مرَّت الدولة الأموية في الفترات الأخيرة من حياتها بفتن، وقلاقل، وثورات، واضطرابات، ولم تكن هذه المرة من أعدائها والخارجين عليها، وإنما أشعلها أهل البيت نفسه دون مراعاة لوحدة الأسرة الحاكمة أو المحافظة على سلامة الدولة، وانشغل كل ثائر بنفسه لا يرى سواها ولا يرى الحق إلا فيها، وكانت هذه الفتن هي أخطر ما واجهته الدولة الأموية، فاجأتها وهي منهكة القوى من طعنات الثائرين عليها، مفككة البنيان بعد أن فعلت العصبية القبلية أفاعيلها في جسد الدولة.

يضاف إلى ذلك أن خلفاء الدولة المتأخرين لم يكونوا على قدر المسؤولية، وتعجز ملكاتهم عن قيادة إمارة صغيرة فكيف يفعلون بدولة عملاقة كالدولة الأموية؟ تجمع ذلك كله وسار في اتجاه سقوط الدولة وحاول مروان بن محمد أن يعيق تصاريف القدر أو يؤجل وقوع المصيبة، فما استطاع على قدرته وكفاءته، فكانت الأقدار أكبر منه والأحداث سريعة متلاحقة أعجزته عن تدبير أمره، فوقع ما ليس منه بد، وانهار البناء الشامخ، وكان يُظن أنه راسخ كالجبال.

أحوال الدولة الأموية

تتابع خلال ثلاثة أعوام ثلاثة من خلفاء الدولة الأموية، فتولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك الخلافة سنة (125هـ = 742م)، ولم يمكث طويلا في الخلافة، وثار عليه أبناء عمومته من أبناء الوليد بن عبد الملك وأخيه هشام، وانتهى الأمر بقتله سنة (126هـ = 743م)، وتولى يزيد بن الوليد بن عبد الملك الخلافة، لكنه عجز عن ضبط أمور الدولة التي اضطربت، وانشغل أبناء البيت الأموي بالصراعات وتدبير المؤامرات، وزاد الأمر سوءاً اشتعال العصبيات القبلية، وانتقل الخلل من عاصمة الدولة إلى الأقاليم، وفي وسط هذه الأحداث الهائجة والأحوال الثائرة توفي يزيد بن الوليد، ولم يتجاوز حكمه ستة أشهر تاركًا دولته تموج بها الفتن، وتشيع فيها الفوضى، وبعد وفاته تولى أخوه إبراهيم بن الوليد الخلافة، ولكن الأمر لم يتم له، ولم يستطع أن يمسك بزمام الأمور، حيث نازعه مروان بن محمد الحكم، ونجح في إزاحته عن منصبه، وتولى الأمر بدلاً منه.

ولاية مروان بن محمد

كان مروان بن محمد قبل أن يتولى الخلافة الأموية حاكمًا على ولاية أرمينية وأذربيجان تولاها سنة (114هـ = 732م) من قبل هشام بن عبد الملك، فأظهر كفاءة وقدرة في إدارة شؤون ولايته وبذل جهدًا كبيرًا في ضبط أمورها، ورد غارات الترك والخزر على حدود ولايته، وظلَّ مروان على ولايته حتى نجح في الجلوس على كرسي الخلافة الأموية بعد أن لعبت به الأهواء.

ولم تكن الظروف التي تولى فيها مروان بن محمد تساعده على الخروج بدولة الخلافة من أزمتها، بل كانت مضطربة تغلي كالمرجل فتحمل هو عبء أوزارها، وحاول بكل ما يملك من قوة إصلاح اعوجاجها، ولكنه كلما خلص من أزمة ظهرت له أخرى، كأنها تنتظره فأنهكت قواه، واستغرقت جهده ووقته، ولم تدع له فرصة للتفسير الهادئ والتأمل الرزين.

