإنكشارية بيد من حديد، وأجبرهم على احترام النظام، والانشغال بعملهم والتفرغ للدفاع عن الدولة وحمايتها باعتبار أن هذا هو عملهم الأساسي ووظيفتهم الأولى، وليس لهم حق التدخل في شئون الدولة، وكان لسياسته الحازمة وميله إلى الشدة والترهيب فيما يتصل بأمور الدولة أثره في انتظام أمور الدولة واستتاب أمنها، ثم كلفه السلطان محمد الرابع بالدفاع عن الدولة أمام الأخطار المحدقة بها، فهزم البنادقة، وأخذ منهم جزيرة “لمنوس” وبعض الجزر الأخرى، وكان هؤلاء قد استولوا على هذه الجزر، واحتلوا مضيق الدردنيل، وفرضوا حصارًا بحريًا على الدولة، ومنعوا دخول المواد التموينية إلى إستانبول، فارتفعت الأسعار، وتدهورت الحالة الاقتصادية، ولولا نجاح كوبريللي في فك هذا الحصار لتعرضت الدولة إلى خطر فادح.

استمرت صدارة محمد كوبريللي خمس سنوات، نجحت الدولة في أثنائها أن تسترد عافيتها ويعود إليها بعض من هيبتها القديمة على الساحة العالمية، وبعد وفاته في سنة (1072هـ = 1661م) أصدر السلطان محمد الرابع أن يتولى أحمد كوبريللي منصب الصدارة العظمى خلفًا لأبيه، وكان في السادسة والعشرين من عمره، ويعد أصغر من تولى هذا المنصب في تاريخ الدولة العثمانية، لكنه كان عظيم الكفاءة، متعدد المواهب، على دراية واسعة بالسياسة العالمية، وما إن تولى منصبه حتى أدرك أن جبهة الدولة الخارجية تحتاج إلى جهود كثيرة منه، فترك متابعة أمور الدولة الداخلية إلى قرة مصطفى باشا، وتحرك هو إلى إعلان الحرب على النمسا التي انتهزت فرصة انشغال الدولة العثمانية بأمورها الداخلية المضطربة، فاعتدت على حدود الدولة، وبنت عليها قلعة حربية، على الرغم من مخالفة ذلك للمعاهدة المعقودة بينهما، لكنها لم تستجب لنداءات الدولة العثمانية المتكررة.

تحرك الصدر الأعظم من أدرنة على رأس جيش هائل يبلغ نحو 120 ألف جندي، مزودين بالمدافع والذخائر والعتاد، حتى وصل إلى قلعة نوهزل الشهيرة، وكانت تقع شمال غرب يودابست، على الشرق من فيينا بنحو 110 كم، ومن براتسلافيا بنحو 80 كم، وكانت بالغة التحصين، فائقة الاستحكامات حتى أصبحت من أقوى القلاع في أوربا، وما إن وصل كوبريللي إلى القلعة حتى ضرب عليها حصارًا قويًا دام سبعة وثلاثين يومًا، اضطرت القلعة بعدها إلى طلب الصلح والاستسلام، فوافق الصدر الأعظم، شريطة جلاء الحامية عن القلعة بغير سلاح ولا ذخيرة، فدخلها في (25 من صفر 1074هـ = 28 من سبتمبر 1683م)، وبعد استسلام هذه القلعة العظيمة استسلمت حوالي 30 قلعة نمساوية، واضطرت النمسا إلى طلب الصلح، ودفعت للدولة العثمانية غرامات حرب رزمية قدرها 200 ألف سكة ذهبية، وأن تبقى كافة القلاع التي فتحتها الجيوش العثمانية تحت سيادتها، وعاد كوبريللي إلى أدرنة مكللا بالنصر في (2 من رمضان 1075هـ = 17 من مارس 1665م).

ولم يكد يمضي سنتان على هذا النصر حتى كلف السلطان محمد الرابع قائده المظفر أحمد باشا كوبريللي باستكمال فتح جزيرة كريت التي فتحها السلطان إبراهيم الأول، لكن ظلت قلعة “كانديه” وبعض القلاع بالجزيرة تقاوم العثمانيين بسبب المساعدات التي تتلقاها من بلاد أوربا.

تحرك كوبريللي على رأس أسطول بحري إلى جزيرة كريت، وضرب حصارًا حول كانديه في (رمضان 1077هـ = مارس 1667م) ودام الحصار نحو سبعة أشهر صمدت خلالها القلعة ثم عاود الحصار مرة أخرى في (8 من المحرم 1079هـ = 18 من يونيو 1668م) لكنه طال هذه المرة، حتى تجاوز العامين، وفي النهاية تنازلت البندقية عن كانديه بما فيها من مدافع وأسلحة للدولة العثمانية، وأصبحت كريت تابعة للدولة العثمانية، وقضى كوبريللي وقتًا بعد الفتح في إصلاح القلاع والأسوار والأبنية، ثم غادر الجزيرة في (14 من ذي الحجة 1080هـ = 5 من مايو 1670م) بعد أن ظل بها ثلاث سنوات ونصف السنة.

وفي أثناء تولي كوبريللي الصدارة العظمى دخلت بلاد القوقاز جنوبي روسيا في حماية الدولة العثمانية، فلما حاولت بولونيا الاعتداء على بلاد القوقاز استنجدت بالدولة العثمانية التي تحركت على الفور لنجدتها، وأجبرت ملك بولونيا على طلب الصلح.

