من الأمور التي تحتاج إلى مراجعة ونظر، الدعوى بأن نفرًا قليلاً من كُتّاب مصر ومفكريها هم الذين حملوا على أكتافهم النهضة الفكرية والأدبية في مصر، ويبالغ أصحاب هذه الدعوة في التركيز على الجهود التي قام بها العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم، والمازني، ومحمد حسين هيكل، وأحمد لطفي السيد، ويتناسون عن قصد أو عن غير قصد، جهود عشرات الأعلام في النهوض بالفكر، والرقي بالأدب، وكأنهم يريدون اختزال النهضة في هذا العدد القليل من الأعلام، وفي هذا ظلم للفكر، ومجافاة للحقيقة، وعدوان على الحق، وافتئات على العدل، ومن حق هؤلاء أن يتناولهم البحث والدرس للكشف عن أدوارهم، وما أثْرَوا به الحياة من أعمال، وإبداع. وتستطيع أن تُحصي عددًا كبيرًا ممن كان له أثر وتأثير في الحياة والفكر، ولكن اغتالتهم يد النسيان والإهمال، ومن هؤلاء الكاتبة “ملك حفني ناصف”، الشهيرة باسم باحثة البادية.

المولد والنشأة

شهد بيت الكاتب الكبير “حفني ناصف” بالقاهرة مولد ابنته في (27 من ربيع الأول 1304هـ= 25 من ديسمبر 1886م) وشاء القدر أن يتفق يوم مولدها مع زفاف الأميرة “ملك” إلى الأمير “حسين كامل” الذي صار سلطانًا بعد ذلك، فسمّاها أبوها باسم الأميرة.

و”حفني ناصف” واحد من أركان النهضة الأدبية في مصر، وممن أرسوا دعائمها على هدي من تراث الإسلام وثقافة العرب، عمل بالقضاء ونبغ فيه، وأسهم في إنشاء الجامعة الأهلية التي أصبحت بعد ذلك جامعة القاهرة، وختم حياته بأجلِّ أعماله وأفضلها بكتابة المصحف على الرسم العثماني الذي كاد ينطمس، فوضع قواعد خاصة بالإملاء الذي كُتب به في عهد الخليفة “عثمان بن عفان” (رضي الله عنه)، واستغرق منه هذا العمل سبع سنوات حتى ضبط كتابة المصحف على الصورة التي نراها عليه الآن.

المدرسة السنية بالقاهرة

في هذا البيت الكريم نشأت “ملك” وتعلمت، وكان أبوها هو معلمها الأول، فحفظت سورًا من القرآن، وألمّت بدروس العربية، وشَدَت مبادئ الفرنسية، ثم التحقت بالمدرسة “السنية” بالقاهرة، وكانت المدرَسَة الوحيدة التي اختصت بتعليم البنات، فبرزت الطالبة النابهة في مجال دراستها، حتى تمكنت من الحصول على الشهادة الابتدائية، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، ثم واصلت تعليمها في المدرسة نفسها بقسم المعلمات، وكانت الدراسة فيه بالإنجليزية إلى جانب المواد العربية، وتخرجت فيها بعد ثلاث سنوات من الدراسة، ثم تلقت تدريبا لمدة عامين، أهّلها للعمل مدرّسة في المدرسة “السنية” التي تخرجت فيها، وذلك سنة (1323هـ=1905م).

نبوغ مبكر

تفجّرت مواهب “ملك” الأدبية في أثناء دراستها، وجرى الشعر على لسانها وهي في هذه السن المبكرة، فنشرت بعض آثارها الشعرية في جريدة “المؤيد” للشيخ “علي يوسف”، ثم دعاها الشاعر الكبير “مطران خليل مطران” إلى الكتابة في مجلة “الجوائب المصرية” التي كان يصدرها، فنشرت قصيدة وهي في السابعة عشرة من عمرها تأسى فيها لوضع الشرق وتتألم من حاله المتردي، وقد أثارت القصيدة إعجاب الشاعر، ورأى فيها نزوعا إلى الإصلاح والتجديد.

اتجهت “ملك” مبكرا إلى الإصلاح الاجتماعي، وخصّت المرأة بجهادها الفكري والعملي، فكانت تطوف على منازل صديقاتها ومعارفها لتقنعهن بإرسال بناتهن إلى المدرسة السنية التي تعمل بها، فدخلها كثيرات ممن كان آباؤهن يفضلون قعودهن في البيت أو يؤثرون إرسالهن إلى المدارس الأجنبية التي كان التعليم بها يتم بلغة أجنبية، ولا تدرس الطالبات فيها شيئًا من اللغة العربية أو التاريخ والدين.

وعندما أُعلن عن مشروع الجامعة المصرية كانت “ملك” الآنسة الوحيدة التي ألّفت لجنة لدعم المشروع الكبير، وجمعت قدرًا من المال حتى يتحقق أمل البلاد بظهور جامعة حديثة.

بين السفور والحجاب

في أثناء هذه الفترة كانت تدور معركة قلمية حامية الوطيس بين دعاة السفور وأنصار الحجاب، وبلغ من حدة المعركة أن دلف إليها كثيرون من رجال الأدب والفكر، بل إنها جذبت رجلا اقتصاديا لم يكن له انشغال بقضايا الفكر من قبل هو “محمد طلعت حرب”، فشنَّ حملة على دعاة السفور، وكانت هذه المعارك من آثار الضجة التي أشعلها كتابا: “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة” لـ “قاسم أمين“.