وكانت دمشق معقل الأمويين ومركز أنصارهم منقسمة على نفسها شيعًا وأحزابًا، وامتد هذا إلى الشام كله، وأصبح الأمر كله منذرًا بالخطر، فحاول مروان أن يهدئ النفوس، ويسكن القلوب الثائرة بأن عرض على أهل الشام أن يختاروا من يرضونه واليًا عليهم دون نظر إلى عصبيته وقبيلته، ففعلوا ذلك، وبهذه الخطوة الطيبة نجح مروان في أن يرتِّب أوضاع الشام وأن يعيد الهدوء والنظام إليها.

اشتعال الثورات ضد الخليفة

ولم يكد يطمئن الخليفة مروان بن محمد في حران التي اتخذها مقرًّا لحكمه حتى تبدَّد الحلم، وانهار صرح السلام بعد أن جاءته الأخبار بثورة أهل حمص عليه بزعامة ثابت بن نعيم الجزامي، وكان مروان قد أبدى معه تسامحًا ولينًا، على الرغم من غدره به من قبل وإثارته الناس عليه، فعيَّنه واليًا على فلسطين بناء على رغبة أهلها، ولكن “ثابت” لم يحفظ عهدًا أو يراعِ ودًّا، وغلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء فكاتب الناس، ودعاهم إلى الثورة، وحضهم على الخروج على الخليفة، ولم يصبر مروان على هذا الأمر فخرج على رأس جيشه، ونجح في قمع الفتنة واقتلاع جذورها. وفي الوقت الذي كان مروان بن محمد مشغولاً بقمع ثورة حمص شبَّت ثورة هائجة في غوطة دمشق، وولَّى أهلها عليهم زعيمًا يمنيًّا هو يزيد بن خالد القسري، وساروا إلى دمشق، فحاصروه غير أن مروان أرسل إليهم وهو في حمص جيشًا تمكن من القضاء على الفتنة وقتل متزعمها.

محاولة الصلح بين أبناء البيت الأموي

حاول مروان بن محمد أن يقيم صلحًا بين أبناء البيت الأموي، وأن يحل الوئام بينهم، وأن يكونوا عونًا للدولة لا حربًا عليها، فزوج ابنيه عبيد الله وعبد الله من ابنتي هشام بن عبد الملك آملا من أن تكون هذه المصاهرة سببًا في رأب الصدع، ولمّ الشمل، والتفرغ لقتال الخوارج الذين ثاروا بالعراق تحت قيادة الضحاك بن قيس الشيباني، منتهزين فرصة انشغال الدولة بثورات أهل الشام، وفي الوقت الذي كان فيه مروان يشرف على تجهيز جيش لقتال الخوارج فاجأته ثورة عارمة قادها صهره سليمان بن هشام بن عبد الملك في الرصافة، وانضم إليه 10 آلاف من أهل الشام الذين استنفرهم مروان بن محمد لقتال الخوارج.

وشجَّع هؤلاء المنضمون سليمان على الخروج على الخليفة الشرعي، وخلع بيعته، فاستجاب لهم لهوى في نفسه دون أن يعبأ ببيعته التي في عنقه، ودون مراعاة لمصالح الدولة، وأمنها الذي تهدده ثورات الخوارج، واستفحلت ثورة سليمان واجتمع حوله سبعون ألفًا من الجند.

ولم يكن أمام هذه الأنباء المفجعة إلا أن يخرج الخليفة بنفسه للقضاء على هذا الخطر المتصاعد الذي يكاد يعصف بالدولة، والتقى بخصمه عند قرية تسمَّى خسَّاف من أعمال قنسرين، ودارت بينهما معركة حامية سنة (127هـ = 744م) هُزم فيها سليمان، وقتل نحو ثلاثين ألفًا من أتباعه، وهرب بمن بقي معه إلى حمص، فتابعه مروان وحاصر حمص حتى استسلمت.