نشبت الحرب مع روسيا بسبب الصراع حول أوكرانيا، فغادر السلطان محمد الرابع وقرة مصطفى باشا الصدر الأعظم الذي تولى المنصب بعد وفاة كوبريللي في (24 من رمضان 1087هـ = 30 من أكتوبر 1676م) إستانبول على رأس حملة هائلة هي الحملة الأولى لسلطان عثماني على روسيا في (8 من ربيع الأول 1089هـ = 30 من مارس 1678م)، حتى بلغت قلعة جهرين في أوكرانيا، فضربت حولها حصارًا، وكانت قلعة محصنة، وكان يدافع عنها جيش روسي ضخم يقدر بمائتي ألف جندي، لكن القلعة سقطت بعد اثنين وثلاثين يومًا، وقُتل من الجيش الروسي 20 ألف جندي، ثم عاود السلطان محمد الرابع حملة ثانية على روسيا بعد عامين من حملته الأولى، لكنها انتهت بعقد معاهدة أدرنة بين الدولتين في (22 من المحرم 1092هـ = 11 من فبراير 1681م)، واتفق الطرفان على أن تقسم أوكرانيا بين العثمانيين والروس، على أن يكون القسم الأكبر من البلاد تحت الحكم العثماني، وأن تستمر روسيا في تقديم الضريبة السنوية إلى بلاد القرم التابعة للعثمانيين، وأن تدفع المبالغ المتراكمة عليها خلال سنوات الحرب مرة واحدة.

كانت الدول الأوربية قد تألبت على الدولة العثمانية وأفزعها ما بلغته من قوة، فأخذت تتحرش بها، وكانت النمسا تقف في مقدمة الدول المناوئة لها، فاتخذت الدولة قرارها بتوجيه ضربة قوية للنمسا حتى تكف يدها عن التدخل في شئون المجر التي كانت خاضعة للدولة العثمانية.

وفي (19 من رجب 1094هـ = 14 من يوليو 1683م) وصل الجيش العثماني بقيادة قرة مصطفى باشا إلى فيينا، وضرب عليها حصارًا شديدًا، استمر الحصار شهرين تهدمت في أثنائه أسوار المدينة المنيعة، واستشهد آلاف العثمانيين الطامعين في نيل شرف الفتح، وانزعج البابا بعد أن أدرك خطورة الموقف، وتحركت أوربا لنداءاته، وجاءت الإمدادات والمساعدات إلى فيينا، واستطاعت أن تعبر جسر “الدونة” إلى المدينة المحاصرة، وكان الإقدام على هذا العمل خطورة كبيرة لأن الجسر كان تحت سيطرة العثمانيين، لكن المكلف بحماية الجسر لم ينسفه عند مرور هذه القوات وتركها تعبر في سلام إلى المدينة، في واحدة من أكبر الخيانات التي شهدها التاريخ العثماني، ولما نشب القتال انهزم العثمانيون وفكوا حصارهم عن فيينا في (20 من رمضان 1094هـ = 12 من سبتمبر 1683م)، ودقت كنائس فيينا أجراسها فرحة بهذا النصر، وجاوبتها كافة أجراس العالم المسيحي.

نهاية السلطان محمد الرابع

تلقى محمد الرابع أنباء هذه الهزيمة المدوية ولم يفعل شيئًا سوى أن بعث بمن قتل الصدر الأعظم الكفء قرة مصطفى باشا تحت تأثير بعض الوشاة والكارهين للصدر الأعظم وذلك في (6 من المحرم 1095هـ = 25 من ديسمبر 1683م)، وبدأ عصر قحط الرجال الأكفاء، وتتابع عدد من الصدور العظام الذين لا يستطيعون تنفيذ واجباتهم التي تقتضيها مقاماتهم، وكان من أثر هذا أن تألبت الدولة الأوربية وتجمعت لمحاربة العثمانيين باسم التحالف المقدس الذي ضم النمسا وبولونيا والبندقية ورهبان مالطة، وروسيا، فأغارت النمسا على المجر واحتلت بعض مدنها، واستولت على قلعة نوهزل، واحتلت جيوش البنادقة أغلب مدن اليونان.

حاول محمد الرابع استعادة زمام الأمور وأن يسترد بعض ما فقدته الدولة في المجر، لكنه لم ينجح، وتلقى صدره الأعظم سليمان باشا هزيمة منكرة في سهل موهاكس أمام التحالف المقدس في (3 من شوال 1098هـ = 12 من أغسطس 1687م).

وكان من نتائج الهزائم المتتابعة التي لحقت بالدولة العثمانية في أواخر عهد محمد الرابع أن ثار الجيش في وجهه، وقام بخلعه في (3 من المحرم 1099هـ = 8 من نوفمبر 1678م) بعد أن دامت سلطنته نحو أربعين سنة، وكانت الدولة في تاريخ خلعه قد فقدت كثيرًا من أراضيها للبنادقة والنمساويين، وتولى بعد أخوه سليمان الثالث، ودخلت الدولة العثمانية في عصر توقف الفتوح.

أحمد تمام


هوامش ومصادر:

محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية – تحقيق إحسان حنفي – دار النفائس – بيروت – 1403هـ = 1983م.

عبد العزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – 1984م.

يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية – مؤسسة فيصل للتمويل – إستانبول – 1988م.

علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية – المكتب الإسلامي – بيروت – 1994م.