ها البحث كتبه د. جمال الدين عطية رحمه الله ..

يظن معظم العلماء المعاصرين أن الاجتهاد المطلوب حاليًّا يقتصر على الإفتاء في المسائل المتجددة كأحكام التأمين، ونقل الأعضاء مما تقوم به المجامع الفقهية المعاصرة.

وهدف هذا البحث هو عمل إطلالة موجزة مبدئية على هذا الموضوع من خلال بحث عدد من المسائل المحورية، مثل:

توسيع مجال الاجتهاد عن المفهوم التقليدي الفقهي

أ  –  الاجتهاد قرين الإبداع، أو نوع من أنواعه في مجال خاص. والإبداع يقوم به المبدعون، وأهم سماتهم استعدادهم الفطري. فالإبداع ليس وظيفة ولا تخصصًا، وإنما هو ملكة يؤتيها الله من يشاء من عباده. وسنعود إلى مزيد من معالجة هذه الفكرة.

ب – وأول ما يتبادر إلى الذهن ولم يعد يماري فيه أحد ضرورة الاجتهاد في المستجدات من المسائل، سواء على المستوى الجزئي كفوائد البنوك أو نقل الأعضاء أو التأمين على الحياة أو زكاة المستغلات، أو على المستوى الكلي كدور الدولة في مجال الاقتصاد.

جـ- ومما ينبغي أن يتسع له نشاط الفقيه المعاصر أن يقوم بالمعالجة الواقعية للأوضاع المعاصرة، فلا يقف نشاطه عند البحوث النظرية المثالية، وإنما ينزل إلى الواقع ليبدي فيه رأي الشريعة. فلم يعد يكفي الاقتصار -كمثال- على أحكام الزواج التقليدية، فهناك أوضاع طرأت على واقع العلاقات الزوجية تحتاج إلى دراسة تُبنى عليها أحكام جديدة، مثل حالة عمل المرأة، وإسهامها في أثاث المنزل وتكاليف المعيشة، وحالات الزواج غير الموثق وغير ذلك.

ومثال آخر: لم يعد الناس يتبايعون بالذهب والفضة، ولم يعودوا يقيسون بالفرسخ والذراع ومسيرة اليوم والليلة، ولم يعودوا يزِنون بالمثال والأوقية أو يكِيلون بالوسق… إلى غير ذلك من المقادير التي كانت مستعملة في الماضي.

د  –  ولكن الذي لا ينتبه إليه الكثيرون هو ضرورة إعادة النظر في المسائل القديمة، أي الاجتهاد مجددًا في المسائل القديمة. فإن من المقرر أن لتغير ظروف الزمان والمكان والأشخاص أثره في تغير الاجتهاد والفتوى. ولا نوافق على حصر دور المجتهد في هذه الحالة على الانتقاء من بين الآراء القديمة رأيًا يكون أصلح أو أوفق ولو كان مرجوحًا في نظر أهل الترجيح من القدماء. فللمجتهد المعاصر أن يصل إلى رأي لم يقل به الأقدمون طالما أن له مستنده الشرعي في هذا الاجتهاد. ونحن لا نوافق على مقولة إنه إذا كان للقدماء ثلاثة آراء في المسألة (أو أربعة) فللمجتهد المعاصر أن يختار أحدها وليس له أن يقول برأي رابع (أو خامس) لم يقل به أحد من قبله، على أساس أن الآراء القديمة استنفدت بالقسمة العقلية جميع الاحتمالات؛ فهذا حَجْر على المجتهد لا أساس له من الشريعة.

هـ- لقد واكبت العلوم الشرعية تطوراتِ الحياة، ولم يقتصر اهتمام علماء الإسلام على العلوم التي بدءوا بها كالتفسير والحديث والفقه، بل تتالى تفجر العلوم، فنشأت علوم اللغة العربية وعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه والسياسة الشرعية وعلوم الكلام والجدل والمناظرة والأخلاق والتصوف والقواعد وغيرها. وفي مرحلة متأخرة ظهرت كتابات متخصصة في مقاصد الشريعة (كالموافقات) وفي فلسفة التاريخ (كالمقدمة) وفي التربية وغيرها. واليوم نجد كتابات متخصصة في الاقتصاد الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي، والأدب الإسلامي وغيره.

وبعض هذه الكتابات إنشاء جديد -وإن جُمِعَت بعض مادته من القديم- وبعضها توليد من تفاعل علمين أو أكثر مما يُسمى الآن بالعلوم البينية.

وأمام هذا الانفجار المعرفي على الساحة الإسلامية نجدنا بحاجة إلى وضع ضوابط شرعية لهذه العلوم الجديدة؛ تحدد مقاصد كل منها في ضوء مقاصد الشريعة العامة، وتوضح الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنة التي تحكمها، وتثري مادتها بالقواعد الشرعية التي تنطبق عليها، وتنشئ من هذا كله نظريات إسلامية في كل علم من هذه العلوم، وتعقد المقارنات مع مثيلاتها في الأديان والفلسفات الأخرى، وهذه كلها عمليات مستمرة لا تقف عند حد، وهي جزء من توسيع مجال الاجتهاد المعاصر.

