إن المعطيات العلمية في القرآن والسنة في مختلف فروع العلم متعددة ومتنوعة وتتجه كلها لإقرار حقيقة واحدة كبرى، هي سنة الله تعالى في خلقه وتقديره في ملكوته. وليس في حقائق العلوم شيء إلا وله في القرآن العظيم أصل، وله في السنة المشرفة أساس. والعلم الباحث في هذا النطاق يسمى بعلم الإعجاز العلمي. والمقولة الأساسية لهذا العلم أن كل حقيقة علمية هي في الأصل حقيقة قرآنية، وأن الوحي الإلهي في القرآن والسنة قد يسرا تفسير هذه الظواهر الكونية والعلمية لاجتهاد المتخصصين من العلماء على مر العصور. وبقدر ما يتضمن هذا العلم من فوائد جمة بقدر ما يتضمن المخاطر العظيمة أيضاً. كيف هذا؟

مقـــدمة

إن المعطيات العلمية في القرآن والسنة في مختلف فروع العلم متعددة ومتنوعة وتتجه كلها لإقرار حقيقة واحدة كبرى، هي سنة الله تعالى في خلقه وتقديره في ملكوته. وليس في حقائق العلوم شيء إلا وله في القرآن العظيم أصل، وله في السنة المشرفة أساس؛ كما قال تعالى: “ما فرطنا في الكتاب من شيء” (الأنعام: 38).

وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: “جميع ما يقوله البشر من حق، تفسيراً للسنة النبوية المشرفة، وجميع ما تقوله السنة المشرفة تفسيراً لما هو موجود في القرآن الكريم. من هذا تفهم أن كل حقيقة علمية هي في الأصل حقيقة قرآنية، ويسر الوحي الإلهي في القرآن والسنة تفسير هذه الظواهر الكونية والعلمية لاجتهاد المتخصصين من العلماء على مر العصور. ففي كل عصر يجد الناس علماً جديداً لم يكن فهمه متاحاً لمن سبقهم من الناس في عصور مضت. وسيظل القرآن والسنة رسالتين متجددتين للناس جميعاً منذ لحظة التنزيل وإلى يوم القيامة.

ومن البديهي في مجال الإعجاز العلمي أن يتركز البحث في الإشارات العلمية التي ذكرت في أكثر من ألفي آية قرآنية وفي الأحاديث النبوية ذات الطابع العددي، فضلاً عن الإعجاز اللغوي والبياني والتاريخي. وهنا يجب الالتفات إلى أصل بالغ الأهمية: فما جاء في الشرعيات قد وضح الحق فيه تماماً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل التحاقه بالرفيق الأعلى. لذلك فهي خارج مجال البحث العلمي، إلا فيما يخص الإعجاز في: أسلوب التشريع، وتطبيقه، والإبداع العلمي في العبارات والمعاملات. وقد قال ابن عطية في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: “إن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحاط بالكلام كله علماً، فإذا ترقبت اللفظة في القرآن الكريم تجد أن الله علم أي لفظة تصلح أن تلي سابقتها، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره”.

والذي يتدبر القرآن الكريم يجد كل سورة مرتبطة بالسورة التي بعدها وبالسورة التي سبقتها. كما أن آخر سورة مرتبطة بالسورة التي قبلها وبأول سورة في القرآن الكريم. والآيات الكريمة في أي سورة من السور مرتبطة ببعضها البعض في المعنى ارتباطاً كاملاً. ونفهم من كل ذلك أن القرآن الكريم متصل ببعضه اتصالاً وثيقاً.

أما الأسلوب البلاغي في الوحي الإلهي فهو أسلوب بلاغي معجز، يعجز أن يأتي بمثله البشر، ويجد علماء اللغة فيه أوجهاً لا حصر لها من وجوه الإعجاز العلمي، وهذا باب آخر من أبواب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. ومن إعجاز القرآن والسنة أنه جاء بكليات العلوم مجتمعة في كلماته، وترك تفصيلاتها لفكر الإنسان في كل عصر من العصور بقدر ما آتاه الله من علم. ومن أهم الأمور في منهج دراسة الإعجاز العلمي عدم فصل الحقائق العلمية المذكورة في الآية الكريمة عن مقصد الهداية الدينية فيها، والتي هي لخير الإنسان في الدنيا والآخرة.

