محمد القاسم

شوقي ضيف

لم يكن يدور في خلد الأبوين يوم ولد -بقرية “أولاد حمام” التابعة لمحافظة دمياط بمصر في 13 من يناير سنة 1910م- أن ابنهما أحمد شوقي عبد السلام ضيف سيكون يوما ما شخصية أكاديمية مرموقة ورئيسا لاتحاد المجامع اللغوية، كل ما كانا يطمحان إليه أن يكون ابنهما الوحيد مثل أبيه شيخا أزهريا، وكاد يعصف بأحلامهما مرض أصابه في بدايات سِنِي حياته أفقده عينه اليسرى إلا بصيصًا ضئيلا.

ورغم ذلك أتم الصبي الصغير حفظ القرآن، والتحق بالمعهد الديني عام 1920م، وأظهر نبوغا مبكرا لفت إليه الأنظار؛ حتى إنه ألف كتابًا في النحو لخص فيه “قطر الندى” لابن هشام وهو لم يتم بعد دراسته الابتدائية، وبعد أن أتمها التحق بمعهد الزقازيق الثانوي الأزهري ليتخرج فيه بتفوقه المعتاد.

في أحضان القاهرة

وما إن أتم الدراسة في المعهد حتى تعلق قلبه بكلية دار العلوم التي رأى فيها التجديد والعصرية ونوعًا من التحرر من قيود الدراسة التقليدية؛ فالتحق بتجهيزية دار العلوم التي كانت تُعِد الطلاب للالتحاق بالكلية.

وقبيل عامه الأخير في التجهيزية أعلن الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب أن الكلية ستفتح أبواب قسم اللغة العربية لقبول خريجي التجهيزية وحملة الثانوية الأزهرية ليكملوا دراستهم فيها.

فالتحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة ليتخرج فيها بعد أربع سنوات، وكان ترتيبه الأول على دفعته؛ فعين فور تخرجه محررا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم اختير معيدا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وفيها حصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي، والدكتوراة بمرتبة الشرف الأولى، وأشاد به مشرفه الدكتور طه حسين قائلا: “وإذا كنت حريصا على أن أقول شيئا في التقدمة فإنما هو تسجيل الشكر الخالص للجامعة التي أنتجت الدكتور شوقي، والدكتور شوقي الذي أنتج هذه الرسالة”.

فيوضات وينابيع

إن الناظر لما خلفه الدكتور شوقي ضيف لَيكتشف أنه اجتمعت ينابيع الثقافة في عقليته؛ فهو الأزهري الذي تعمقت علاقته بالتراث العربي بينابيعه وفيوضاته، وهو الدرعمي الذي عاش الأصالة والمعاصرة، وهو الآدابي الذي أتقن اللغات الأجنبية واطلع على معطيات الحضارة الغربية.. كل هذا أفرز عقلية موسوعية لا تكاد تجد فرعًا من فروع الثقافة العربية إلا وله فيه مشاركة تخيل للناظر أنه لم يتخصص إلا فيه.. فأرخ للأدب والبلاغة والنحو، وكتب في فنون الأدب والنقد والترجمة الشخصية والرحلات والشعر والنثر، وحقق العديد من كتب التراث، وله أبحاث أخرى يستعصى حصرها.

مشروع حياته

من بين مؤلفات الدكتور شوقي ضيف الكثيرة يوجد مؤَلَّف أخذ من سني حياته أكثر من 30 عاما، ويعتبر بحق مشروع حياته.. إنه “موسوعة تاريخ الأدب العربي” التي شملت الأدب العربي في مختلف عصوره وأقاليمه، وتقع في 10 مجلدات.

حاول في هذه الموسوعة -كما يقول د. عبد الرحيم الكردي- أن يجمع بين اتجاهين: الأول النظر إلى تاريخ الأدب بوصفه علمًا كما نظر إليه طه حسين وبروكلمان، والآخر تقسيم الأدب إلى عصور كما فهمه القدماء وكما فهمه الرافعي وجرجي زيدان وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين.

واعتمد في تفسيره للتاريخ الأدبي على المدرسة الطبيعية التي اتخذت من منهج Hippolyte Tain “هيبوليت تين” (1828 – 1893) أساسًا لتفسير التطور الأدبي، ويعتمد على أن هناك ثلاثة قوانين يخضع لها الأدب في كل أمة؛ وهي الجنس والزمان والمكان.

