كان علم التاريخ الإسلامي عند نشأته يقوم على دراسة سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخبار الغزوات، وكانت المدينة المنورة مركز هذا النشاط؛ لكونها عاصمة الرسول والخلفاء الراشدين من بعده، ومكان تجمع الصحابة الكرام.

واعتمد المؤرخون الأول على الروايات الشفهية في تدوين السير والمغازي شأنهم في ذلك شأن أصحاب الحديث النبوي، وجمعت الكتب التاريخية الأولى بين الحديث والتاريخ، وكانت كتب المغازي والسير هي أظهر ما يمثل هذه الظاهرة؛ فقد دفع اهتمام المسلمين بحياة الرسول وأفعاله وأقواله إلى عكوف العلماء وعنايتهم بكتابة سيرته ومغازيه، وكان من الطبيعي أن تبدأ حركة التدوين في المدينة ملتقى الصحابة ومركز تجمعهم، وهم حملة العلم ومَن شهدوا مع الرسول دعوته وتابعوا حركتها ونموها وسطوعها.

وقاد الحركة التاريخية في مدرسة المدينة عدد من جهابذة العلماء وهم في الوقت نفسه من أبناء الصحابة، يأتي في مقدمتهم أبان بن عثمان بن عفان، وعروة بن الزبير بن العوام المتوفى (94هـ= 712)، ثم حمل الراية من بعدهم طبقة ثانية من العلماء انتهت زعامتها إلى محمد بن شهاب الزهري المتوفى (124هـ= 741م)، الذي يعد من أعظم مؤرخي المغازي والسيرة، ويرجع إليه الفضل في تأسيس مدرسة التاريخ في المدينة، وهو الذي أعطى السيرة النبوية إطارها الذي نعرفه إلى اليوم.

ثم تابع جهود “الزهري” نفر من تلاميذه منهم: موسى بن عقبة المتوفى سنة (141هـ= 758م)، ومعمر بن رشاد المتوفى سنة (154هـ= 770م)، ومحمد بن إسحاق المتوفى سنة (151هـ= 768م) وهو يعد أشهر تلاميذ الزهري، وإليه تنسب أقدم كتب السيرة التي وصلت إلينا.

وإلى جانب ابن إسحاق ظهر معاصر له كتب في السيرة هو أبو معشر السندي، واحتج الأئمة بتاريخه، ووصفه أحمد بن حنبل بأنه بصير بالمغازي، ومحمد بن عمر الواقدي الذي انتقلت إليه زعامة مدرسة المدينة وإن انتقل إلى العراق وعاش بها بقية حياته.

حياة الواقدي

ولد محمد بن عمر الواقدي في المدينة سنة (130هـ= 747م)، وأخذ العلم عن شيوخ عصره، فاتصل بمالك بن أنس، وأخذ عنه الحديث، وتتلمذ على يد سفيان الثوري وابن جريج ومعمر بن راشد وغيرهم، وكما أخذ المغازي والسير عن أبي معشر السندي، وظل عاكفًا على طلب العلم حتى نال شهرة واسعة في عصره، وعُد بعد ابن إسحاق في اتساع العلم بالتاريخ، بل فاقه في دقة المادة العلمية، والعناية بتحقيق الأحداث وتوضيح الإطار الجغرافي الذي يتصل بموقع الأحداث.

وحينما زار الخليفة هارون الرشيد المدينة في حجه سنة (170هـ= 786م) دلّوه على الواقدي، ليرشده إلى المواضع المقدسة في المدينة، ويحتفظ ابن سعد بخبر واف عن هذه الحادثة سجلها على لسان الواقدي في كتابه الطبقات الكبرى.

ولما ضاقت الحال بالواقدي وكان كريمًا لا يمسك مالاً في يده ذهب إلى بغداد سنة (180هـ= 796م)، ومنها إلى الرقة حيث كان الخليفة هارون في ذلك الوقت فأكرم وفادته. وفي عهد المأمون تولى قضاء الرصافة سنة (204هـ= 819م)، وكان الخليفة المأمون يثق به ويقدره. ويروى أنه حين تقدم منه ليسأله قضاء ديونه التي كان كرمه وسخاؤه يوقعانه فيها على الدوام؛ فكتب الخليفة على هامش الرقعة: فيك خلتان: سخاء وحياء؛ فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك على أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرنا لك بضعف ما سألت..”.

وكان الواقدي شغوفًا بجمع المعارف المنتشرة في عصره؛ فنسخ ما أمكن نسخه من الكتب التي أمكنه الحصول عليها، ويروى أنه ترك بعد وفاته أعدادًا هائلة من الكتب من نسخ غلامين مملوكين له كانا يكتبان له بالليل والنهار، وكانت هذه الكتب هي أساس نشاطه الأدبي الخاص الذي شمل ميادين عديدة.

منزلة الواقدي

ولا يختلف أحد على معرفة الواقدي الواسعة بالمغازي؛ فيقول الخطيب البغدادي: هو ممن طبَّق ذكره شرق الأرض وغربها، وسارت بكتبه الركبان في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات.

وكما أجمع العلماء على إمامته في فنون التاريخ أجمعوا على ضعفه في الحديث؛ فأعرضوا عن الرواية عنه، بل وبالغ بعض أئمة الحديث في اتهامه بالضعف. ومن أبلغ الأقوال التي حاولت إنصاف الرجل ما قاله الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء“: “وقد تقرر أن الواقدي ضعيف يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج. أمَّا في الفرائض فلا ينبغي أن يُذكر، فهذه الكتب الستة ومسند أحمد وعامة من جمع في الأحكام نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئًا، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يُكتب حديثه ويُروى؛ لأني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه”.