والدارس للوحي الإلهي يجد أن الحقائق العلمية قد صيغت في أسلوب بلاغي معجز، فهم الناس منه في كل عصر من العصور السابقة على قدر علمهم، فلم ينكروا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية شيئاً. إلا أن الوحي الإلهي لم يوافق الناس على خطأ معتقداتهم العلمية قديمًا، حيث كان كل من القرآن والسنة يذكران الحقائق العلمية الصحيحة، ولم يغادرا منها شيئاً، حتى إذا جاءت عصور العلم وجد الناس أن ما اكتشفوه من الحقائق العلمية مذكوراً في القرآن والسنة، فلم ينكروا من القرآن والسنة شيئاً. وهذا الأسلوب البلاغي في صياغة الحقائق العلمية في القرآن والحديث النبوي من أعجب أوجه الإعجاز العلمي والبلاغي.

ومن أمثلة ذلك اللون الفضفاض زمنياً من الإعجاز أنه عندما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجم في السماء، وقال: “أتدرون ما بينكم وبين هذا النجم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينه خمسمائة عام”. فهم الناس قديماً من الحديث الشريف أن المسافة بين الأرض وذلك النجم قدر ما يسير راكب الدابة خمسمائة عام، حتى إذا جاءت عصور العلم الفضائي المتقدم علم الناس أنها خمسمائة سنة ضوئية، ولقد أشار الحديث الشريف إلى ذلك تلميحاً، إذ يستحيل الوصول إلى نجم في السماء على ظهر دابة.

ومن أمثلة ذلك أيضا قول الله عز وجل: “وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم” (يس: 38)، فهم الناس من الآية الكريمة الحركة الظاهرية للشمس فهي تجري أمامهم في السماء من المشرق إلى المغرب كل يوم، فلم ينكروا من الآية الكريمة شيئًا، حتى إذا جاءت عصور العلم واكتشف العلماء حقيقة جري الشمس في السموات وجدوا أن الآية الكريمة تذكره صحيحاً، فلم ينكروا من الآية الكريمة شيئاً.

وما ذكرت الحقائق العلمية في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمجرد السرد العلمي، وإنما ليستدل بها قارئ الآية أو الحديث على حقيقة أخرى تدل على قدرة الله تعالى في خلقه أو على رحمته بعباده، أو تدل على حقيقة وجود الله تعالى ووحدانيته، أو ليتخذ الإنسان منها بطريق القياس والاستنباط، الدليل على حقيقة غيبية مثل حقيقة البعث بعد الموت، مثل قول الله عز وجل: “يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْميِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُون” (الروم: 19). فالآية الكريمة تلفت نظرنا إلى حقيقة دورة الحياة والموت التي تتدفق أمامنا في الدنيا في صورة العمليات المتعددة لإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي في عالم النبات وعالم الأحياء جميعاً، وفي إحياء الأرض بعد موتها بنزول المطر عليها، فيسهل علينا بطريق الاستدلال العلمي التعرف على حقيقة الحياة بعد الموت يوم القيامة. واستقرار الإيمان بها في القلب عن طريق العقل، وهذا أفضل الإيمان، فالذي صدق معنا فيما نرى ونعلم في الدنيا صادق معنا فيما لا نرى ولا نعلم في الآخرة. ومن ذلك نفهم – يقيناً – أن بيان الإعجاز العلمي في أية آية قرآنية أو حديث نبوي من دون ربطه بالهداية الدينية التي تعقب بها الآية والحديث يعد بياناً ناقصاً منا أو بحثاً غير مكتمل.

وثمة مثل آخر في سورة الأنعام، حيث نقرأ أربع آيات في صدر كل آية منها حقيقة علمية تستعرضها الآية ونراها في حياتنا الدنيا، وتعقب على كل منها بحقيقة كونية وهداية دينية. يقول الله عز وجل في سورة الأنعام 95-98: “إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون” (الأنعام: 95).

“فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم” (الأنعام: 96).

فكل ما تراه من تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر ليست من تلقاء نفسها كما يفهم الوجوديون. ولكن ذلك تقدير العزيز العليم، إنها حقيقة كبرى يجب ألا ينساها العلماء.

“وهو الذي جعل النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون” (الأنعام: 97). والآيات هنا هي الآيات الكونية التي فصلها الله تعالى لقوم يعلمون.

“وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون” (الأنعام: 98).

كما أن في الحديث الشريف آلاف الأمثلة التي تذكر حقيقة علمية كونية ليتخذ العلماء منها دليلاً عن طريق الاستدلال العلمي على قدرة الله عز وجل ووحدانيته، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “أتدرون أين تذهب الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: إن هذه تجري حتى تستقر ساجدة تحت العرش”… إلخ الحديث الشريف، وهو تفسير لقول الله عز وجل: “والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم” (يس: 38)، فالحديث الشريف تفسير للقرآن الكريم وامتداد له؛ لأن كليهما وحي من الله تعالى لرسوله.

وكان الاعتقاد من قبل أن الشمس ثابتة في الفضاء، إلى أن اكتشف علماء الفلك في عصر العلم الحالي أن الشمس تجري في الفضاء بسرعة أكثر من ألف ميل في الدقيقة الواحدة. فإذا ما تكلم العلماء في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في ذكر حقيقة علمية كونية لم تُعرف إلا حديثاً جداً فينبغي أن يردوا ذلك ليس إلى قوانين الطبيعة من تلقاء نفسها، ولكن إلى قوانين ونظم كونية هي من تقدير العزيز العليم، ولا للجميع من أن يدركوا أن الشمس أينما ذهبت فسيظل شأنها شأن أي خلق في السموات والأرض: أنها ساجدة عابدة لله عز وجل تحت العرش. لأن السماوات والأرض جميعا تحت العرش. والله تعالى يقول: “ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس…” (الحج: 18).

الاستدلال العلمي

ونصل إلى الحقائق العلمية إذا أجبنا على السؤال: ما هذا الذي أرى أمامي من سنن الله الكونية؟ وهذا يؤدي بالباحث إلى معرفة الحقيقة العلمية، وهذا ما تشير إليه الحقائق العلمية المذكورة في القرآن والسنة. أما الهداية الدينية فيهما فهي إشارة إلى سؤال آخر هو: كيف حدث هذا الذي أرى؟

والإجابة على هذا السؤال تؤدي بالباحث إلى معرفة الخالق تعالى والإيمان به: أي أن البحث العلمي في الإعجاز العلمي ينبغي أن يكون على مرحلتين وليس مرحلة واحدة.

المرحلة الأولى: النظر في الكون (ما هذا الذي أرى؟). وباستعمال الاستدلال الاستقرائي نصل إلى معرفة الحقيقة العلمية والقوانين التي تحكمها. لكن هذا الأمر في العلوم الظاهرة. وعند هذه الدرجة توقف العلماء وغير المؤمنين. وفيهم يقول الله عز وجل: “يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون” (الروم: 7): أي هم عن العلم بالآخرة والعمل لها غافلون، فلفظة “هم” الثانية تفيد أن الغفلة منهم هم، وإلا فأسباب التذكر حاصلة ومتاحة في الآيات والأحاديث، ولكنهم هم الغافلون، فهم قد شُغلوا بالوسيلة، وغفلوا عن الغاية.

المرحلة الثانية: التفكر في الإجابة على السؤال: كيف حدث هذا الذي أرى؟ وبواسطة الاستدلال القياسي يصل الباحث إلى معرفة خالق هذه الحقيقة: أي يصل إلى الإيمان بالله تعالى. من هنا نفهم أنه لا يجوز مطلقاً الفصل بين البحث في الحقائق العلمية المذكورة في الآية أو الحديث عن الهداية الدينية فيهما، وإلا كان البحث ناقصاً ودراسة غير مكتملة.