وكان طبيعيا أن تنزل “ملك” هذا المعترك متسلحة بالثقافة الواسعة، ملتزمة بأحكام الشرع ومبادئه، لا تحيد عنه قيد شعرة، فدفعت اعتراضات الداعين إلى السفور بآيات من القرآن الكريم ونصوص من السنة، وفنّدت آراء الذين يُرجعون تأخر الشرق إلى التمسك بالحجاب ببراهين وأدلة عقلية، مثل قولها: “إن الأمم الأوروبية قد تساوت في السفور، ولم يكن تقدمها في مستوى واحد، فمنها الأمم القوية، ومنها الأمم الضعيفة، فلماذا لم يسوّ السفور بينها جميعا في مضمار التقدم، إذا كان هو الأساس للرقي الحضاري كما يزعم هؤلاء”.

وفي سنة (1325هـ=1907م) تزوجت “ملك” من “عبد الستار الباسل” رئيس قبيلة “الرماح” بالفيوم، وكان رجلاً متعلمًا يجيد أكثر من لغة أجنبية، ومعروفا بالشهامة والمروءة، وفوق ذلك كان من أكبر أثرياء مصر، وبعد الزواج اتخذت “ملك” لنفسها لقبًا جديدًا اشتهرت به هو “باحثة البادية”، غير أن هذا الزواج لم يكن موفقا، وأوقفها على مساوئ اجتماعية دفعت قلمها إلى محاربتها، وكان الزوج قد أخفى عليها خبر زواجه من ابنة عمه، واكتشفت أن زوجها كان عقيمًا لا ينجب فنسب ذلك إليها لا إلى نفسه.

وقد خيّمت هذه السحائب الحزينة سماء منزلها، فكدّرت حياتها، وشابت صفاء نفسها، ولم تجد مخرجًا من هذه الحالة سوى الانشغال بكتابة المقالات إلى الصحف، والتردد على الأندية والمجامع، والقيام بالأنشطة الاجتماعية.

سبيل الإصلاح

كانت باحثة البادية تخص “الجريدة” التي كان يقوم عليها “أحمد لطفي السيد” بمقالاتها، التي كانت تدعو فيها إلى وجوب تعليم المرأة، باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها، وإصلاح أسرتها، والاقتراب من زوجها، وقد جمعت هذه المقالات في كتاب تحت عنوان “النسائيات”، ونشرته سنة (1328هـ= 1910م)، وكان يضم 24 مقالا، وخطبتين وقصيدة واحدة، وقدّم له “أحمد لطفي السيد”، وقرّظه بعض العلماء.

ولجأت باحثة البادية إلى وسيلة أخرى تؤازر مقالتها وتدعم تأثيرها؛ فاتجهت إلى الخطابة وإلقاء المحاضرات العامة على السيدات في دار الجريدة وفي الجامعة المصرية، وفي الجمعيات النسائية، وكانت خطيبة مطبوعة ذات تأثير في نفوس سامعيها؛ حتى إن “أحمد زكي باشا” الملقب بـ “شيخ العروبة” كان يُثني عليها، ويقول بأنها أعادت العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميدان الكتابة والخطابة.

وحين عُقد في القاهرة المؤتمر المصري الأول لبحث الإصلاحات التي يجدر بالأمة والحكومة أن تنتهجاها، تقدمت “باحثة البادية” بورقة ضمّنتها ما تراه واجبا للنهوض بالمرأة، وكان المؤتمر قد عُقد في سنة (1329هـ=1911م) تحت رعاية “رياض باشا” رئيس الوزراء.

وتلخّصت اقتراحات “باحثة البادية” في عشر نقاط، رأت أن المطالب التي قُدِّمت إلى المؤتمر ليتوفر على درسها قد خلت منها، فسارعت إلى تقديمها، وتتلخص في: تعليم البنات الدين الإسلامي الصحيح، وتعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وتعليم التدبير المنزلي والصحة وتربية الأطفال، وتخصيص عدد من البنات لتعلم الطب وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر، واتباع الطريقة الشرعية في الخِطْبة، والالتزام بالحجاب.

ولم تكتف “باحثة البادية” بهذه الجهود فقرنت القول بالعمل والدعوة إلى الإصلاح بالتطبيق، فأسست عددًا من الجمعيات للنهوض بالمرأة، فأسست جمعية “التمريض” على غرار “الصليب الأحمر”؛ لإرسال الأدوية والأغطية والأغذية والملابس إلى الجهات المنكوبة بمصر والبلاد الشقيقة، فأرسلت إلى المجاهدين في ليبيا ضد الاحتلال الإيطالي بعض ما يحتاجونه، وأنشأت مدرسة لتعليم السيدات التمريض، على حسابها، وجعلت منزلها في القاهرة مقرًا للجمعية، وأزمعت إنشاء مشغل للفتيات وملجأ للمعوزات، وقررت أن توقف له خمسة وثلاثين فدانا على هذا المشروع لكن موتها اغتال هذا المشروع النبيل.

وفاة باحثة البادية

لم تمتد الحياة بـ “ملك حفني ناصف”، فلقيت ربها في صبيحة اليوم الأول من المحرم (1377هـ=17 من أكتوبر 1918م) عن اثنين وثلاثين عامًا.


أحمد تمام – باحث مصري في التاريخ والتراث.


هوامش ومصادر:

محمد رجب البيومي – النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – الجزء الخامس – مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة – 1408هـ=1987م.
مجد الدين حفني ناصف – آثار باحثة البادية – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة – القاهرة – 1962م.
أنور الجندي – المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر – القاهرة – 1961م.
عبد السلام العشري – باحثة البادية – إدارة الشئون العامة بوزارة التربية والتعليم – القاهرة – بدون تاريخ