09/06/2002

د. يوسف القرضاوي

بهاء الدين الأميري

تعرفت على الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، وأنا طالب في المرحلة الثانوية عن طريق مجلة “الشهاب” التي كان يصدرها الإمام حسن البَنَّا، ويديرها الداعية المحبوب سعيد رمضان، وذلك سنة 1948م، والتي لم يقدر أن يصدر منها غير خمسة أعداد، ثم اختار الله صاحب امتيازها ورئيس تحريرها شهيدًا إلى جواره سبحانه. وقد سنّت المجلة سنّة حسنة: أن تختم كل عدد بما أسمته “سجل التعارف الإسلامي”.

كان سجل التعارف يحوي في كل عدد صور مجموعة من العلماء والمفكرين والدعاة من مصر، ومن سائر أقطار العالم الإسلامي، وفي مقابل كل صورة: تعريف موجز مركَّز بشخصية صاحب الصورة وإشارات إلى مجمل سيرته.

وهدف المجلة: أن توجد رباطًا عاطفيًّا بين القراء وهؤلاء الأعلام حين يطلعون على صورهم وسيرهم.

وقد عُني سجل التعارف الإسلامي بالتعريف بعدد من الشخصيات الإسلامية السورية المرموقة، مثل الداعية الفقيه الدكتور مصطفى السباعي، والفقيه العلامة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا، والكاتب والمفكر الأستاذ محمد المبارك، والسياسي الفقيه الدكتور معروف الدواليبي، والكاتب الداعية الأستاذ أحمد مظهر العظمة أمين التمدن الإسلامي، والعلامة الشيخ محمد بهجت البيطار.

وكان من الصور التي نشرت في العدد الثالث: صورة عمر بهاء الدين الأميري، وهو شاب في مقتبل العمر، وكتبت المجلة تحته: المحامي بحلب، ووكيل الدعوة الإسلامية.

ثم ذكرت نبذة عنه في الصفحة المقابلة فقالت: سوري من صفوة أبناء حلب وُلِد سنة 1329هـ، وقضى بعض عمره المبارك في الدراسة بفرنسا، وتخرّج في “الحقوق السورية” سنة 1940م، وكان نجاحه منقطع النظير. واشتغل بالمحاماة مشترطًا على موكليه أن يتخلى عن دعاواهم إذا ظهر وجه الحق في غير جانبها! واشتغل بالحركة الإسلامية منذ نعومة أظفاره، وأسس مركزًا للدعوة الإسلامية في باريس، وهو شاعر مطبوع ومجاهد مؤمن.

هذه السطور الموجزة المضيئة فتحت قلبي الفتيّ البكر في ذلك الوقت للأميري صاحب المثل والمبادئ، الذي يتخلى عن قضية موكله إذا تبين له أن الحق مع خصمه، ولا يبالي بما سيخسر من مال في مقابل تنازله عن القضية.

كما أن وصف المجلة له بـ “الشاعر المطبوع” فتح قلبي له أكثر، فقد كنت معنيًّا بالشعر مشغولاً به في تلك المرحلة من عمري.

أول ما قرأت للأميري

وأذكر أني في ذلك العدد نفسه من مجلة “الشهاب” وفي باب “روضة الأدب” قرأت له -أول ما قرأت- شعرًا ربانيًّا عذبًا رقراقًا لم يكن لنا به عهد في ذلك الوقت، تحت عنوان “خماسيات الأميري” وفيها مناجاة لله تعالى كأنما تسمع فيها رفيف أجنحة الملائكة وكأنما هي ترتيلة أو صلاة مجسدة في شعر مؤمن أو إيمان شاعر، يقول الأميري:  

كلما أمعن الدجى وتحالك
شممت في غوره الرهيب جلالك!
وتراءت لعين قلبي برايا
من جمال آنست فيها جمالك!