 

الإشارة إلى المنهج العلمي في الإعجاز العلمي في أول سورة

لقد قال الله تعالى في أول سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: “اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق: 1-5). ففي هذه الآية أمر بالقراءة مرتبة، وذُكر العلم ثلاث مرات، وبين القراءة والعلم كان الخلق، إشارة إلى أن الخلق إنما كان على علم. وذكر القراءة الأولى أمراً بالقراءة في كتاب الله المنظور: وهو الكون، وأمر بالقراءة ثانياً في كتاب الله المسطور: وهو القرآن الكريم. فقدم مطالبة الكون على قراءة القرآن، وهذا يشير إلى أنه ينبغي على الإنسان المزمن أن يؤدي عبادته في المسجد صلاة لله تعالى: ثم يخرج من المسجد إلى صلاة أخرى لله تعالى في المعمل أو المرصد أو المختبر فهذه صلاة أخرى لله عز وجل في محراب العلم، فالتدبر العلمي في سنن الله الكونية يجب أن تكون متصلة بتدبر آيات الله في كتابه العزيز، وهذا هو أساس المنهج العلمي لبيان الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

اختلاف وجهات النظر في بيان الإعجاز العلمي

وهناك أمر آخر: وهو أن اختلاف وجهات النظر في بيان الإعجاز العلمي في آية معينة أو حديث معين لا يدل على خطأ في بعض وجهات النظر، بل ربما تكون كلها صحيحة، وذلك أن كلمات الله تعالى ووحيه في الحديث النبوي الشريف تتصف بالإحاطة والشمول. كما أنها كالجواهر لها أوجه متعددة، إذا نظر الإنسان إلى أي وجه من أوجهها، رأى علماً عظيماً، وكلها أوجه متعددة وصحيحة لجوهرة واحدة هي الوحي الإلهي في القرآن والسنة. ولا يرى إنسان أوجه الجوهرة كلها إذا نظر إليها من زاوية واحدة؛ لذلك لا يعرف أوجه الحقائق في كلمة واحدة من الوحي الإلهي إلا فريق من العلماء كل منهم يبحث في وجه واحد من وجوه العلم، ثم إن ما يصلوا إليه جميعاً لا يكون بجانب علم الله المكنون في الكلمة شيئاً مذكوراً.

إن القرآن والسنة كانا ولا يزالان عرضة للهجوم والتشكيك من قبل أعداء الإسلام في كل عصر من العصور. وبيان الإعجاز العلمي في القرآن والسنة أمر ملح في عصرنا هذا. فإن الحقيقة العلمية التي لم تعرفها العلوم البشرية إلا في عصر العلم الحديث، وجاء ذكرها في القرآن العظيم أو السنة المشرفة، لابد أن يقوم دليلاً محسوماً وبرهاناً ساطعاً عند كل ذي عقل على أن خالق هذه الحقيقة هو الذي أنزل هذا القرآن على عبده ورسوله. ولو كان القرآن من وضع البشر، لذكر الأخطاء العلمية التي كانت شائعة في عصر نزول القرآن، وما أكثرها.

أما أن يرفض القرآن والسنة هذه الأباطيل العلمية التي كانت موجودة وسائدة يوم نزل الوحي، ويأتي بحقائق علمية لم يكتشف العلم البشري إلا جانباً منها في عصر العلم الحالي، فإن ذلك يضع أي متشكك أو ضال أو منكر أمام أحد خيارين: إما أن يؤمن بأن القرآن والسنة وحي من عند الله تعالى لرسوله، وإما أن يتخلى عن الفهم السليم.