و –  ونشير أخيرًا إلى أن الفقه ينبغي أن يحتل دوره كقائد للدورة الحضارية للأمة، وأن يكون الفقيه رائدًا مصلحًا وليس تابعًا محافظًا.

الحاجة إلى تجديد المنهج

أ  –  من المعروف عند علماء مناهج البحث أن الالتزام بمنهج واحد يؤدي إلى جمود العلم، وأن كل تجديد في المنهج يفتح بابًا للإضافة إلى العلم، حتى أحدهم (فويرابند) دعا إلى الالتزام بالمنهج.

ب – وفي خصوص الفقه الإسلامي بالذات نجد أن علمه المنهجي (أصول الفقه) قد نما وتطور في القرون الأولى، ثم توقف عن النمو والتطور، أو نضج واحترق كما يقولون. وقد ظن البعض أنه لا مجال فيه للإضافة. بل أنكر بعضهم مجرد التفكير في الاجتهاد فيه، فضلاً عن أن النظرة إلى دراسته لا تعدو أن تكون لغرض فهم كيف توصل الفقهاء إلى الآراء التي قالوا بها، وليست بأي حال لغرض استخدامه حاليًّا، والاجتهاد في إطار قواعده. ونظرًا لعدم اتساع آليات علم الأصول لمواجهة المستجدات المتسارعة والمختلفة جذريًّا عن بيئة التشريع الأولى؛ فقد اتجه البحث إلى تجديد هذا العلم بما يحقق الغرض منه.

جـ- ولأن البحث الحالي لا يهدف إلى رسم إطار لتحديد علم أصول الفقه، فضلاً عن استقصاء المسائل التي تحتاج إلى تجديد، فإننا نكتفي هنا ببيان نماذج من هذه المسائل تاركين لفرصة أخرى أو لغيرنا المعالجة التفصيلية لها.

بلورة و”مأسسة” السلطة التشريعية

أ  –  أولى هذه المسائل: هي تحويل الإجماع والاجتهاد والشورى إلى مؤسسات -أو المأسسة إن صح هذا الاشتقاق-. وفكرة المؤسسات واردة منذ القديم؛ فقد أُنشئ بيت المال للزكاة؛ والمسجد للصلاة، والمحتسب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن الإجماع والاجتهاد والشورى لم يتحولا إلى مؤسسات، فافتقدنا بذلك في تاريخنا الطويل مؤسستين مهمتين تمثلان السلطة السياسية والسلطة العلمية، وإن كانت هناك إرهاصات لهما مجتمعَين في عصر الرسالة والخلافة الراشدة تتمثل في صورة أهل الحل والعقد، وصورة المجتهدين، على ما تذكره رواية ميمون بن مهران أحد كبار التابعين، وما أورده ابن القيم من أن أبا بكر كان يستشير “رؤساء” الناس، وأن عمر كان يستشير “علماء” الناس، ومن قبلهما كان في عصر الرسالة للنقباء وللعشرة المبشرين بالجنة وضعهم الاستشاري المعروف.

ولعل الفصام الذي نشأ بين الحكماء والعلماء بدءًا من الدولة الأموية هو الذي أدى إلى عدم حدوث التطور في الاتجاه الإيجابي المنشود طيلة التاريخ الإسلامي.

لقد حاول الحكام من جانبهم استيعاب العلماء في جهاز القضاء؛ فاستجاب البعض ورفض آخرون، وتعرضوا بسبب رفضهم لصنوف من العذاب والاضطهاد. كما انصرف العلماء من جانبهم إلى تنظيم السلطة العلمية بتأسيس علم أصول الفقه أولا -بعد الركود الذي حدث لحركة الاجتهاد- ثم إلى تصنيف العلماء إلى درجات من المجتهدين والمقلدين، والاهتمام بنصوص كبار المجتهدين وتوثيقها وشرحها بما جعل لنص الفقيه ما يقارب قداسة نص الشارع.

ولعل من أهم الدراسات التي حاولت تتبع هذا الموضوع وتحليله كتاب عبد المجيد الصغير “الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام”.