وتراءى لمسمع العقل همس
من شفاه النجوم يتلو الثنا لك[1]
واعتراني تولُّه وخشوع
واحتواني الشعور: أني حيالك
ما تمالكت أن يخر كياني

ساجدًا عابدًا، ومن يتمالك؟[2]

هكذا بدأت معرفتي بالأميري شاعرًا، وهو لا شك في المقام الأول شاعر: شاعر بموهبته وشاعر بممارسته، ولكنه ليس شاعرًا سائبًا، إنه شاعر ذو رسالة. فليس الشعر عنده آلة لمديح الأمراء أو الكبراء، ولا لهجاء الخصوم والأعداء، ولا أداة للتعبير عن الغرائز الهابطة، إنه “شاعر الإنسانية المؤمنة” كما يحلو له أن يعبِّر عن نفسه، أو يعبر عنه عارفوه ومن يكتب عنه.

قصيدة (أب)

ومن قصائده الجميلة والرائعة التي قرأتها له قبل أن ألقاه: قصيدة “أب” التي نشرتها له مجلة “المسلمون” الشهرية التي كان يصدرها الأستاذ سعيد رمضان، وتصدر من خارج مصر، وهي في الحق من روائع الشعر العربي الحديث، كتبها وهو في مصيف “قرنابل” بلبنان، وقد سعد بأسرته وأولاده خلال الصيف، ثم انتهت العطلة ورحل الأولاد عنه وعادوا إلى حلب، وبقي الشاعر وحده في البيت الذي أصبح اليوم موحشًا كالقبر بعد أن كان بالأمس جنة وارفة الظلال، بما فيه من حياة وحركة وبركة وسعادة.

يقول الأميري في قصيدته:  

أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟

أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولة في توقُّدها؟
أين الدُّمى، في الأرض، والكتب؟
أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟
أين التشاكي ما له سبب؟
أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في
وقتٍ معًا، والحُزْنُ والطَّربُ؟
أين التسابق في مجاورتي
شغفًا، إذا أكلوا وإن شربوا؟
يتزاحمون على مُجالَستي

والقرب منِّي حيثما انقلبوا
فنشيدهم “بابا” إذا فرحوا
ووعيدهم “بابا” إذا غضبوا

وهتافهمْ “بابا” إذا ابتعدوا
ونجيُّهمْ “بابا” إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملءَ منزلنا
واليومَ -ويح اليومِ- قد ذهبوا
ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهمْ
في القلب، ما شطّوا وما قَرُبوا
إني أراهم أينما التفتت
نفسي، وقد سكنوا، وقد وثبوا
وأُحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ
في الدار، ليس ينالهم نصب
وبريق أعينهمْ إذا ظفروا
ودموع حرقتهمْ إذا غُلبوا
في كلِّ ركنٍ منهمُ أثرٌ
وبكل زاويةٍ لهم صَخَبُ
في النَّافذاتِ، زُجاجها حَطَموا
في الحائطِ المدهونِ، قد ثقبوا
في الباب، قد كسروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصَّحن، فيه بعض ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشَّطر من تفّاحةٍ قضموا
في فضلة الماء التي سكبوا
إنِّي أراهم حيثما اتَّجهتْ
عيني، كأسرابِ القَطا، سربوا
بالأمس في “قرنابلٍ” نزلوا
واليومَ قدْ ضمتهمُ “حلبُ”
دمعي الذي كتَّمتُهُ جَلَدًا
لمَّا تباكَوْا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
منْ أضلعي قلبًا بهمْ يَجِبُ
ألفيتُني كالطفل عاطفةً
فإذا به كالغيث ينسكبُ
قد يَعجبُ العُذَّال من رَجُلٍ
يبكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ
هيهات ما كلُّ البُكا خَوَرٌ
إنّي -وبي عزم الرِّجال- أبُ

لقد هزتني هذه القصيدة الفريدة لما احتوته من قوة التصوير وروعة التعبير، عن مشاعر الأبوة الحانية وعواطف الطفولة اللاهية ودقائق الخلجات النفسية التي قد تراها متناقضة الظاهر، منسجمة الباطن، وما فيها من صور حية رسمها الحرف الناطق والحس الصادق والشعر الرائق، المعبر -بسلاسة منقطعة النظير- عن أعمق أعماق المشاعر، وأحنى حنايا العواطف، في لغة جزلة وجمل عذبة وعبارات رشيقة وأسلوب أخاذ متدفق كالعذب الزلال والسحر الحلال.