الإعجاز العلمي بين المؤيدين والمتحفظين

ينادي بعض المفكرين المسلمين بوجوب الابتعاد عن مجال الدراسة في التفسير العلمي للقرآن الكريم، حتى أن بعضهم يعتبر ذلك بدعة، وحجتهم في ذلك أنه لا ينبغي أن نفسر الإشارات العلمية في القرآن العظيم على ضوء العلم الحديث؛ لأن القرآن أسمى من كل علومنا، ولأن علومنا مهما تقدمت فستظل قاصرة عن فهم ما في كلمات القرآن من حقائق كونية، لأنه لا يحيط بها إلا الله تعالى. وقالوا: قد تفسر آية تفسيراً علمياً بنظرية علمية، ثم يأتي العلم بعد ذلك ويثبت خطأ تلك النظرية، فنكون بذلك قد فسرنا القرآن تفسيراً خاطئاً، أو حملنا كلمات الله تعالى ومعانيها أخطاءنا وجهلنا، وأسأنا بذلك إلى القرآن الكريم، وقالوا: بناء على ذلك يجب غلق باب الحديث عن الإعجاز العلمي، حتى يظل القرآن الكريم في موضعه من القدسية، وتظل علومنا في موضعها بعيدة عنه تتأرجح بين الخطأ والصواب.

وأغلب الظن أن هذا الرأي ينبع من قلب غيور على القرآن؛ يخشى أن تكثر التفاسير وتختلف الآراء؛ فيكثر الخطأ في الفهم، وتحمل بذلك القرآن ما هو برئ منها.

وهذا رأي له وجاهته بلا شك، ويجب أن يوضع في الاعتبار، بل هو رأي مفيد لنا نحن رجال الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، لأن هذا يحتم علينا أن ننتبه جيداً إلى أنه لا ينبغي أن يدخل ميدان بيان الإعجاز العلمي للقرآن والسنة إلا العالم المؤهل له.

أما الذي لم يصل إلى مستوى يؤهله إلى ذلك، فيجب أن يكف عما هو فيه ويعكف على مزيد من الدراسة حتى يصل مستقبلاً إلى المستوى المطلوب، فيتكلم كلاماً صحيحاً ومفيداً.

إن آراء المتحفظين والمعارضين للحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن والسنة لهم وجهة نظرهم التي ذكرناها، إلا أن المسألة ليست بهذه البساطة والسطحية في الفكر، لأننا إذا تعمقنا في التفكير قليلا لوجدنا أن دعوة هؤلاء تخدم أعداء القرآن أكثر مما تخدم القرآن نفسه، ويصدق فيهم المثل الذي يقول: “عدو عاقل خير من صديق جاهل”.

إن دعوى هؤلاء لم تظهر في عصر العلم الحالي، وذلك لأسباب ما كان يجب أن تخفى على أحد، ومن العجيب أن تلكم الأسباب – وقد خفيت عن بعض المفكرين المسلمين – لم تخف عن بعض المفكرين غير المسلمين. فهذا الدكتور موريس بوكاي ألف كتاباً في عصرنا هذا، عنوانه: دراسة الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة”، واستعرض فيه ما جاء بالكتب الدينية: القرآن والإنجيل والتوراة، وناقشها مناقشة علمية موضوعية، ومما قاله في كتابه: “إن التطور العلمي كشف للمفكرين [يقصد المفكرين في العالم الغربي] عن وجود نقط تعارض بين ما جاء في نصوص العهد القديم [يقصد تراجم التوراة] وبين حقائق العلم المكتشفة حديثاً، ولقد خلق ذلك وضعاً خطيراً للغاية جعل مفسري العهد القديم يناصبون التفسير العلمي للقرآن وبيان الإعجاز العلمي فيه العداء، إذ لا يمكنهم أن يقبلوا أن يعلن الجميع أن كتبهم تنص على أخطاء علمية في الوقت الذي يظهر فيه أن القرآن ذكر حقائق علمية كثيرة جداً – خلافا لقلتها في التوراة [يقصد ترجمة التوراة] – ومع ذلك لم يحدث قط أي تناقض بين ما جاء بالقرآن وبين الحقائق العلمية الثابتة المكتشفة حديثاً.