ب – واستمر وضع العلماء في التدهور كجزء من حالة التدهور العامة التي شملت جميع مظاهر الحياة، في الوقت الذي بدأ فيه الغرب نهضته الحديثة، وبدأت أفكار الديمقراطية والتنظيم الدستوري للدولة الحديثة وحركة التقنين في ظل العلمانية؛ بحيث أصبح للدساتير الوضعية قداستها العلمانية، ونظمت السلطات التشريعية في إطار الدساتير، واستمر تخلف علماء المسلمين عن مواكبة هذا التطور من منطلق إسلامي بتطوير مبادئ الشورى والاجتهاد والإجماع إلى صورة مؤسسية، فاتجه دعاة النهضة في العالم الإسلامي إلى أخذ النموذج الغربي في تنظيم الدولة وسلطتها التشريعية، وبدأ الوعي لدى العلماء والجماهير بالقطيعة من النموذج الإسلامي، رغم أنه لم يكن مطبقًا في الحياة العملية إلا في صورة القضاء “الشرعي”.

جـ- ومع نشوء الصحوة الإسلامية الحالية، وتعاظم شأنها والمواقف المناهضة لها من المفكرين “العلمانيين” والحكومات “العصرية”، أثيرت ضمن الاعتراضات على فكرة الدولة الإسلامية مساوئ الدولة الدينية في مسيحية أوروبا العصور الوسطى. وانبرى المدافعون عن الصحوة لتفنيد ذلك بتوضيح أنه ليس في الإسلام مفهوم الدولة الدينية الموجود في الغرب، وأنه ليس في الإسلام رجال دين بالمفهوم الكهنوتي المسيحي؛ مما أدى إلى تكريس الموقف الانفصالي بين العلماء والحكام، وليس بين الدين والدولة فحسب.

وهكذا بقيت مجهودات تجديد الفقه في صورة اجتهادات فردية. وحتى الاجتهادات التي اضطرت الحكومات إلى القيام بها -تحت الضغط الشعبي- هامشية محدودة متمثلة في النص في الدساتير على أن الشريعة مصدر القوانين، فدخلت بذلك الشريعة تحت مظلة الدستور والسلطة التشريعية بالمفهوم العلماني الديمقراطي.

د –  وقد انطلقت الكتابات المعاصرة عن مفهوم الدولة الإسلامية -إلى جانب نفي نموذج الدولة الدينية- في تحديد التصور الإسلامي عن السلطة التشريعية من أحد المبدأين الإسلاميين (الاجتهاد والإجماع):

1- فأما الذين انطلقوا من مبدأ الاجتهاد فيرون الجمع بين صورتي الاجتهاد الجماعي (لا الفردي) والاجتهاد الخاص (لا المطلق). وهذا هو الاتجاه السائد سواء في الكتابات الفردية أو بحوث المؤتمرات العلمية.

2- وقد انطلق كل من د. حسن الترابي، د. توفيق الشاوي من مبدأ الإجماع على أساس أن الإجماع ينعقد بالأكثرية، وهو قول الطبري والجصاص والخياط وبعض المعتزلة وابن حنبل في إحدى راويتين عنه، أو على أساس أن قول الأكثر ليس بإجماع، ولكنه حجة ظنية، أو أن اتباع الأكثر أولى.

هـ- ولم تتعرض الكتابات المعاصرة -إلا لمامًا- للتفاصيل التطبيقية للسلطة التشريعية في وضعنا المعاصر؛ من حيث تحديد كيفية اختيار أعضائها، ومكانهم المؤسسي في أجهزة الدولة، واختصاصات المجلس الذي يضمهم، ومدة عضويتهم، وغير ذلك من المسائل التي تحتاج إلى استكمال إذا أردنا لمبدأ الإجماع أو الاجتهاد أن يتحول إلى حقيقة مؤسسية في واقعنا المعاصر.

موقف المجتهد من النصوص في العصر الحاضر

أ  –  ونقصد بالعصر الحاضر نهاية عصر التقليد لمذهب معين، ونهاية اتباع ما ورد في كتب عصر التقليد هذا من أحكام، ومحاولة تخريج المسائل الجديدة التي لم ترد في كتب المذهب بقياسها على مسألة منصوص على حكمها في أحد كتب المذهب. لقد كان ذلك هو حال معظم البلاد الإسلامية ولعدة قرون، حيث وُضِعت قواعد وأصول لمعرفة رأي المذهب إذا اختلف فقهاء المذهب فيما بينهم، ووُضِعت كتب في كل مذهب تناقش الآراء المختلفة فيه، وتختار ما يعتبر وفقًا لهذه القواعد هو الرأي الرسمي المعتمد للمذهب، كما هو الحال بالنسبة لحاشية ابن عابدين في المذهب الحنفي، ولحاشية الدسوقي في المذهب المالكي.. وهكذا.

ب – ومع مرور الوقت وتغير الأحوال تبين أن بعض الآراء في كتب المذاهب لا تحقق المصلحة التي هي أساس التشريع، فعُدِل عن الرأي الراجح في المذهب إلى رأي آخر مرجوح من نفس المذهب، ولكنه يحقق المصلحة بصورة لا يحققها الرأي الراجح، وحدث ذلك في عدة مسائل عند وضع مجلة الأحكام العدلية التي هي تقنين للمذهب الحنفي لم يخرج فيها عن الرأي الراجح إلى رأي المرجوح إلا في بضع مسائل، وكما حدث في تشريعات الأحوال الشخصية في مصر سنة 1920 وما تلاه من تعديلات.