وعرفت بعد ذلك أن الشاعر والأديب الكبير الأستاذ عباس العقاد كان من أشد المعجبين بهذه القصيدة، حتى قال عنها في ندوة من ندواته المعروفة، التي كان يعقدها في منزله بمصر الجديدة، في صباح كل جمعة، وكان ذلك في رمضان 1381هـ، قال: لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد، لكانت هذه القصيدة في طليعته!.

كما عرفت أنها ترجمت إلى الفرنسية، وقورنت بقصائد الشاعر الفرنسي الكبير “فيكتور هوجو” في الأطفال.

وقد نشرها الشاعر بعد ذلك في ديوانه “ألوان طيف” كما نشرها كذلك في ديوان “أب” مع تسع قصائد أخرى حول الأبوة والبنوة، وقد كتبه بخط يده، ونشر مصورًا كما هو بخطه الجميل، وقال في تقديمها: عشر قصائد من وحي الأبوة.. لوحات فيها مكابدة ومعاناة.. صور وجدانية.. متعددة متحولة، يعيش ألوانها وأكوانها: كل إنسان أب، وكل أب إنسان!.

ديوان “مع الله”

وقرأت للأستاذ الأميري ديوانه الرائع “مع الله” في طبعته الثانية، وقد تفضل بإهدائه إليّ في عبارات ثناء لا أستحقها: “هدية إخاء صادق في الله إلى الأستاذ الكبير المؤمن الشيخ يوسف القرضاوي، مع المودة والتقدير والدعاء إلى الله أن يجعلنا دائمًا معه، ويجمعنا على إعلاء كلمته”. بيروت في غرة شعبان سنة 1399هـ.

ومن حسناته: أنه كان يُصِرّ على استخدام التاريخ الهجري وحده فكل دواوينه وكل كتبه وكل رسائله إلى أصدقائه وكل إصداراته: مدون بالتاريخ الهجري، ولا شيء غيره. إنه ينطلق من الاعتزاز بالإسلام، ومن التمس العزة بغيره أذله الله.

وقد رغب إليّ أن أكتب كلمة عن هذا الديوان، فهو يعتد ويعتز بها. ليضمها إلى كلمات الأدباء والكتاب في الطبعة اللاحقة، ووعدته بتحقيق ذلك، وكنت أرغب بالفعل أن أكتب كلمة إضافية عن ديوان “مع الله” وعن شعر الأميري عامة، ولكن لم يسعفني القدر بتحقيق ما وعدت به ورغبت فيه فعسى أن يسامحني الأستاذ وقد لقي ربه، عليه رحمة الله ورضوانه، وعسى أن يكون في هذه الكلمة بعض الوفاء له.

كان ديوان “مع الله” صلوات وابتهالات، وترنيمات إلهية كأنها من مزامير داود، إنه شعر يحلق في آفاق السماء ويغوص في أعماق النفس ويسيح في جنبات الوجود، ويستحضر معية الله عز وجل في كل مكان وفي كل حين وفي كل حال: في ابتسام السَّحر.. في التماع القمر.. في تموُّج الغيوم.. في احتباك النجوم.. في الربيع الطلق.. في الخريف الحزين.. هو “مع الله” في سجود.. في شرود.. في وضوح.. في غموض.. في نزوة.. في نشوة.. في حزن شديد.. في جو سعيد.. في الأفق المديد.. في الغور البعيد.. “مع الله”.

وقد قدم الشاعر لديوانه بكلمات هي شعر منثور، أو نثر “مشعور” أو قبسات من نور تخاطب العقل والوجدان، وكل الكيان في الإنسان.

وبدأ الديوان برائعته “مع الله”.  

