قدم جامع “الزيتونة” إلى العالم الإسلامي عشرات من أعلام الفكر في مقدمتهم: عبد الحميد بن باديس الذي قاد الإصلاح في الجزائر، وعبد العزيز الثعالبي، ومحمد بيرم، وسالم أبو صاحب، والطاهر بن عاشور، وابنه محمد الفاضل بن عاشور موضع حديثنا اليوم.

ولولا أن جامع “الزيتونة” ظلَّ صامدًا في وجه هذه الهجمة الشرسة من قبل المحتل الغاصب لربما نجحت فرنسا في تحقيق أهدافها الخبيثة على النحو الذي كانت ترجوه، لكنه وقف حارسًا للثقافة الإسلامية؛ يمدُّ الحياة بأعلام الفكر وزعماء الأدب وقادة الوطنية.

استهدفت فرنسا حين وضعت يدها على تونس في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي – أن تقطع تونس صلتها بماضيها العريق وحضارتها الإسلامية التالدة وتاريخها العظيم، واتخذت في سبيل ذلك وسائل متعددة، من أهمها السيطرة على مؤسسات التعليم، فكان وزير المعارف فرنسيًّا يتحكم في التعليم ومناهجه ويتصرف كما يشاء، ومديرو المدارس كلهم فرنسيين، وامتلأت مناهج التعليم بكل ما يتصل بفرنسا وتمجيد تاريخها وحضارتها، وفي الوقت نفسه اختزلت ما يتصل بالتاريخ العربي والحضارة الإسلامية، وتقديمه في صورة مزرية.

الفاضل بن عاشور .. المولد والنشأة

في بيت كريم من بيوتات الدين والعلم وُلِد “محمد الفاضل” في (2 من شوال 1327هـ = 10 من أكتوبر 1909م)، وتعهده أبوه بالرعاية والتعليم، وكان عالمًا كبيرًا من رواد الإصلاح والتعليم في تونس وإمامًا في علوم الدين واللغة، وحسبك أن يكون صاحب التفسير المعروف بـ”التحرير والتنوير”، فبدأ بتحفيظه القرآن الكريم وهو في الثالثة من عمره، وتعليمه القراءة والكتابة، وما كاد يبلغ التاسعة من عمره حتى أتم حفظ بعض المتون القديمة كالآجرومية وألفية ابن مالك في النحو، ثم بدأ في تعلم الفرنسية على أيدي معلمين خصوصيين في المنزل، ولما بلغ الثالثة عشرة بدأ يدرس القراءات، والتوحيد، والفقه، والنحو؛ الأمر الذي هيَّأه ليلتحق بجامع الزيتونة في العام التالي، فحصل منه على الشهادة الثانوية المعروفة هناك بالتطويع سنة (1347هـ = 1928م).

ثم استكمل دراسته العليا في الشريعة واللغة وأصول الدين، فدرس على يد والده التفسير وقرأ عليه موطأ مالك، و”المطول” للتفتازاني في البلاغة، وديوان الحماسة، ودرس علم الكلام على يد الشيخ أبي الحسن النجار، وأصول الفقه على الشيخ محمد بن القاضي.

وإلى جانب هذه الدراسة المنتظمة كان يقرأ على أبيه في المنزل كل ليلة من ليالي رمضان بعد صلاة التراويح قدرًا من كتب: الحديث، والرجال، واللغة، مثل صحيحي البخاري ومسلم، و”الإصابة في معرفة الصحابة” لابن حجر، و”النهاية في غريب الحديث” لابن الأثير، و”لسان العرب” لابن منظور.

وبعد تخرجه عمل مدرسًا في جامع الزيتونة سنة (1351هـ = 1932م)، ثم انتسب إلى كلية الآداب في جامعة الجزائر لاستكمال دراسته في اللغة الفرنسية، وتخرج فيها سنة (1354هـ = 1935م) حاملاً أعلى درجاتها العلمية.

في معترك الحياة

وعندما جلس الفاضل بن عاشور للتدريس كان قد استوى عالمًا، ألمَّ إلمامًا واسعًا بعلوم القرآن الكريم، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والكلام، ومقاصد الشريعة، إلى جانب التبحر في اللغة والأدب، وقد هيأ له ذلك أن يسهم في مجال الثقافة الإسلامية بالبحوث العميقة، وكان قد بدأ اتصاله بالصحف مبكرًا في سنة (1347هـ = 1928م) يغذيها بمقالاته المتنوعة في الدفاع عن الفكر الإسلامي والتاريخ واللغة في وجه خصومها، وحين حاولت حكومة “فيشي” الفرنسية فرض أناشيد أجنبية على طلبة المدارس في سنة (1358هـ = 1939م) تصدى لها الفاضل بن عشاور، ونظم أناشيد قومية للشباب متحديًا المحتل الفرنسي.