وكان هذا أول خروج عن قاعدة التقيد بالرأي الراجح في المذهب، ولذلك احتاج إلى تبرير من وجهة نظر المذهبيين بأن قالوا: إن هذه السلطة قاصرة على ولي الأمر فقط، وباستعمالها -أي باختيار ولي الأمر لرأي مرجوح- يصبح هذا الرأي المرجوح راجحًا.

جـ- ثم سار التحرر من المذاهب خطوة أخرى حين بدأت تشريعات الأحوال الشخصية المبنية أصلاً على مذهب معين تقتبس آراء من مذاهب إسلامية أخرى تعتبرها أكثر تحقيقًا للمصلحة من رأي المذهب الذي تعتمده هذه التشريعات:

– ففي إطار هذا الاتجاه أخذ التقنين التونسي للأحوال الشخصية سنة 1957 برأي الحنفية خلافًا للمذاهب المالكي السائد في تونس بالنسبة لأهلية البنت لعقد زواجها بنفسها.

– كما أخذ التقنين السوري للأحوال الشخصية سنة 1953 برأي المالكية خلافًا للمذهب الحنفي السائد في سوريا بالنسبة لحق الزوجة في طلب الطلاق للضرر.

– كما أنه في كلا التشريعين أخذ برأي الحنابلة خلافًا للمذهبين الحنفي والمالكي بالنسبة للشروط التي تشترطها الزوجة على زوجها عند عقد الزواج.

– كما أخذ القانون العراقي سنة 1963 برأي الشيعة في الميراث، وعممه على جميع العراقيين من سنة وشيعة، وأصبحت البنت الوحيدة ترث كل التركة ولا شيء لابن عمها.

د –  غير أن هذا التطور -على أهميته ومخالفته للالتزام المذهبي الذي ظل طابع الفقه الإسلامي عدة قرون- لم يكفِ لمواجهة الجديد من العلاقات الاجتماعية الناشئة عن نظم الحياة في المجتمع الحديث بعد تقدم الصناعة وتداخل العلاقات التجارية وتنوعها، وما تبع ذلك من صور جديدة للمجتمعات لم تكن موجودة عند وضع المذاهب حتى يرد بشأنها رأي فيها. ولو وجد أئمة المذاهب الفقهية الإسلامية في عصرنا لكانت لهم في كل ذلك آراء وأحكام وفتاوى ونظريات مختلفة.

لذلك قام زعماء الإصلاح الديني ينادون بفتح باب الاجتهاد وضرورة اهتمام القادرين من علماء المسلمين باستنباط الأحكام الشرعية لهذه الحوادث الجديدة بطريقة القياس على ما ورد في نصوص الكتاب والسنة؛ كما كان الشأن في المذاهب الفقهية عند نشأتها. وقد شعر بعض العلماء بواجبهم، وبدأت تظهر الفتاوى الجديدة في مسائل الشركات والبنوك والتأمين وغير ذلك مما جد في حياة الناس. وكان للشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والشيخ محمد مصطفي المراغي والشيخ عبد الرحمن تاج والشيخ أحمد إبراهيم والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ على الخفيف وغيرهم كثير، كان لهم فتاوى وآراء في المسائل المستحدثة، بنوها على أصول الاجتهاد المعروفة في أصول الفقه من القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والعرف وغير ذلك من الأصول التي أشرنا إليها فيما سبق.

وواضح أن هذا الاتجاه وإن أخذ بفكرة فتح باب الاجتهاد في الفقه فإنه التزم بأصول الفقه بوضعها التقليدي، ولم يتجه إلى فتح باب الاجتهاد في أصول الفقه نفسها.

هـ-  ومن المعلوم أن للمذاهب الفقهية المختلفة آراء مختلفة في أصول الفقه هي التي أدت -ضمن أسباب أخرى- إلى اختلافهم في فروع الفقه، وأنه إذا جاز للمتقدمين أن يختلفوا في الأصول فكذلك المتأخرون لهم أن يجتهدوا في الأصول، كما لهم أن يجتهدوا كذلك في الفروع.

وبذلك نكون قد وصلنا إلى ذروة التحرر من المذهبية: فروعها وأصولها، وبدأت الكتابات الإسلامية المعاصرة تجتهد اجتهادًا مطلقًا هو أقرب ما يكون إلى مرحلة فقه الرأي التي سبقت نشوء المذاهب الفقهية، حيث صارت غير مقيدة بأصول مذهب معين، بل جارية على التلفيق بين أصول فقه المذاهب المختلفة. وقد اتجهت هذه الكتابات اتجاهًا أساسيًّا هو الاستنباط المباشر من النصوص القرآنية والنبوية؛ سعيًا إلى تكوين فقه جديد، أو نظريات إسلامية معاصرة تمتد كذلك إلى علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسية وغير ذلك من الشؤون.