مع الله في سبحات الفكر

مع الله في لمحات البصر

مع الله في مضمن الكرى
مع الله عند امتداد السهر
مع الله والقلب في نشوة
مع الله والنفس تشكو الضجر
مع الله في أمسي المنقضي
مع الله في غدي المنتظر
مع الله في عنفوان الصبا
مع الله في الضعف عند الكبر
مع الله قبل حياتي، وفيها
وما بعدها عند سكنى الحفر
مع الله في الجد من أمرنا
مع الله في جلسات السمر
مع الله في حب أهل التقى
مع الله في ذكره من قد فجر
مع الله فيما بدا وانتشر
مع الله فيما انطوى واستتر

إلى آخر ما ذكره من ألوان ومجالات معيته في الله، وهي معية ملأت المكان والزمان والحس والفكر والضمير والوجدان.

وقد استقبل الأدباء والشعراء والدعاة والمفكرون ديوان “مع الله” بما يليق به من ترحيب وتنويه وثناء، حرص الشاعر وحرص الناشر على أن يسجله أو يسجل لبابه في ملحق كبير مع الديوان نفسه.

وحسبنا من هؤلاء ما كتبه الأستاذ العقّاد إلى شاعرنا من رسالة يقول له فيها: ديوانكم “مع الله” آيات من الترتيل والصلاة، يطالعها القارئ فيسعد بسحر البيان كما يسعد بصدق الإيمان.. وقد قرأت طائفة صالحة من قصائده، وسأقرأ بقيتها، وأعيد قراءة ما قرأته؛ لأنه دعاء يتكرر ويتجدد ولا يتغير، وثوابكم من الله عليه يغنيكم عن ثناء الناس، وإنه -على هذا- لثناء موفور وعمل مشكور، فتقبلوا مني شكره واغتنموا من الله أجره، وعليكم سلام الله ورضوان الله. دارج في 4-2-1960م.

لا أستطيع أن أتخير من هذا الديوان بعض قصائده فكلها خيار من خيار، ولكني أنتقي خماسيتين: إحداهما كنت قد قرأتها في مجلة “المسلمون” التي كانت تنشر بين الحين والحين بعضًا مما تنتقيه من قصائد الشاعر أو مما يرسل به إليها، فكان منه هذه القصيدة عن “الكعبة” يقول:  

الكعبة الشمّاء في مذهبي
قيمتها ليست بأحجارها
والقرب من خالقها ليس في
تشبث المرء بأستارها
قدسية الكعبة في جمعها
أمتنا من كل أقطارها
وأنها محور أمجادها
وأنها مصدر أنوارها
وكعبة المؤمن في قلبه
يطوف أنى كان في دارها

وهي في الديوان وقد كتب تحتها: مكة المكرمة 1 رمضان 1373هـ. يعني: أنه كتبها بجوار الكعبة البيت الحرام وفي ظلال شهر رمضان، فاجتمع عليه بركات المكان والزمان ونفحات الإيمان والقرآن.

والأخرى: خماسية “سبحان ربي الأعلى” وفيها يقول:  

أيٌّ سر يودي بدنيا حدودي
كلما همت في تجلّي سجودي
كيف تذرو (سبحان ربي) قيودي
كيف تجتاز بي وراء السدود
كيف تسمو بفطرتي ووجودي
عن مفاهيم كوني المعهود
كيف ترقى بطينتي وجمودي
في سماوات عالم من خلود
أتراها روحًا من المعبود

قد جلت ذاتها لعين شهودي!

وهي في الديوان. وكتب تحتها: كراتشي 24 من رمضان سنة 1371هـ.

وهكذا نجد النماذج الأخرى من شعر الأميري، وكلها تمضي في هذا الاتجاه الإيماني الرقراق، تعلو بالإنسان درجات بدل أن تهبط به دركات.

الشعر الإنساني

وله -بجوار الشعر الرباني- سبحات ونفحات في الشعر الإنساني، الذي تتجلى فيه عواطف الإنسان من حيث هو إنسان ومن حيث هو أب كما في ديوان “أب”، ومن حيث هو ابن كما ديوان “أمي”، ومن حيث هو إنسان ذو قلب كما في ديوان “ألوان طيف”.

