وصفي عاشور أبو زيد**

تحتل مقاصد الشريعة منزلة كبرى في تفكير الشيخ يوسف القرضاوي، فهو من أبرز علماء الإسلام المعاصرين اهتمامًا بالمقاصد، سواء على مستوى التنظير والتفكير أو مستوى التنزيل والتطبيق، يهيمن الفكر المقاصدي على كل ما يكتب، ترى هذا الاهتمام وهذه الهيمنة في فتاواه وفي كتبه، لا سيما الفقهية منها، وتلحظه في تعليله للأحكام، كما يعتبر المقاصد معولاً أساسيًّا في الترجيح والوصول إلى حكم من الأحكام الشرعية، وشرطًا أساسيًّا لا بد من توافره كي يبلغ الفقيه درجة الاجتهاد.

فإذا دعا القرضاوي إلى التيسير في الفتوى أو التبشير في الدعوة فلأنَّ التيسير ورفع الحرج من مقاصد الشريعة، وإذا دعا إلى الوصل بين الفقه والحديث وربط الكليات بالجزئيات فمرجعه لنفس السبب، وإذا دعا إلى التأمل في فقه السنن فلأنه من ثمرات العلم بالمقاصد، وإذا دعا إلى رعاية المآلات والأولويات والموازنات، ومراعاة الترتيب السلمي المقاصدي من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، أو مراعاة فقه النِّسب أو مراتب الأعمال فلأن ذلك كله مرجعه لمقاصد الشريعة العليا، وإذا قال بوجوب الأخذ بأدب الاختلاف وفقهه لتوحيد الأمة فلأن الوحدة والقوة مقصد إسلامي عام، وما يؤكد على ذلك قوله: “وفي رأيي أن فقه المقاصد هو أبو كل هذه الألوان من الفقه؛ لأن المعنيّ بفقه المقاصد هو: الغوص على المعاني والأسرار والحكم التي يتضمنها النص، وليس الجمود عند ظاهره ولفظه، وإغفال ما وراء ذلك”.

شمول الرؤية

وإذا كان علماء المقاصد القدماء قد اهتموا بجزئيات المقاصد من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، وتقسيم الضروريات إلى الكليات الخمسة المعروفة: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والتنظير لها والاستدلال عليها، فإن شيخنا قد اهتم بالمقاصد الكبرى أو العامة أو ما يسميه الدكتور جمال عطية بالمفاهيم التأسيسية -كما نجده عند ابن عاشور- من مثل تحقيق العدل والمساواة، وتحقيق الكفاية والأمن العام، والقيم الاجتماعية يراها كذلك من المقاصد مثل الإخاء والتكافل والحرية والكرامة، وبذلك -كما يقول الشيخ- يظهر ما تتسم به المقاصد من تنوع وشمول، فهي مقاصد روحية أو دينية باعتبار أن أول ما تسعى الشريعة إلى حفظه وإقامته هو الدين بعقائده وعباداته، وهي مقاصد أخلاقية، ومقاصد إنسانية، ومقاصد مستقبلية سواء بسواء.

ومن مؤلفات الشيخ التي يظهر فيها اهتمامه بالمقاصد: “المدخل لدراسة الشريعة”، و”كيف نتعامل مع القرآن العظيم”، و”كيف نتعامل مع السنة النبوية“، و”السياسة الشرعية”، و”شريعة الإسلام”، و”مدخل لمعرفة الإسلام”، و”فقه الأولويات”، و”فقه الأقليات”، و”فقه الدولة في الإسلام”، وأخيرًا صدر له كتاب عن دار الشروق بعنوان: “دراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية”، طبع عام 1427هـ/ 2006م، ويقع في 288 صفحة، وهذا الكتاب هو موضوع العرض.

وقد ضمَّن الشيخ كتابه كلمة افتتاحية كان قد ألقاها في ندوة مقاصد الشريعة بلندن تحدث فيها عن أمرين: الأول: عن اهتمامه بمقاصد الشريعة ومتى بدأ وإلامَ انتهى، وفيه يبين إيمانه بأهمية المقاصد من خلال نصوص قرآنية واستقراء لأحكام الشريعة، وأقوال ومعايشة للفقهاء المؤمنين بالمقاصد من أمثال المشايخ: شلتوت ودراز والمدني وأبي زهرة وخلاف والخفيف وعلي حسب الله ويوسف موسى ومصطفى زيد والزرقا والسباعي والبهي الخولي والسيد سابق، وغيرهم. ثم يذكر كتبه التي اهتم فيها بالمقاصد مما ذكرناه في المقدمة لهذا العرض.