ثورات الخوارج

ولم تكد الأحوال تستقر قليلاً ويعود إليها شيء من السكينة والهدوء ويفرغ الخليفة مروان لإدارة دولته التي تأثرت كثيرًا بانقسام البيت الأموي، واحتدام الصراع بين أبنائه، حتى فاجأه اندلاع ثورات في أماكن مختلفة من أنحاء دولته، فشبت ثورة عارمة قادها عبد الله بن معاوية من أحفاد جعفر بن أبي طالب في العراق فيما بين سنتي (127-129هـ = 744-746م)، كما اشتعلت في الوقت نفسه فتنة هائجة للخوارج بقيادة الضحاك بن قيس الشيباني في العراق وقويت هذه الفتنة بانضمام بعض أبناء البيت الأموي، وهدّدت سلطة الخلافة بكثرة أتباعها، ولولا يقظة مروان بن محمد لعصفت بالدولة فتعامل معها بكل حزم وقوة حتى نجح في القضاء عليها سنة (129هـ – 746م).

وقبل أن ينتهي مروان من القضاء على ثورة الضحاك بن قيس وخلفائه من الخوارج في العراق والجزيرة حتى شبت ثورة الخوارج في جنوبي الجزيرة العربية بقيادة أبي حمزة الخارجي سنة (128هـ = 745م) وبدأت من حضرموت وزحفت إلى مكة والمدينة، واستولت عليها، واتجهت إلى الشام مهددة أمن الخلافة الأموية، فاضطر مروان على الرغم من الأخطار المحدقة به أن يرسل جيشًا للقاء الخوارج، فتقابل الفريقان في “وادي القرى”، وانتهت المعركة بهزيمة الخوارج وقتل قائدهم.

ظهور العباسيين

وفي الوقت الذي كان فيه مروان يقضي على الفتن والثورات ويعيد إلى الدولة هيبتها كان العباسيون يضعون الخطط الأخيرة للقيام بحركتهم للانقضاض على الدولة، منتهزين انشغال الدولة بالثورات التي انبعثت في معظم أنحائها وكلفتها ثمنًا غاليًا من الأموال والأرواح للقضاء عليها.

وكان العباسيون قد انتقلوا بعد مرحلة الدعوة السرية، وجذب الأعوان والأنصار إلى مرحلة العمل المسلح للقضاء على الأمويين، ولم تكن هناك فرصة مواتية أسنح مما كانت عليه الدولة الأموية في هذه الفترة، ولم يكن هناك مكان أصلح لبدء حركتهم من خراسان ملتقى أنصارهم وأعوانهم، وكانت هناك فتنة بين العرب اليمنية والمضرية ساعدت على إنجاح مهمة العباسيين، وفوق ذلك قاد ثورة العباسيين أبو مسلم الخراساني وهو رجل من أكفأ القادة وأمهرهم في ميادين القتال والحروب.

وفي غمرة انشغال مروان بن محمد بأحوال الدولة المضطربة فاجأته ثورة العباسيين في خراسان سنة (129هـ = 746م) وانتقلت كالسيل المنهمر براياتها نحو العراق مكتسحة كل قوة للأمويين أمامها ولم تنجح محاولة واحدة في إيقافها حتى دخلت الكوفة، وأعلنت قيام الدولة العباسية سنة (132هـ = 750م) ومبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة.

النهاية الحزينة

وفي أثناء ذلك كان مروان بن محمد يستعد للِّقاء الحاسم لاستعادة دولته ورد العباسيين، فتحرك بقواته من حران إلى الموصل، والتقى بالعباسيين عند نهر الزاب الكبير -أحد روافد دجلة-، ودارت بينهما معركة هائلة لم يستطع جيش الأمويين على ضخامته أن يحسمها لصالحه، فحلت بهم الهزيمة في (جمادى الآخرة 132هـ = يناير/ فبراير 750م)، وفرَّ مروان بن محمد من أرض المعركة، وظل ينتقل من بلد إلى آخر يستعين بالناس فلا يجد معينًا فقد أدبرت عنه الدنيا، وانصرف عنه الأنصار، وانتهت به الحال إلى مصر، فدخلها طلبًا للنجاة والعباسيون من ورائه يتعقبونه، حتى لحقوا به وقتلوه في قرية تسمَّى “زاوية المصلوب” التابعة لبوصير الواقعة جنوبي الجيزة في ( 13 من ذي الحجة 132هـ = 23 من يوليو 750م)، وبوفاته انتهت الدولة الأموية في المشرق، وقامت الدولة العباسية.


أحمد تمام