ومن جميل شعره في ديوان “أب”:  

مالك يا قلبي.. على الدروب..!!
تبحث.. عن كل حشا منكوب!!
تصنع من أناته وجيبي…!
هل أنت يا قلبي.. أبو القلوب؟!

ومن أبياته المؤثرة في ديوان “أب”:

ويذود عن عبي الكرى      هـمّ.. وهـم.. ذو رنين!

هـمّ الثمانية الـصغا       ر، وبعد.. تاسعهم جنين!

ومن المشاعر الإنسانية التي تحسها وتلمسها في شعر الأميري: الشعور بالغربة عن بلده وأهله وولده سنين طالت، فهو في الغرب وهم في الشرق.

يقول في إحدى قصائده:

أنا في امتدادات الأذانـــــــ كان فـي نسبي رباح

أنا في الرباط وفي الرياضـــ وليس عن حلبي براح!

واقرأ معي هذه الأبيات، وقد هلَّ عيد الفطر عليه وهو في غربته عن بلده وولده، وهو في جهاده.. بعث إلى أولاده بهذه الأبيات؛ لتنوب عن تحية العيد:

يا فرع القلب وراء البحار

في القلب نور من هواكم ونار

ذكرتكم في العيد، في غربتي

والعبء مضن، وهمومي كبار

فأظلم القلب، وضج الهوى
في كل ذرات كياني وثار
ثم ذكرت الله في حبنــا
افتراقنا، وهو لنا خير جار
تهش روحي، واطمأن الرضا
في غور إيماني، وقلبي استنار

وبجوار الشعر الإيماني، والشعر الإنساني للأميري، نجد الشعر الجهادي، وكله أو جله يصبّ في قضية الأمة المركزية والمحورية، وهي قضية الأقصى قضية أرض الإسراء والمعراج قضية فلسطين، وقد أصدر عدة دواوين في ذلك مثل: ملحمة الجهاد، وملحمة النصر “شعر من وحي معركة العاشر من رمضان 1393هـ”، ومن وحي فلسطين “شعر وفكر”، وحجارة من سجيل.. وقد صدر بعد انتفاضة أطفال الحجارة، الانتفاضة الأولى التي انطلقت أول ما انطلقت من مساجد غزة، وأطلق عليها في أول الأمر اسم “ثورة المساجد”!.

وقفة مع شعر الأميري

وإذا كان بعض الشعراء يخلد إلى الأرض وينزع إلى الطين والحمأ المسنون، فإن الأميري يحلق بشعره على أجنحة ملائكية إلى آفاق علوية.

وإذا كان منهم من استغرقه الحس وسجنه الجسد في قفصه، فإن الأميري قد سما بشعره إلى فردوس الروح وسماء الربانية، وتحرر من قبضة الجسد الحديدية، بفضل ما منحه الله تعالى من رحيق الإيمان وفيض الروح المشرق بنور اليقين.

لقد جعل الأميري للعرب “إقبالاً” كما للهنود “إقبالهم”، وأحيا شعر “الحب الإلهي” في لغة جزلة عذبة معاصرة، تخاطب الكينونة الإنسانية كلها: عقلاً وروحًا وعاطفة وضميرًا، ولا تخاطب “الإنسان الجسد” وحده، كما يفعل بعض الشعراء المعاصرين، الذين اختصروا الإنسان في المرأة واختصروا المرأة في الجسد، واختصروا الحياة في اقتناص اللذات واتباع الشهوات.

لهذا كان أحب الأوصاف والألقاب إلى شاعرنا: لقب “شاعر الإنسانية المؤمنة”. فهو شاعر الإيمان وشاعر الإنسان.

لقد قارن بعض النقّاد بين الأميري وابن الفارض.. لكن لابن الفارض نهجًا آخر غير نهج الأميري، وهو أنه يستخدم لغة الغزل الصريح وقاموس العشاق، وينزلها على الذات الإلهية، وهذا قد يجيزه مَن يجيزه ويرفضه من يرفضه، كما أن شعره يطفح بإشارات إلى “وحدة الوجود” كما نراه في “تائيته” الشهيرة.. أما الأميري فهو يسلك إلى الله طريق التأمل في النفس وفي الآفاق والتجاوب مع الوجود المسبّح بحمد الله سبحانه.