هذا ما قرره عالم غير مسلم وشرح فيه أبعاد المشكلة، فماذا فعل أعداء الإسلام لإخفاء نور العلم في القرآن الكريم، ولصرف أنظار الناس في عصر العلم الحالي عن الأخطاء العلمية في كتبهم؟ لما كان الخطر يأتي على الكتب السماوية غير القرآن من باب دراسة الإعجاز العلمي أو التفسير العلمي رأى رجال الدين وعلماء اليهود والنصارى أنه يجب وجوباً حتمياً قفل هذا الباب نهائياً. فماذا فعلوا؟ لقد أوعز هؤلاء للمفكرين المسلمين بدعوى ظاهرها البراءة وفي باطنها الخبث والخداع، ألا وهي أن القرآن كتاب مقدس ولا يجب أن تتطاول عليه علوم البشر ونظريات علومهم التي تخطئ في كثير من الأحوال، وأن القرآن والكتب الدينية جميعاً شيء، وعلوم البشر شيء آخر، ولكل مجاله، وبذلك ضربوا عصفورين بحجر واحد. وللأسف خدع بعض المفكرين المسلمين بهذه الدعوى الخبيثة، وانطلت عليهم الحيلة، وكأن علوم البشر كلها نظريات تخلو من الحقائق العلمية الثابتة، وساروا وراءها، بل قاموا يدعون إليها؛ ظناً منهم أنهم يدافعون عن القرآن، وما علموا أنهم بذلك يخدمون أعداء القرآن، ويخفقون نور القرآن العظيم.

إن ما توصل إليه الدكتور موريس بوكاي – وهو غير مسلم – من دراسته المتعمقة هو خير دفاع عن القرآن، وخير برهان على أن الإسلام دين الحق. وهو – أيضاً – دعوة للفكر والعقل، خدم بها القرآن، وهي خير ألف مرة، في خدمة القرآن من جهود أعداء دراسة مجال الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، والذين تحوم كل دعوتهم إلى الإسلام حول وآراء وأدلة دينية لا يقتنع بها إلا بعض العلماء المسلمين المؤيدين. أما غير المسلمين فهم يهزءون منها ويسخرون، فهي سلاح مفلول، وسيف من خشب في حرب ضروس لا قيمة له في مجال الدفاع عن القرآن أمام غير المسلمين. إن بيان الإعجاز العلمي هو اللغة الوحيدة التي يفهمها ويقتنع بها غير المسلمين، لذلك فإن دعوى الابتعاد عن التفسير العلمي لبعض ما جاء في القرآن الكريم اعتماداً على حقائق العلم الثابتة دعوى يطرب لها أعداء الإسلام، وتنزل على قلوب الملحدين برداً وسلاماً.

إن الإمام محمد عبده – وهو من هو من أكبر علماء الدين في هذا القرن – قد فسر بعض الإشارات العلمية القرآنية تفسيراً علمياً يعتمد على الحقائق العلمية الثابتة المكتشفة حديثاً. فقد فسر الشيخ محمد عبده قول الله عز وجل في سورة الشمس: 5 “والسماء وما بناها”، بناء على القوانين العلمية في الجاذبية التي اكتشفها نيوتن.

وكذلك المفكر الإسلامي وحيد الدين خان قدم دراسة علمية لبعض الإشارات العلمية القرآنية اعتماداً على الحقائق العلمية التي اكتشفت حديثاً، وذلك في كتابه “الإسلام يتحدى”. وكما يتضح من عنوان الكتاب: كان الهدف من التفسير العلمي وبيان الإعجاز العلمي لبعض الآيات القرآنية هو تحدي أعداء الإسلام، ولم يدخل أحد منهم معه في جدال.

والشيخ أبو الأعلى المودودي – وهو علم من أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحالي – دخل ميدان التفسير العلمي لبعض آيات القرآن الكريم، وأبلى في ذلك بلاء حسناً.

والدكتور محمد الغمراوي – وهو من رواد بيان الإعجاز العلمي للقرآن الكريم – صال في هذا المجال وجال في كتابه “الإسلام في عصر العلم”، وفي مقالاته العديدة التي للأسف لم تنشر في كتاب، وأن كانت قد نشرت في مجلة الأزهر في الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن.