وتعدَّدت رحلاته العلمية وحضوره الندوات والمؤتمرات التي كان لها أثر في تكوينه الفكري؛ فشارك في مؤتمر المستشرقين في باريس سنة (1368هـ = 1948م)، وفي إستانبول سنة (1371هـ = 1951م)، وفي مؤتمر الثقافة الإسلامية بتونس سنة (1369هـ = 1949م)، وفي مؤتمر العلوم التاريخية بباريس سنة (1370هـ = 1950م)، ودُعي في سنة (1375هـ = 1955م) إلى معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة، وألقى به سلسلة من المحاضرات أُخرجت في كتاب كبير تحت عنوان “الحركة الأدبية والفكرية بتونس”.

وإلى جانب عمله بالتدريس في الجامعة الزيتونية وفي مدرسة الحقوق العليا نهض بالإفتاء والقضاء، فعُيِّن في سنة (1373هـ = 1953م) مفتيًا للديار التونسية، ثم اشتغل قاضيًا للقضاة ورئيسًا للمحكمة الشريعة العليا، ثم رئيسًا لمحكمة النقض والإبرام، وفي سنة (1381هـ = 1961م) تولى عمادة الكلية الزيتونية للشريعة والأصول، وظلَّ يتولاها حتى وفاته.

النشاط الفكري

كانت حياة محمد الفاضل بن عاشور خصبة مليئة بالعمل والدرس والمحاضرة بين منابر المعاهد الإسلامية في تونس وليبيا والجزائر والقاهرة، وكانت محاضراته يرتجلها ارتجالاً، تواتيه بها ذاكرة خصبة وعقل، ولسان فصيح، ولغة بليغة، وقد استنفدت محاضراته معظم طاقته الفكرية، فلم يفرغ للتأليف تمامًا، كما أن كثيرًا من محاضراته لم يكن يدونها، على أن ما بقي من تراث الرجل -وإن كان قليلاً على من كان قبله- شاهد على غزارة علمه، وسعة أفقه، وإحاطته بالثقافة الإسلامية عن علم وبصيرة.

وتدور مؤلفاته في ميادين ثلاثة هي: التشريع الإسلامي، واللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، وقد أسهم فيها جميعًا بمؤلفات وبحوث قيمة، منها: كتابه “التفسير ورجاله”، عالج فيه تاريخ علم التفسير منذ نشأته إلى اليوم، بدءاً من ابن عباس (رضي الله عنه) حبر الأمة حتى محمد عبده ورشيد رضا، وفي أثناء هذا العرض التاريخي تناول مناهج التفسير المختلفة من أخذ بالمأثور أو الميل إلى النظر والمعقول، أو الجمع بينهما، وعرف بكبار المفسرين وأهم كتبهم كالطبري، والزمخشري، والرازي، والبيضاوي، وأبي السعود من القدماء والآلوسي ومحمد عبده من المحدثين.

وتناول في الكتاب الثاني “الاجتهاد.. ماضيه وحاضره” الأدوار التي مرّ بها الاجتهاد والتشريع الإسلامي منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى يومنا هذا، وأشار إلى كبار المجتهدين من الصحابة والتابعين، وإلى نشأة المذاهب الفقهية الكبرى، وما تبعها من استقرار وبروز للمدارس الفقهية، ثم ما تبع ذلك من توقف وجمود حتى برزت في القرون الأخيرة دعوات لفتح باب الاجتهاد على يد: الدهلوي في الهند، والشوكاني في اليمن، ومحمد عبده في مصر، وله بحث نفيس قدمه إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة بعنوان “المصطلح الفقهي في المذهب المالكي”.

وشغف الفاضل بأعلام المسلمين في القديم والحديث، واتجه إلى علماء المغرب يوليهم عنايته، ويصوِّر حياتهم، ويكشف عن جهودهم، بعد أن رأى أن تاريخ المغاربة لم يَحْظَ بالذيوع على الوجه المأمول، فاختار من زعماء المغرب من الفتح الإسلامي حتى عصره شخصيات سياسية وعلمية جَلَّى صورتها؛ لتكون مثالاً للنشء المبهور هناك بأعلام الغرب، وقد جُمعت مقالاته التي تناول فيها هذه الشخصيات في كتب عديدة مثل: “تراجم الأعلام”، وجعله لأعلام المغرب في السياسة والفكر، وكتاب “أركان النهضة الأدبية بتونس”، واختصه بأعلام النهضة الفكرية أدبًا وعلمًا، وله كتاب ثالث بعنوان “أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي” ترجم فيه لخمس عشرة شخصية مغربية ذات تأثير كبير في الحياة، مثل: عقبة بن نافع، وأبي الوليد الباجي، والقاضي عياض، وابن عرفة، وأبي إسحاق الشاطبي.