على أن شعر الأميري -كغيره من الشعراء- ليس كله في مستوى واحد، فهو أحيانًا يحلق ويعلو فيسبق سبقًا بعيدًا ولا يلحق بغباره أحد.. وأحيانًا ينزل عن هذا الأفق الرفيع.

وهذا طبيعي عند كل الشعراء، فمن الشعراء من يبدع ويتفوق في قصيدة واحدة ثم لا تجد له شعرًا في مستواها، ومنهم من يكون أكثر شعره عاليًا، ومنهم الأميري. وحتى القصيدة الواحدة تكون بعض أبياتها أميز من بعض، حتى إن العرب تعوّدوا أن يقولوا عن بيت معين من قصيدة تألق وعلا: إنه بيت القصيد!.

بدايات لقائي بالأميري

أما أول ما عرفت الأميري وجهًا لوجه كان سنة 1960م حين دعاه الأستاذ محمد البهي المدير العام لإدارة الثقافة الإسلامية بالأزهر لإلقاء محاضرة بالموسم الثقافي للأزهر، في قاعة الشيخ محمد عبده، وكان الدكتور البهيّ قد سنّ هذه السنة الحسنة، وعمَّر قاعة الشيخ محمد عبده، التي كانت شبه مهجورة، وحفلت المواسم بعدد من رجال العلم والفكر والأدب والدعوة من مصر ومن غيرها من أقطار العروبة والإسلام.

ووكل إليَّ الدكتور البهي أن أقوم بتقديم الأستاذ الأميري، فقد كان مسافرًا في مهمة لا أتذكرها. وكان موضوع المحاضرة عن “العروبة والإسلام”، وقد قدمته بما يليق به، كما علقت على محاضرته بما يناسب المقام، ولم يكن الأستاذ الأميري يعرفني ولكنه فوجئ بتقديمي وتعقيبي على محاضرته فشد انتباهه، وصافحني بحرارة ومودة.

وأذكر مما قلته في التعقيب: إننا وجدنا في هذه المحاضرة مزيجًا من تحليق الشاعر، ودقة القانوني، وحصافة الدبلوماسي، وعمق الباحث، وحرارة الداعية، تتلاحم جنبًا إلى جنب. فأعجبته هذه العبارات التي لخصت كل فضائل المحاضر وصفاته؛ فهو قانوني وسفير وشاعر وباحث وداعية حقًّا.

ومنذ ذلك اليوم انعقدت بيني وبين الأميري مودة صافية وأخوة عميقة لم تزدها الأيام إلا قوة، وإن كنت لا ألقاه إلا في مناسبات معينة.

لقاءات في بيروت

وحين أُعرت من مصر إلى قطر سنة 1961م وطُلب هو بعد ذلك إلى المغرب؛ ليعمل أستاذًا لكرسي “الإسلام والتيارات المعاصرة” في دار الحديث الحسنية بالرباط، وقسم الدراسات الإسلامية العليا في جامعة القرويين، كما درس الحضارة الإسلامية في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس في فاس، ولكن كثيرًا ما كنا نجتمع في بيروت، وبخاصة عندما ساءت الأحوال في مصر وجر الإخوان إلى محنة قاسية رغم أنوفهم سنة 1965م، فانقطعت عن مصر تسع (9) سنوات كاملة، وكنت أذهب في الإجازات السنوية غالبًا إلى لبنان، نستمتع بجبالها ومصايفها الجميلة وحرية الحركة فيها، وكانت هذه فرصة لألتقي بالشاعر الكبير، فهو أيضًا لم يكن يستطيع الذهاب إلى سوريا ومدينته حلب الشهباء، وكنا نلتقي بكثير من الإخوة السوريين الذين يعانون مثل ما يعاني الأميري، مثل الأستاذ عصام العطار حفظه الله، والشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله، والأستاذ محمد المبارك رحمه الله.

