وإذا كان المقام لا يتسع للإطالة ولا للتفاصيل، فضلاً عن استقراء أفكار الرجل وأعماله في هذا الميدان -وهي التي سيجدها القارئ في نصوص “إسلامياته” التي نعدها للطبع- فإن وقفات أمام “محطات” في حياة السنهوري كانت مناسبات طرَق فيها الحديث عن هذا المشروع، هي ضرورية لمزيد من الأضواء على هذا المنهاج الإصلاحي الذي قدمه هذا الرجل في هذا الميدان.
فلقد كان إحياء الشريعة الإسلامية، لتتأسس عليها المدنية الإسلامية الحديثة، والجامعة الإسلامية الجديدة، حلم حياة السنهوري باشا، والمشروع الفكري الذي لازمه عبر سنوات عمره المديد.. في المذكرات… والمقالات… والمحاضرات العامة، وفي الجامعات… وفي مؤتمرات القانون -القومية والدولية-، وفي المؤلفات الفكرية والقانونية.. وعلى منصة القضاء… وفي صروح القوانين المدنية التي بناها هذا المشروع العظيم لمصر والعراق وسوريا والكويت ….إلخ.
ففي أوراقه الشخصية، يكتب عن غدر أوروبا بالدولة العثمانية – في أكتوبر سنة 1918م- أي: عقب تخرجه من مدرسة الحقوق مباشرة… وفي يناير سنة 1922م يكتب عن مشروعه لإحياء الشريعة الإسلامية، وعن الجامعة الإسلامية… ثم يلازمه هذا الحلم العظيم بالإحياء الإسلامي طوال سنوات عمره، في الفكر والممارسة والتطبيق.
ومع هذه الاستمرارية للعلاقة بين السنهوري والشريعة الإسلامية فقد برزت في سنوات عمره “محطات” زاد اهتمامه فيها بهذا المشروع لملابسات اقترنت بهذه “المحطات”.

(1) مؤتمر لاهاي سنة 1932م
واعتماد الشريعة الإسلامية مصدرًا للقانون الدولي
*ففي سنة 1932م عقد -بمدينة “لاهاي”- “المؤتمر الدولي للقانون المقارن”، وشارك فيه الدكتور السنهوري، ودعا فقهاء القانون الدولي إلى اعتماد الشريعة الإسلامية منظومة قانونية متميزة مع المنظومات القانونية العالمية، ولقي هذا المطلب استجابة كبيرة، بل إن أستاذه في دراسته للدكتوراه -العلامة الفرنسي “إدوار لامبير”- قد حمّل السنهوري وزملاءه المصريين مسئولية العمل على إنجاز تجديد فقه الشريعة الإسلامية لتتيسر مقارنتها بالقوانين الأخرى، والاستفادة من كنوزها، فكتب “لامبير” في تقريره عن أعمال مؤتمر “لاهاي” يقول: إذا كنت أستعيد هذه الذكرى التي أثارتها ملاحظات الأستاذ السنهوري، فذلك لأبرهن لزملائنا المصريين على أنهم هم الذي يقبضون بأيديهم على الوسائل التي تمكِّن من سكب النور على الخدمات التي تستطيع الشريعة الإسلامية أن تزود بها الفقه المقارن، وحسبهم في سبيل هذا أن يقيموا في جامعتهم القومية مركزًا للأبحاث العلمية لمقارنة الشرائع..”.
وعاد السنهوري من “لاهاي” وهو يحمل هذا “التكليف الدولي” ببعث الشريعة الإسلامية وتجديد وتقنين فقه معاملاتها، وانضم هذا “التكليف الدولي” إلى الدافع الذاتي، والباعث الديني، والعامل الحضاري، والعزة القومية، لتزيد من عزم الرجل وجهاده على هذا الطريق.
ولقد اعتبر السنهوري باشا أن هذا “التكليف الدولي” -الذي مثّل اعترافًا عالميًا بتميز وعظمة الشريعة الإسلامية- هو بمثابة “إشارة الابتداء” لتكثيف الجهود على هذا الطريق، فكتب- في تقريره عن هذا المؤتمر- يقول: “لقد حان الوقت، وأعطانا مؤتمر لاهاي إشارة الابتداء، لقد آن الأوان لدراسة القانون بنفحات التجديد. وإن علينا أن نرد إلى الشريعة الإسلامية -بدراسة تاريخية ومقارنة عميقة جادة- صفة التواؤم مع حاجات النظام الاجتماعي القائم، وإن نقطة الابتداء من هذا العمل يجب أن تكون -كما سبق أن قلته في كتابي عن [الخلافة]- الفصل بين الجزء الديني والجزء الزمني في الشريعة الإسلامية، ذلك أن الجزء الديني يجب أن يفلت من دائرة دراساتنا ليبقى حكرًا لرجال الدين من المسلمين.
“ولأن علينا أن نعنى في دراستنا بجعل الشريعة الإسلامية ممكنة التطبيق على السواء بالقياس للمسلمين وغير المسلمين، كان واجبًا أن نميز في نظام القسم الزمني من الشريعة نفسه القواعد ذات الصبغة الدينية من القواعد ذات الصبغة القانونية البحتة”.
“إنني لا أعني بالإسلام -في ميدان الدراسة القانونية- مجموعة من القواعد الدينية، وإنما نظامًا للحضارة يعتمد على أساس من التنظيم القانوني، هذا هو إسلام الثقافة لا إسلام العبادة، وإني لزعيم بأن المصريين جميعًا -مسلمين وغير مسلمين- يجتمعون على إقرار ضرورة النهوض بحركة ترمي إلى التمكين لهذا النظام القانوني العتيد من الانطباق في العصر الحاضر، وهو ذلك النظام الذي اشترك في بنائه من رجال القانون الإسلامي من لا يقاربهم في عظمتهم غير فقهاء الرومان”.
“إن على كليِّتنا-[الحقوق]- أن تخطو الخطوة الأولي في سبيل هذا الإصلاح، بل في سبيل هذا “الرنيسانس” Renaissance -أي: نهضة، ولقد شاع استخدام “الرنيسانس” وصفًا للنهضة الأوروبية التي أخرجت أوروبا من عصورها المظلمة، وتخلفها الحضاري، واستخدم المصطلح وصفًا للنهضات الحديثة في العلوم والفلسفات- مهما تتكلف في هذه السبيل، إن كلمة “الرينسانس” قد تكون كلمة طموحًا، ولكنها يبررها ما في هذا العمل من عظيم الخطر”.
“إن علينا أن نعيد إلى مصطلح الحضارة الإسلامية المرونة التي فقدها، وألا نعتبرها مجرد مجموعة من القواعد الدينية، بل صورة بديعة من صور المدنية يقدمها التاريخ إلينا -على حد قول “لامبير”- كثمرة للنشاط المشترك الذي ساهمت فيه جميع الوحدات الدينية التي تعيش منذ قرون بعيدة تعمل جنبًا إلى جنب في ظل راية الإسلام”.
هكذا نقل السنهوري -بعد توصيات مؤتمر لاهاي- مشروعه لإحياء وتجديد الشريعة الإسلامية، من الإطار “الذاتي” إلى الإطار “العام” طالبًا من كلية الحقوق أن تخطو الخطوة الأولى في سبيل النهضة الإسلامية- “الرنيسانس” المؤسسة على الشريعة الإسلامية، قانوناً قوميًا لكل الذين استظلوا عبر القرون الطويلة برايات الإسلام.

قضايا معاصرة     بداية     يتبع     عـودة     النهاية