ومما يميز موسوعته تلك -كما تقول د.مي يوسف خليفة- “النظرة الموضوعية والدقة المنهجية، والعمق في طرق الخبر التاريخي بعد نقده وتمحيصه وتوثيقه من خلال التوقف عند مصادره واستبعاد ما حوله من شبهات، ثم ينتقل من التاريخ إلى الجغرافيا، ثم يتطرق إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأديان، ثم يتوقف عند اللغة وتاريخها، ثم يأتي دور المحقق والعالم المحاور والباحث المناقش لأطروحات الآخرين”، وهو فوق كل هذا يعيد النظر فيما كتبه من أحكام إذا ظهر له ما يجعله يغير وجهة نظره.

عودة ابن مضاء

كان الدكتور شوقي ضيف من أوائل من فجروا -في بدايات القرن المنصرم- قضية النحو العربي وضرورة النظر في كثير من مسلماته إثر نشره وتحقيقه لكتابه “الرد على النحاة” لابن مضاء؛ ذلك الكتاب الذي نادى فيه صاحبه بإلغاء نظرية العامل في النحو، وما تقوم عليه من تعليل وقياس، والاكتفاء بذكر القواعد مجردة.. فيقول في مقدمته للطبعة الأولى: “وقد سدد ابن مضاء سهام دعوته أو قل سهام ثورته إلى نظرية العامل التي أحالت كثيرا من جوانب كتاب النحو العربي إلى عقد صعبة الحل عسيرة الفهم.. إن كل ما تصوره النحاة في عواملهم النحوية تصور باطل…”. “وليس هذا كل ما تجره نظرية العامل في كتاب النحو العربي؛ فهي تجر وراءها أيضا حشدا من علل وأقيسة يعجز الثاقب الحس والعقل عن فهم كثير منها؛ لأنها لا تفسر غامضة من غوامض التعبير، ولا دفينة من دفائن الأسلوب، وإنما تفسر فروضًا للنحاة، وظنونا مبهمة… وهذا كله أفسد كتاب النحو العربي إفسادًا؛ لأنه ملأه بمسائل ومشاكل لا نحتاج إليها في تصحيح نطقنا وتقويم لساننا”.

ولم يكتف بإحيائه لهذا الكتاب من قبور المخطوطات؛ بل تتبع دراسة تاريخ النحو العربي ونظرياته ومدارسه، وأشرف على العديد من الرسائل العلمية في هذا المجال. كما اهتم بقضية تيسير النحو العربي وتعليمه، وألف في ذلك “تجديد النحو” و”تيسيرات لغوية” و”الفصحى المعاصرة”، وقدم إلى المجمع مشروع تيسير النحو فأقره المجمع.. ولا يقلل من قيمة هذا الجهد الكبير بعض المآخذ على دعوته التجديدية التي جاوزت أحيانًا أصول النحو وفلسفة العربية، كاقتراحه حذف باب “كان وأخواتها” من النحو العربي واعتبار اسمها فاعلا وخبرها حالا.

جوائز وتقدير

عاش الدكتور شوقي ضيف نائيًا بنفسه عن المعارك الأدبية والفكرية التي خاضها أستاذه طه حسين وكثير من رواد الفكر كالعقاد والرافعي وسيد قطب… وذلك يرجع إلى طبيعته المسالمة، كما كان متواضعا عازفا عن المناصب العامة حريصا على لقاء تلاميذه والتواصل معهم، ورغم ذلك فإن مؤلفاته وسيرته رشحاه لعضوية هيئات علمية كثيرة داخل مصر وخارجها، من أهمها عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورئاسته، والمجالس القومية المتخصصة بالقاهرة، والمجمع العلمي المصري… كذلك نال عددا من الجوائز العلمية، أبرزها جائزة مجمع اللغة العربية في عام 1947، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب 1955، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي 1403 هـ = 1983م، وجائزة مبارك للآداب 2003م.

وتسلل راحلا

وبعد حياة حافلة بالإنجازات والإسهامات الجليلة، ووسط صمت وتجاهل معهودين تسلل راحلا عن عالمنا عصر الخميس 13-3-2005 عن عمر يناهز 95 عاما، وشيعه لفيف من أهل العلم والفكر والأدب مساء اليوم التالي.


محرر صفحة “حدث في العام الهجري” بموقع إسلام أون لاين.نت