ويمكن أن تدخل تحت هذا النوع كتابات الأساتذة: أبو الأعلى المودودي، وعبد القادر عودة، والسيد سابق، وسيد قطب، ومحمد الغزالي، وغيرهم من الأجيال اللاحقة التي كتبت في هذا الاتجاه الساعي إلى تغطية كافة أمور الحياة بنظريات إسلامية.

وقد شمل هذا الاتجاه أسلوبين:

1- أسلوب الاستنباط المباشر من النصوص العامة التي قررت العدل والإحسان والرحمة والبر والإصلاح… إلخ.

2- وأسلوب إقامة نظريات من أحكام الفروع.

3- وقد جمع بين الأسلوبين عبد القادر عودة حيث أقام نظرية إسلامية كاملة في التشريع الجنائي من أحكام الفروع، كما دعا في المقدمة إلى إقامة نظريات من النصوص العامة كالعدل والمساواة وغيرهما.

و –  وهناك اتجاه آخر يذهب إلى عدم التقيد بالأحكام الفرعية الواردة في النصوص؛ وإنما إلى التقيد فقط بالمبادئ الكلية (القواعد) والمقاصد العامة للشريعة المستمدة من النصوص صراحة أو استنباطًا، وبسط نطاق تطبيقها على كافة أمور الحياة. ومن أمثلة المبادئ والمقاصد العامة المقصودة بهذا الرأي ما نصت عليه المواد المائة الأولى من مجلة الأحكام العدلية، والتي سبق إلى استنباطها الأصوليون في كتب القواعد والأشباه والنظائر وغيرها.

وممن ذهب إلى هذا الرأي -دون الإشارة إلى مواد المجلة العدلية- الدكتور محمد أحمد خلف الله في تعليقه بمجلة الطليعة (المصرية) على حركة المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية.

ز –  غير أن البعض رأى رأيًا آخر؛ مقتضاه أن الأصل في أمور المعاملات هو الإباحة ما لم يرد حكم منصوص عليه (بخلاف الحال في العبادات حيث الأصل هو الاتباع) ينظم مسألة ما. أما حيث لا نص فالمسلمون على أصل الإباحة يشرعون ما يرونه محققًا لمصلحتهم. وقد عبر عن هذا الاتجاه بوضوح الشيخ محمد محمد المدني -رحمه الله- في محاضرة له بموسم محاضرات جامعة الأزهر، وهو نظر فيه تعميم لرأي الحنابلة في الشروط والعقود.

ح – وفي سياق الآراء الداعية إلى تضييق نطاق النصوص، نجد أن الفقهاء والأصوليين بحثوا بالنسبة للسنة فيما يعتبر من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله تشريعًا عامًّا ملزمًا لجميع البيئات والأزمنة، وما يعتبر غير ذلك؛ إما لكونه رأيًا شخصيًّا للرسول صلى الله عليه وسلم، صادرًا عن خبرته الإنسانية في مسألة تشريعية، أو لكونه مسألة تتعلق بالطبيعة البشرية، أو ما دل الدليل الشرعي على أنه خاص به أو كان تشريعًا زمنيًا خاصًّا ببيئته.

وقد عرض العلماء الأمثلة من هذه الأنواع، غير أنهم لم يحصروها، فبقي الباب مفتوحًا للمجتهدين في أن يستبعدوا من النصوص ما دل الدليل على أنه:

– خاص بواقعة معينة أو ظرف معين.

– أو أنه لم يقصد به التشريع العام الدائم.

ط – وقد توسع بعض المعاصرين في هذا الاتجاه، وذهبوا إلى تعميمه، واحتجوا باجتهادات عمر بن الخطاب التي خالف فيها ظاهر النصوص، ومن هذا الرأي الدكتور محمد النويهي. وقد انبرى للرد عليه آخرون موضحين أن عمر رضي الله عنه لم يكن معطلاً للنصوص، وإنما فهمها في ضوء نصوص أخرى وقواعد عامة في الإسلام. ومن أبرز القضايا التي سيقت في هذا الصدد قضايا: تعطيل حد السرقة عام المجاعة، وإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وغير ذلك.

ي – وأخيرًا.. نجد البعض لا يرى التقيد لا بروح النص كما في (الرأي: و)، ولا بلفظه كما في (الآراء: د، ز، ح، ظ)، ويرى طرح ذلك كله في دائرة المعاملات، وإعمال العقل مطلقًا من كل قيد، إلا قيد مراعاة المصلحة التي يراها هي روح النصوص جميعًا؛ محتجًا في ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة تأبير النخل “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

ك – لقد حاولنا تصنيف الآراء المختلفة في هذه القضية دون نظر إلى أصحاب هذه الآراء وما قد يضمره بعضهم باتجاه الشريعة الإسلامية؛ إذ إن لبحث مواقف الأشخاص مجالاً آخر. وإنما اضطررنا إلى ذكر بعض الأسماء لضرب الأمثلة على الاتجاهات الفكرية موضوع البحث.