الأميري في قطر

وحين أنشئت كليتا التربية للبنين والبنات -نواة لجامعة قطر- سنة 1973م وكلفت برئاسة قسم الدراسات الإسلامية، وكان عميد الكلية أو الكليتين: الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم كاظم الذي كان صديقًا للأستاذ الأميري، كما كان صديقًا لي، اقترحت عليه أن ندعو الأميري أستاذًا زائرًا؛ ليحاضر طلابنا وطالباتنا في مقرر نطرحه عليهم، وهو: “المجتمع الإسلامي” وكانت مدة الزيارة عادة شهرين، فكانت هذه فرصة للتلاقي وتوثيق الأواصر بيننا.

وقد كان الرجل محببًا لطلابه وطالباته، لما يحمله بين جنبيه من رقة طبع ودماثة خلق وسعة أفق وتجربة واسعة في الحياة. وما يحمله في جعبته من طرائف أدبية ونوادر اجتماعية وسياسية.

وفي هذه المحاضرات شرع يدعو إلى فكرته حول “الفقه الحضاري” الذي يفتقر إليه المسلمون في هذا العصر، بجوار الفقه التقليدي الذي يعنى بمعرفة الأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وهو الذي تعنى به كليات الشريعة والحقوق، وتقوم عليه مجامع الفقه الإسلامي المعروفة.

ومن اللطائف التي تذكر هنا: أنه اتصل مرة بهاتفي في المنزل، وكان رقمه سهلاً حفظه الناس، حتى إنهم كانوا يتصلون بي في النهار والليل، والصباح والمساء، وهو (22522)، وقد ردت عليه ابنتي الصغرى، وسأل عني فلم يجدني، فأملى عليها هذه الشطرات:

يا خمسة تحفها المثاني     ويا خليلاً ما له من ثان

يبعد عني وهو مني دان    وكلما واصلته جفانـي!

فلما عدت إلى البيت ذكرت لي ابنتي ما أملاه عليها، فطلبته وقلت له: وهل أستطيع أن أجفوك؟ وهل يجفو الخليل خليله؟.

لقاءات في مؤتمرات وندوات

وبعد ذلك التقينا مرارًا وتكرارًا في مؤتمرات وندوات عامة، ولقاءات خاصة في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وعمّان والإمارات والكويت والمغرب والجزائر، وغيرها. وإن كان هو قد اختار المغرب مقامًا له، وأنس بأهله وأنسوا به، حتى إننا كثيرًا ما رأيناه بالزي المغربي التقليدي، وربما ظن من لم يعرفه أنه مغربي قحّ.. وإن كان لا يزال يحن إلى حلب مرتع صباه وشبابه، ومجمع أُلَفائه وأحبائه، ويذكرها في شعره كلما جاءت مناسبة.

وقد التقينا على مائدة غداء في عمَّان دعانا إليها بلديُّه وصديقه الأستاذ ناظم القدسي رئيس جمهورية سورية الأسبق، وكان معنا الأستاذ مصطفى الزرقا، والشيخ محمد الغزالي، رحم الله الجميع.

وكثيرًا ما كان يحدثنا الأميري عن ذكرياته الغزيرة والحافلة بالمواقف في البلاد التي زارها، والبلاد التي عمل فيها سفيرًا لسوريا، مثل الباكستان، والمملكة العربية السعودية.

والذين يعرفون الأميري يعلمون أنه لم يكن مجرد سفير لسوريا، بل كان سفير الأمة الإسلامية، أو قل: كان سفير الإسلام، الذي يحمل هموم دعوته، وآلام أمته، وآمال صحوته.

معًا في الجزائر

وقد التقينا معًا في الجزائر سنة 1989م – 1990 حينما أعرت من قطر إلى جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، وإلى وزارة الشؤون الدينية بالعاصمة، وكان هو في زيارة خاصة للجزائر في ذلك الوقت.