والأمر الثاني بعنوان: فقه مقاصد الشريعة، يبين فيه معنى الشريعة، ومعنى مقاصد الشريعة، وهل للشريعة مقاصد فعلاً، وذكر أهم الطرق التي توصل لمعرفة المقاصد، ثم تعرض لخماسية الكليات الضرورية، ورأى أن إضافة بعض المتأخرين للعِرض باعتباره كلية سادسة، إضافة معتبرة لها ما يؤيدها من الشرع والعقل، وهنا أيضًا يوسع الشيخ من آفاق المقاصد؛ ليجعل منها القيم الاجتماعية مثل الحرية والشورى والعدل والمساواة وما يتعلق بمفهوم الأمة، وتكوين المجتمع والدولة منتهيًا إلى أن الأصوليين القدامى كان جلّ اهتمامهم في هذا المجال منصبًّا على الفرد المكلف، ولم تتوجه عناية منهم مماثلة لمقاصد الدولة والمجتمع.

مدارس ثلاث

ثم تناول الشيخ بعد ذلك ثلاث مدارس فقهية وبيَّن موقفهم من مقاصد الشريعة وتعليل الأحكام، الأولى: مدرسة تُعنى بالنصوص الجزئية وتتشبث بها وتفهمها فهمًا حرفيًّا بمعزل عما قصد الشارع من ورائها، وهم الذين سمَّاهم الشيخ من قديم بـ”الظاهرية الجدد”، فهم ورثة الظاهرية القدامى، ورثوا عنهم الحرفية والجمود، وإن لم يرثوا عنهم سعة العلم، ولا سيما فيما يتصل بالحديث والآثار، وقد رمز لها الشيخ بـ”فقه النصوص بمعزل عن المقاصد”، وذكر من خصائصها ستة، هي: حرفية الفهم والتفسير، والجنوح إلى التشدد والتعسير، والاعتداد برأيهم إلى حد الغرور، والإنكار بشدة على المخالفين، والتجريح لمخالفيهم في الرأي إلى حد التكفير، وعدم المبالاة بإثارة الفتن.

ومن مرتكزات هذه المدرسة ذكر الشيخ أربعة، هي: الأخذ بظواهر النصوص، وإنكار تعليل الأحكام بعقل الإنسان، واتهام الرأي وعدم استخدامه في الفهم والتعليل، وانتهاج التشدد في الأحكام.

أما النتائج والمواقف التي أسفر عنها فقه هذا المدرسة، فهي: إسقاط الثمنية عن النقود الورقية، وإسقاط الزكاة عن أموال التجارة، والإصرار على إخراج زكاة الفطر من الأطعمة، وتحريم التصوير الضوئي أو ما يسمى بـ”الفوتوغرافي.

وقد ذيّل الشيخ الكلام عن هذه المدرسة ببيان قيام الشريعة على رعاية المصالح كما قرره المحققون من العلماء، وأن الصحابة كانوا ينظرون في فقههم إلى مقاصد الشريعة.

التعطيل باسم المصالح

أما المدرسة الثانية فهي مقابلة للأولى تزعم أنها تُعنى بالمقاصد وروح الدين مدعية أن الدين جوهر لا شكل، وحقيقة لا صورة، ترد صحيح الحديث؛ لأنهم في الحقيقة لا يعرفون صحيحه من ضعيفه، يتأولون القرآن تأويلات فاسدة، ويتمسكون بالشبهات، وقد سمّاها الشيخ مدرسة المعطلة الجدد ورمز لها بـ”تعطيل النصوص باسم المصالح والمقاصد”، وقد ذكر من سماتها وخصائصها ثلاثة أمور، هي: الجهل بالشريعة، والجرأة على القول بغير علم، والتبعية للغرب.

أما عن مرتكزات هذه المدرسة فيؤكد الشيخ على أنها تعلي منطق العقل على منطق الوحي، وتدعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطَّل النصوص باسم المصالح ورعاية المقاصد مثلما فهموا من إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، أو رفعه لحد السرقة عام الرمادة، وناقش الشيخ الشبهتين نقاشًا علميًّا هادئًا.

ومما ناقشه الشيخ هنا مقولة نجم الدين الطوفي عن المصلحة والمراد منها، وبيّن كيف ظلمه العلمانيون فأخذوا شطرًا من كلامه دون الآخر، وظلمه الشرعيون فأخذوا هذا الآخر وتركوا الأول، فالطوفي يمنع صراحة أن يخالف النصُّ القطعي في سنده وفي دلالته المصلحةَ.