ل- ولعله قد تبين لنا -بعد هذه الرحلة بين المواقف المختلفة من النصوص، والأبعاد المختلفة للاجتهاد- أهمية رسم الحدود التي يسير ضمنها المجتهدون والسلطة التشريعية التي يحددها دستور كل بلد إسلامي بعد تقدير ظروف كل بلد والمرحلة التي يمر بها.

ولا يكفي في هذا الصدد استبعاد الدرجات المتطرفة في كل من اتجاهي الالتزام المذهبي (الآراء: أ، ب، ج) والتحرر من النصوص (الآراء: و ، ط، ي)، فإن الأمر بقي مترددًا بين عدة مواقف (الآراء: د، هـ، ز، ح)، ويحتاج إلى حسم حتى ينطلق الاجتهاد متبينًا طريقه بين النصوص والآراء.

1- وقد أخذ دستور الجمهورية العربية اليمنية الصادر في 27/12/1970 باتجاه عدم التقيد بالمذهبية، حين نصت المادة: 152 منه على أن تقنين الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات يكون بما لا يخالف نصًّا ولا إجماعًا، فجعل النص (من قرآن وسنة) والإجماع هما القيد الوحيد على التقنين (قريب من الرأي: ز).

2 – وكذلك أخذت الجمهورية العربية الليبية باتجاه عدن التقيد بالمذهبية حين نصت المادة: 2 من قرار قيادة الثورة الخاص بمراجعة التشريعات وتعديلها بما يتفق مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية الصادر في 28/10/1971 نصت على إزالة ما يناقض الأحكام القطعية والقواعد الأساسية للشريعة الإسلامية بإعداد التشريعات البديلة آخذة من مختلف المذاهب مع تخير أيسر الحلول حسبما تقتضيه المصلحة العامة ومع مراعاة ما جرى عليه العرف في البلاد (الرأي: ج).

3 – وأرى شخصيا الأخذ بالرأي هـ بأسلوبية 1و2، حيث إنه يجمع بين التقيد بالثوابت من النصوص والمرونة حيال المتغيرات بما يحافظ كذلك على روح الشريعة وليس على نصوصها فحسب.

مشكلة تكوين المجتهدين

أ  – تعدد كتب أصول الفقه التقليدية شروطًا للمجتهد ليس من بينها شرط: “معرفة الواقع “.

1 – وقد تنبه إلى أهمية ذلك من المتقدمين الإمام أحمد؛ إذ ذكر ابن القيم في “إعلام الموقعين” نقلاً عن الإمام أحمد أنه قال: “لا ينبغي للرجل أن يُنصِّب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، وذكر الخصلة الخامسة: معرفة الناس .

ويضيف ابن القيم: “وهذا مما يدل على جلالة الرجل، ومحله من العلم والمعرفة. فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه”.

وقال في شرح الخصلة الخامسة: “وأما قوله الخامسة معرفة الناس؛ فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم. فإن لم يكن فقيهًا فيه، وفقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، كان ما يفسد أكثر مما يصلح. فإنه إذا لم يكن فقيهًا في الأمر، وله معرفة بالناس، تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثياب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه وبالله التوفيق”.

2 – ويوسع الدكتور القرضاوي هذا الشرط إلى حد: معرفة الناس والحياة، فيقول: وهذا شرط لم يذكره الأصوليون في شروط الاجتهاد، وهو معرفة المجتهد بالناس والحياة من حوله، وذلك أنه لا يجتهد في فراغ، بل في وقائع تنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله، وهؤلاء تؤثر في أفكارهم وسلوكهم تيارات وعوامل مختلفة: نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية. فلا بد للمجتهد أن يكون على حظ من المعرفة بأحوال عصره وظروف مجتمعه، ومشكلاته، وتياراته الفكرية والسياسية والدينية، وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى ومدى تأثره بها وتأثير فيها”.