وقد تتلمذ على الواقدي كثيرون، منهم أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن يحيى الأزدي وسليمان من داود الشاذكوني وغيرهم، غير أن أشهر تلاميذه هو محمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى الملقب بكاتب الواقدي.

مؤلفات الواقدي

تضم قائمة مؤلفات الواقدي كتبًا كثيرة في الفقه والقرآن والحديث والتاريخ، وقد أوردها ابن النديم في كتابه الفهرست، مثل: كتاب غلط الحديث، كتاب السنة والجماعة وذم الهوى، كتاب الترغيب في علم القرآن. وتشمل كتبه في التاريخ أكثر من ثمانية وعشرين كتابًا يتركز معظمها حول العهد الإسلامي دون الجاهلية التي يبدو أنه لم يكن ذا دراية واسعة بها، ومعظم كتبه فقدت، مثل: أخبار مكة، يوم الجمل، صفين، مقتل الحسين، سيرة أبي بكر ووفاته، أمر الحبشة والفيل. وأهم كتبه هي:

– التاريخ الكبير، ويتناول فيه أحداث التاريخ الإسلامي الهامة حسب تاريخ وقوعها، ووصل فيه إلى أحداث سنة 179هـ، وقد حفظ الطبري في كتابه “تاريخ الرسل والملوك” مقتطفات من هذا الكتاب.

– كتاب الطبقات: وهو في تاريخ طبقات المحدثين في الكوفة والبصرة، وتظهر أهميته بما يكشف عن علاقة الحديث بالتاريخ منذ وقت مبكر، وعلى مثاله ألف تلميذه ابن سعد طبقاته المعروفة.

وينسب إلى الواقدي كتب فتوح الشام ومصر، وفتوح البهنسا وما فيها من العجائب وما وقع فيها للصحابة، وفتوح إفريقية. وهذه الكتب الثلاثة مطبوعة وتنسب خطأ إلى الواقدي؛ لأنه يلاحظ عليها أنها تحمل الطابع الأسطوري الذي لا يعرفه الواقدي، كما أن فيها إشارات إلى شخصيات من القرن السادس والسابع الهجريين، وهو ما يجزم بأن هذه الكتب في حالتها هذه التي وصلت إلينا ليست للواقدي.

كتاب المغازي

ولم يبق من كتب الواقدي التي تركها سوى كتابه “المغازي”، وقد نشر “فون كريمر” الثلث الأول منه في المكتبة الهندية، وطبع في كلكتا سنة (1273هـ= 1856م)، ثم نشر الكتاب كاملاً “مارسدن جونس” بدعم من جامعة أكسفورد.

والواقدي في كتابه المغازي لم يُعن كابن إسحاق بالفترات السابقة للإسلام، ولا بالعصر الجاهلي، وإنما عُني بالسيرة، وقد ذكر في أول كتابه مصادره الأساسية التي اعتمد عليها، وهي خمسة وعشرون اسمًا من شيوخه، ومعظمهم من أهل المدينة أو عاشوا فيها. وهذه القائمة المذكورة في بداية الكتاب لا تشمل جميع من روى عنهم الواقدي مباشرة، وإنما الذين اعتمدت عليهم روايته الرئيسية فقط.

ويُعنى الواقدي في كتابه بالتدقيق في التواريخ، ويهتم بإيراد نصوص الوثائق، مثل: بعض أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومعاهداته، ورسائله، ويكثر من الاستشهاد بالشعر، ولكن في قصد لا يبلغ حدود ابن إسحاق في عنايته بإيراد الشعر.

ويتبع الواقدي خطة ثابتة في عرضه المغازي؛ فيبدأ بذكر عام خروج الغزوة من المدينة ورجوعها، ثم يتبعه بأخبار الغزوة، وهي تتألف من خبر رئيسي واحد أدمج فيه بعض الأخبار، ويذكر في نهاية الغزوة في غالب الأحيان نائب النبي (صلى الله عليه وسلم) على المدينة في غيابه، وبعض الأشعار والآيات التي تحتوي على إشارة للحادث الذي يعالجه. ويهتم الواقدي بتحديد المواقع الجغرافية، حتى لقد بلغ الحرص به أن زار بعض تلك المواقع بنفسه.

وفاة الواقدي

ظل الواقدي موضع تقدير الخلافة العباسية؛ فأبقاه الخليفة في منصبه في القضاء حتى تُوفي في (11 من ذي الحجة 207هـ= 27 من إبريل 823م) كما بقي محل إكبار العلماء والمؤرخين، فأكثروا من الاقتباس من مؤلفاته كالطبري الذي روى كثيرًا عنه وبخاصة من كتابه التاريخ الكبير.

أحمد تمام


من مصادر الدراسة:

  • الذهبي: سير أعلام النبلاء- تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين- مؤسسة الرسالة- بيروت- (1402هـ= 1982م).

  • شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون- دار العلم للملايين- بيروت- 1983م.

  • أحمد أمين: ضحى الإسلام- مكتبة النهضة المصرية- القاهرة- 1956م.

  • السيد عبد العزيز سالم: التاريخ والمؤرخون العرب- مؤسسة شباب الجامعة- الإسكندرية- 1987م.

  • يوسف هوروفتس: المغازي الأولى ومؤلفوها- ترجمة حسين نصار- مطبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة- (1369هـ= 1949م).