وكم حاولنا معًا التقريب بين جبهة الإنقاذ والجماعات الإسلامية الأخرى، من أجل المصلحة الإسلامية الكبرى، مثل جماعة “حماس”: وجماعة “النهضة” ولكننا لم نفلح للأسف الشديد، وغلب الحمق على الحكمة، والمراهقة على الرشد.

وأعتقد أن المسؤول الأول عن هذا الإخفاق هو “تصلُّب” إخوتنا في جبهة الإنقاذ، الذين لم “يلينوا” بأيدي إخوانهم؛ ليستوي الصف، ويتلاحم، ويقف جميع الإسلاميين كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضًا.

مذكرات الأميري

وطالما طالبت الأستاذ الأميري أن يهيئ مذكراته للنشر، فقد كان له مواقف عدة، وتجارب شتى، ولقاءات جمة بكثير من الشخصيات المهمة، من لقاءات بالملوك والرؤساء والأمراء والوزراء، وكبار الدعاة والمجاهدين من الخليج إلى المحيط، بل من المحيط إلى المحيط، أعتقد أن فيها دروسًا وعبرًا، فقد كان “رجل علاقات” من الطراز الأول، كأنما خلق ليكون سفيرًا. وكان يحسن الحديث مع الزعماء والكبراء، كما يحسنه مع عامة الناس، وكان في بعض الأحيان يتحمس لذلك، وفي أحيان أخرى تخمد الجذوة، وتفتر الهمة، ثم اشتد عليه المرض، فناء به الجسد، ووافاه الأجل المحتوم في الرياض، ولقي ربه راضيًا مرضيًّا، إن شاء الله تعالى.

الكتابات النثرية للأميري

وللأستاذ الأميري كتابات نثرية غطت عليها دواوينه الشعرية، فله عدد من المحاضرات والرسائل والكتب الصغيرة في الحجم، التي كتبها في مناسبات شتى، وأودعها رؤيته وأفكاره في إصلاح أمة العرب والإسلام، والرقي بها.

وكان يركِّز في سنواته الأخيرة على ما سماه “الفقه الحضاري” وهو من الفقه الغائب عن الأمة، وقد أنصف الأميري وأحسن في الدعوة إليه، والتركيز عليه، وإن لم يبين لنا معالمه وملامحه. وقد حاولت في كتابي “السنة مصدرًا للمعرفة والحضارة” إلقاء شعاع على هذه المعالم لهذا الفقه المنشود، مع ألوان الفقه الأخرى: فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف، وفقه الواقع.

وترك وراءه ذكرًا طيبًا، وعلمًا نافعًا، وذرية صالحة تدعو له، وتلاميذ في أقطار شتى في المغرب والمشرق، تترحم عليه، وشعرًا عذبًا يتحدث عنه، تمثل في عدة دواوين، منها الكبير ومنها الصغير، أعظمها: ديوانه “مع الله”.

وقد ترك من الآثار النثرية:

– الإسلام في المعترك الحضاري.

– المجتمع الإسلامي والتيارات المعاصرة.

– في رحاب القرآن (الحلقة الأولى: في غار حراء).

– في رحاب القرآن (الحلقة الثانية: عروبة وإسلام).

كما ذكر في بعض كتبه أن لديه آثارًا مخطوطة، منها دواوين شعرية، ومنها بحوث ومذكرات:

– في الفقه الحضاري.

– الخصائص الحضارية في الإسلام.

– صفحات للتاريخ ـ من الذاكرة والمذكرات.

– أحاديث في المغرب.

– حوار عن فلسطين.

نرجو من الابن الأكبر للأميري: البراء وإخوته أن يعدوها للنشر، عسى أن يجد فيها القراء -وسيجدون إن شاء الله- ما ينفعهم.

رحم الله الأميري وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي العاملين الصادقين.

اقرأ أيضًا:


[1] في ديوان (مع الله) عدل الشاعر (لمسمع العقل) إلى: (لمسمع الروح) دلالة على أنه كان يسعى إلى تحسين الصياغة أبدا.

[2] عدل الشاعر: (ساجدا عابدا) إلى: (ساجدا واجدا) كما في الديوان.