ثم نقل كلام ابن القيم، وتابع: “وهذا في الواقع ليس شرطا لبلوغ مرتبة الاجتهاد، بل ليكون الاجتهاد صحيحًا واقعًا في محله. وأكثر من ذلك أن نقول إن على المجتهد أن يكون ملمًا بثقافة عصره؛ حتى لا يعيش منعزلاً عن المجتمع الذي يعيش فيه ويجتهد له ويتعامل مع أهله. ومن ثقافة عصرنا اليوم أن يعرف قدرًا من علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والسياسة والقوانين الدولية ونحوها من الدراسات الإنسانية، التي تكشف له الواقع الذي يعايشه ويعامله. بل لا بد له كذلك من قدر من المعارف العلمية، مثل الأحياء والطبيعة والكيمياء والرياضيات ونحوها، فهي تشكل أرضية ثقافية لازمة لكل إنسان معاصر. وكثير من قضايا العصر وثيقة الصلة بهذه العلوم، بحيث لا يستطيع أن يفتي فيها من يجهلها. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكيف يستطيع الفقيه المسلم أن يفتي في قضايا: الإجهاض، أو تحديد شكل الجنين، أو التحكم في جنسه، وغير ذلك من القضايا الجديدة إذا لم يكن لديه قدر من المعرفة بما كشفه العلم الحديث عن: الحيوانات المنوية الذكرية، والبييضة الأنثوية، وطريقة تلاقي البييضة بالحيوان المنوي، وتكوين الخلية الواحدة منهما، وقضية الجينات، وعوامل الوراثة.. إلخ؟ هذه القضايا العلمية التي قد ينكرها بعض المشايخ الذين لم يدرسوا هذه العلوم الكونية”.

ومن هنا أدخل الأزهر هذه العلوم في معاهده ومناهجه من عهد بعيد؛ لأنها ضرورية لفهم الدين والكون والحياة. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهي امتداد لما كان عليه علماء المسلمين في عصور الازدهار. وأي معهد ديني يستبعد هذه العلوم الكونية من مناهجه لا يمكن أن يعد رجالاً قادرين على الاجتهاد في قضايا عصرهم.

3 – وأقول ما يلي:

أ  –  هذا الذي ذكره الدكتور القرضاوي ليس كافيًا لإعداد المجتهد المعاصر، وإنما هو ضروري لإعداد الداعية المعاصر.

أما المجتهد المعاصر فلا يكفيه أن يدرس نتفًا من هذه العلوم التي ذكرها، والتي أصبحت الآن تخصصات عامة تشمل تخصصات دقيقة داخل كل منها.

ب – إن المجتهد المعاصر ينبغي في رأينا أن يكون متخصصًا، وأن يُعدَّ إعدادًا خاصًا للدواعي التالية:

– المجتهد المطلق لم يعد موجودًا، كما لم يعد من المنتظر وجوده. وإنما الذي يوجد الآن أو يُتصور وجوده هو المجتهد الجزئي، أي: الذي يتمكن من استنباط الحكم في مسألة دون غيرها، أو في باب فقهي بعينه دون غيره.

– وهذا المجتهد المتخصص لا بد لوجوده ولقيامه بمهمته من إعداده إعدادًا تخصصيًا، لا في الجانب الشرعي فحسب، وإنما في جانب التخصص الذي يتجه إليه، سواء في الاقتصاد أو الطب أو الاجتماع أو علم النفس أو غير ذلك من المجالات.

ولا يكفي في إعداد المجتهد المتخصص في مجال الاقتصاد مثلاً أن يقوم بدراسة كتاب أو مقرر واحد من مقررات الاقتصاد، وإنما يلزم أن يشمل برنامجه الدراسي في المرحلة الجامعية الأولى على 30 إلى 45 من نظام الساعات المعتمدة، وأن يتم توجيهه بعد ذلك إلى الدراسة العليا، حيث يحصل على عدد آخر من الساعات في دراسة متعمقة في الاقتصاد إلى جانب الدراسة الشرعية. المتخصصة ولا يتسع المجال هنا لأكثر من هذه الإشارة الموجزة.

– ولا بد حتى تؤتي هذه الدراسة المتخصصة أُكلها، وتُخرج للمجتمع مجتهدين متخصصين يكون لديهم الاستعداد الشخصي للقيام بهذه المهمة، وهذا يستدعي عمل اختبارات ومقابلات شخصية للقيام بهذه المهمة قبل قبوله في هذا التخصص البيني الجامع بين تخصص الاقتصاد وتخصص الشريعة.

– كما ينبغي لكي تؤتي هذه الدراسة أكلها أن تتم بصورة مقارنة بين الاقتصاد الوضعي والشريعة، بحيث يتم التفاعل في ذات المادة التي تُدرَّس، ولا يتم تدريس المادتين منفصلتين؛ لأن ذلك يؤدي إلى قيام ازدواج ثقافي داخل عقل الطالب، مع أن الهدف هو إزالة هذا الازدواج.

– إن الحل الذي لجأت إليه المؤسسات المختصة بالاقتصاد أو بالطب أو بغير ذلك من إقامة مجالس أو لجان تضم متخصصين في الاقتصاد أو الطب ومتخصصين شرعيين إنما هو حل مؤقت لا يحل المشكلة جذريًا، بل إنه يكرس عملية الازدواج الثقافي. ولا مناص من إنشاء التخصصات البينية التي أشرنا إليها.