ومن الأمور المهة التي ناقشها الشيخ في مرتكزات هذه المدرسة قولهم: “حيث توجد المصلحة فثَم شرع الله”، وبيّن أنهم نسبوها إلى ابن القيم وهو بريء من هذا النص؛ لأنه كان يتكلم عن العدل ولم يتكلم عن المصلحة، بالإضافة إلى أنهم يقطعون هذه الكلمة -بعد تحريفها- عن سياقها التي قيلت فيه، فقد قالها ابن القيم في كتابه “الطرق الحكمية” ردًّا على الذين يحصرون البينة في شهادة الشهود وحدها، ويرفضون الأخذ بالقرائن وإن بلغت ما بلغت من الوضوح والدلالة على وجه الحق في القضية، فقد قال رحمه الله ص 14 من هذا الكتاب: “إن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثَم شرع الله ودينه”، ونحو ذلك قاله في “إعلامه”.

أما إطلاق هذه الكلمة عن ابن القيم أو شيخه ابن تيمية، فلم يثبت عنهما ولا يتصور منهما، وهما أشد الناس تمسكًا بالنصوص ودعوة إلى الاتباع، وإنما تقبل هذه الكلمة إذا كانت على هذا النحو: “حيث توجد المصلحة فثم شرع الله فيما لا نص فيه، أو فيما فيه نص يحتمل تفسيرات عدة، ترجح أحدها المصلحة”، وفيما عدا ذلك فالواجب أن يقال: “حيث يوجد شرع الله فثَم مصلحة العباد.

أما النتائج والمواقف التي أسفرت عنها هذه المدرسة فهي الهروب من النصوص القطعية والتشبث بالمتشابهات، ومعارضة أركان الإسلام وثوابته باسم المصالح.

المدرسة الوسطية

ورمز لها الشيخ بـ”الربط بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية”، ومن سماتها وخصائصها ذكر الشيخ ستة، هي: الإيمان بحكمة الشريعة وتضمنها مصالح الخلق، وربط نصوص الشريعة وأحكامها بعضها ببعض، والنظرة المعتدلة لكل أمور الدين والدنيا، ووصل النصوص بواقع الحياة وروح العصر، وتبني خط التيسير، والانفتاح على العالم والحوار والتسامح دون ذوبان أو استلاب.

أما المرتكزات التي ترتكز عليها هذه المدرسة فقد ذكر الشيخ منها خمسة، هي: البحث عن المقصد بطرقه المعروفة قبل إصدار الحكم، وفهم النص في ضوء أسبابه وملابساته، والتمييز بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة، والملاءمة بين الثوابت والمتغيرات، والتمييز في الالتفات إلى المعاني بين العبادات والمعاملات.

ومن النتائج التي أسفر عنها فقه هذه المدرسة أنها كان لها الأثر الواضح في اجتهاداتها ومواقفها المتوازنة في مختلف القضايا الفقهية والفكرية: الشخصية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدولية، كما وُفِّقتْ إلى وضع حلول لكثير من المشكلات التي يعانيها الأفراد والمجتمعات، وأجابت عن كثير من التساؤلات التي تحير أعدادًا كبيرة من المسلمين، فوجدوا في أجوبة هذه المدرسة ما يعينهم على التمسك بالعروة الوثقى والاعتصام بحبل الله.

وختم الشيخ كتابه بأن أورد ملاحق عبارة عن فتاوى لكثير من أعلام هذه المدرسة، وهم: الشيخ رشيد رضا، والشيخ السعدي، والشيخ شلتوت، والشيخ الزرقا، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، وأورد لنفسه فتويين؛ حيث نقل عن كل واحد فتوى أو اثنين ليعْرف من يعرف هذه المدرسة من آثارها ومواقفها، وليس من مجرد تصوراتها النظرية، على أن كثيرًا من مواقف هذه المدرسة الفقهية قد ذُكر في صلب الكتاب بمناسبته، مما يلقي شعاعًا من ضوء يكشف عن حقيقتها واعتدالها وحسن فهمها لدين الله ودنيا الناس.

ملاحظة

كان الأولى -وصلب الكتاب عن المدارس الثلاث، حيث استغرقت نحو ثلثي الكتاب- أن يكون عنوان الكتاب: “مدارس ثلاث وموقفها من مقاصد الشريعة”، أو “مقاصد الشريعة بين مدارس ثلاث”، أو “النصوص الجزئية والمقاصد الكلية بين مدارس ثلاث” ونحو ذلك؛ لأن العنوان الحالي: “دراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية” لا يعبِّر تعبيرًا يتناسب مع مضمون الكتاب، بالإضافة إلى أن الشيخ ذكر هذه المدارس الثلاث وبيَّن بعض خصائصها في كثير من كتبه، لكنه هنا أفردها بالحديث الذي اتسم بالتدقيق والتحليل والبيان والتفصيل.


**باحث الدكتوراة بكلية دار العلوم بمصر.