المجال الإصلاحي

شارك “الفاضل” في حركة الإصلاح التي كانت قد بدأت قبله بفترة ليست قصيرة، وتزامنت مع حركات النهوض في العالم الإسلامي، وكان “خير الدين التونسي” رائدها في تونس، ثم قام الشيخ محمد السنوسي -وكان على صلة بالإمام محمد عبده- بجهود مشكورة في الدعوة إلى الإصلاح والتجديد في تونس، وأثمرت الحركة الإصلاحية إنشاء “الجمعية الخلدونية” سنة (1314هـ = 1896م) لنشر العلوم العصرية باللغة العربية من جغرافيا، وتاريخ، واقتصاد، وعلوم طبيعية ورياضية.

وفي وسط هذا الجو نشأ الفاضل بن عاشور وتأثر به، وكان أبوه من أبرز دعاة الإصلاح والقائمين عليه، وقد ارتبط بالجمعية الخلدونية، وحاضر فيها إلى جانب الشيوخ الكبار مدافعًا عن الحضارة الإسلامية، مبرزًا عطاءها في خدمة الإنسانية، وفي سنة (1375هـ = 1945م) تولى رئاسة الجمعية، فنهض بها، وأنشأ بها حلقات من التعليم الثانوي العصري لاستكمال مناهج التدريس لطلبة جامع الزيتونة تحت إشرافه، وانتدب لها أساتذة لتدريس العلوم الطبيعية والرياضية باللغة العربية.

وكان هؤلاء بحكم تخرجهم في المعاهد الأوربية لا يؤمنون بصلاحية اللغة العربية لهذه المهمة، لكن الشيخ الجليل نجح بفضل توجيهه في إنجاح التجربة، واستطاع الطلبة اجتياز الاختبارات التي عُقدت لهم، وسعى الشيخ إلى اعتراف الدولة بشهادة البكالوريا العربية، والسماح لحاصليها بالالتحاق بكليات الآداب والعلوم في المشرق العربي في مصر وسوريا، وببعض الجامعات الغربية.

ثم أضاف إلى هذا العمل الجليل إنشاء معهدين عاليين بالجمعية الخلدونية، هما معهد الحقوق العربي، ومعهد البحوث الإسلامية، وكانت له محاضرات متصلة بهما، ورتب للمعهدين شهادات تتوج الدراسة بهما.

اتصل الفاضل بن عاشور بالحركات الثقافية في العالم، وبالهيئات والمجامع العلمية، وامتد نشاطه إلى خارج تونس إما محاضرًا في بعض المعاهد والجامعات العلمية في مصر وليبيا والجزائر والسعودية، أو مشاركًا في الهيئات العلمية، كالرابطة الإسلامية بمكة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كما اختير عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1381هـ = 1961م)، وعضوًا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في العام التالي.

وفاة الفاضل بن عاشور

وبعد حياة علمية عريضة توفي الفاضل بن عاشور في (12 من صفر 1390هـ = 19 من إبريل 1970م)، ورثاه الدكتور إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية بكلمة مؤثرة، جاء في مستهلها: “نودع عالمًا كبيرًا، وإمامًا من أئمة الأدب واللغة والفقه والتشريع، ورائدًا من رواد الإصلاح والتجديد.. كان حجة في تراثنا الإسلامي في جميعه، وبخاصة ما خفي منه من أخبار المغرب وبلاد الأندلس، ومحيطًا بثمار الثقافة العربية، وما انتهت إليه من علم وثقافة…”.


إعداد: أحمد تمام


من مصادر الدراسة:

محمد رجب البيومي – النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – دار العلم – دمشق – 1420هـ = 1999م.
أنور الجندي – أعلام القرن الرابع عشر الهجري (أعلام الدعوة والفكر) – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة 1981م.
محمد مهدي علام – المجمعيون في خمسين عامًا- الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية – القاهرة – 1406هـ = 1986م.
إبراهيم بيومي مدكور – كلمة في تأبين محمد الفاضل بن عاشور – مجلة مجمع اللغة العربية – العدد (28) – القاهرة 1391هـ = 1971م.