تطوير مباحث مقاصد الشريعة

كما أن لدينا مسألة مهمة أخرى تتمثل في تطوير مباحث مقاصد الشريعة. فمنذ كتاب الموافقات للعلامة الشاطبي، الذي يعتبر قفزة في تاريخ المقاصد، كتب في هذه القضية كل من الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي في منتصف هذا القرن، ثم تجدد الاهتمام فصدرت خلال السنوات العشر الأخيرة عدة كتب وبحوث، وما زال الاهتمام متواصلا.

وقد كتبت في الآونة الأخيرة كتابًا تناولت فيه المسائل التالية:

– التفرقة بين مقاصد الخلق ومقاصد الشريعة ونتائج هذه التفرقة.

– محاولة صياغة مقاصد الشريعة العالية.

– اشتمال المقاصد على مجموع رتب الضروري والحاجي والتحسيني وتعلق هذه الرتب بالوسائل وليس بالمقاصد.

– افتقاد الدراسات القانونية لمباحث المقاصد، وافتقاد الدراسات الشرعية لمباحث وظيفة القانون في تنظيم المجتمع ومدى تدخل الدولة في حريات الأفراد.

– محاولة تطوير الكتابة في المقاصد الخاصة المتعلقة بأقسام الشريعة أو بالعلوم الحديثة.

– محاولة تحديد دور العقل في تحديد المقاصد.

– إن مراتب المقاصد خمس لا ثلاث؛ بإضافة ما دون الضروري وما وراء التحسيني وآثار ذلك.

– تطوير فكرة حصر الكليات في خمس، وإضافة المقاصد الاجتماعية.

– بحث ترتيب المقاصد الكلية فيما بينها وإشكاليات هذا الترتيب.

– محاولة البحث عن معيار اعتبار حكم معين أو وسيلة معينة من مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات وملاحظات تطبيقية.

– نسبية تحديد الوسائل وتسكينها في المراتب بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وأمثلة تطبيقية.

– إزالة اللبس الخاص بالنسل والنسب والعرض، ووضع كل منها في موضعه المناسب.

– تحديد المقاصد في إطار أربعة مجالات تختص بمجال الفرد، وإضافة مقاصد لكل من الأسرة والأمة والإنسانية.

علاقة أصول الفقه بالعلوم الأخرى

كان أبو حامد الغزالي يعتبر علم الكلام هو أعلى العلوم: هو العلم الكلي وباقي العلوم من الفقه والأصول والحديث والتفسير جزئية.

والذي نراه أن علم العقائد وليس علم الكلام هو أعلى العلوم، يليه علم القيم الأخلاقية العامة، ثم النظرية العامة للشريعة شاملة علم أصول الفقه، ثم تأتي بقية العلوم الشرعية وغير الشرعية، مع ما ينتج عن هذا الترتيب من تأثير العلم الأعلى على العلم الأدنى منه مرتبة.

تجديد تبويب مادة أصول الفقه

المسألة الأخيرة تتعلق بتجديد تبويب مادة علم أصول الفقه. وقد أجريت محاولة في هذا الاتجاه لم أقتصر فيها على تغيير التبويب أو إضافة موضوعات جديدة، بل امتدت لأكثر من ذلك إلى التفرقة فيما يعرف بأدلة الأحكام بين المصادر: كالكتاب والسنة، والمناهج: كالقياس والاستصلاح، والأدوات: كالعقل واللغة.

خـاتمة

هذه بعض أهم النقاط التي يدور حولها ما يطلق عليه البعض “تجديد أصول الفقه” أو “الاجتهاد في أصول الفقه”. وهي -كما نرى- مسائل مشروعة لا نرى مبررًا للانزعاج من بحثها كما يحدث لكثير من العلماء المعاصرين.

والذي يثيره بحث مثل هذه المسائل في نظرنا بعد تعميق البحث فيها وليس قبل ذلك هو طرح السؤال التالي: هل يظل إطلاق اسم “أصول الفقه” على هذه المباحث مطابقًا لمضمونها، أم يكون الأولى البحث عن اسم جديد؟

والذي نراه مبدئيًّا هو أن نتيجة البحث هي التي ستحدد الإجابة عن هذا السؤال. فإن كانت محصلة التجديد جزئية فلا بأس من استبقاء اسم علم أصول الفقه وتعريفه التقليدي بأنه العلم بالقواعد التي ترسم المناهج لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية؛ إذ يتسع هذا التعريف للتجديدات الجزئية داخل العلم.

أما إذا كانت محصلة التجديد كلية وشاملة فنرى في هذه الحالة الحاجة إلى إنشاء علم منهجي جديد تكون أصول الفقه جزء منه.

وقد تدعو الحاجة إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو اندراج علوم المناهج (مناهج الأصوليين ومناهج المؤرخين ومناهج الفلاسفة وغيرها) في علم واحد مع احتمال إضافة مناهج جديدة.