إن أعداء الإسلام ظلوا يهاجمونه من يوم نزوله على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل عصر من العصور، وفي كل مكان في العالم، يريدون أن يطفئوا نور القرآن بأفواههم، وكانوا يزعمون – ولا زالوا – أن القرآن ليس من عند الله، وأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد كتبه نقلا عن الكتب الدينية السابقة: وأولها العهد القديم: نقلا عما كان يتناقله الأحبار اليهود. وفي ذلك يقول الله عز وجل: “وقال الذين كفروا إن هذا إلا أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلمًا وزورًا * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلاً * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورًا رحيمًا” (الفرقان: 4-6). وما كان أحد من علماء المسلمين يستطيع الرد على هذه الدعاوى الخاطئة رداً مفحماً قبل عصر العلم الحالي، إلى أن أظهر الله تعالى لنا، وأرانا آياته في الآفاق وفي أنفسنا. وباستخدام التقدم العلمي في مختلف فروع العلم، ووضعها في خدمة التفسير، ثبت بالدليل العلمي القاطع أن ما جاء به الوحي الإلهي في القرآن والسنة هو الحق، وأن ما جاء في كتبهم كان زوراً ولم يكن حقاً. هنالك سكت أعداء الإسلام وصمتوا؛ فقد أفحمتهم الحجة العلمية، وأسكتهم الدليل العلمي الثابت، وراحوا ينفثون سمومهم الفكرية، في عقول بعض علماء المسلمين بوجوب الابتعاد عن الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، وحدث أن استمع لهم بعض علماء المسلمين، وراحوا يرددون عين القول بحسن نية.

إن الإعجاز العلمي هو السلاح الوحيد الذي يدافع به المسلمون عن القرآن والسنة أمام غير المسلمين. وهو اللغة الوحيدة التي يمكن أن يقتنع بها من في قلبه شك، وهي اللغة الوحيدة التي يفهمها الناس في العالم الغربي اليوم من أهل العقائد الأخرى فابتدأوا يدخلون الإسلام.

من هنا نفهم أن بيان الإعجاز العلمي في القرآن والسنة قضية ملحة في العصر الحالي. ونقول كما قال الدكتور محمد الغمراوي رحمه الله: “إن بيان الإعجاز العلمي في القرآن يعجز الإلحاد أن يجد موضعاً للتشكيك في القرآن إلا أن يتبرأ من العقل. فإن الحقيقة العلمية والتي لم تكتشف إلا حديثاً والتي جاء ذكرها في القرآن لابد أن تقوم عند كل ذي عقل دليلاً محسوساً على أن خالق هذه الحقيقة الكونية هو منزل هذا القرآن على عبده ورسوله”.

الشروط والضوابط في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة

ما من شك في أن كثير من المفكرين طرقوا باب الإعجاز العلمي في عصرنا الحالي، وأوغلوا فيه، ولا ننكر على المؤهلين منهم أن يفعلوا ذلك، ولكننا ننكره على كثير من الذين ليسوا على درجة من العلم تؤهلهم للاجتهاد في هذا المجال. فالكثيرون منهم لم يفهموا بعد أبجديات المنهج العلمي للبحث في الإعجاز العلمي. كما أنهم ليسوا على مستوى من العلم يعينهم على ذلك. وما من شك في أن هذه النسبة الغالبة ممن يتحدثون أو يكتبون في الإعجاز العلمي بجهل وإسراف هم من الأسباب الرئيسية التي دفعت بعض المفكرين المسلمين إلى القول بضرورة الكف عن الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

أن هناك شروطاً وضوابط لابد من توفرها حتى تكون الدراسة في مجال الإعجاز العلمي دراسة علمية مقبولة، وهي كالآتي:

أولاً: لا ينبغي أن يدخل هذا الميدان كاتباً أو متحدثا إلا أهل الاختصاص ممن بلغ من العلوم القرآنية والعلوم اللغوية وعلوم السنة والعلوم البشرية في بفروعها المختلفة درجة أو مستوى مقبولاً يؤهله للبحث أو الحديث في هذا المجال.

ثانياً: علم الله تعالى لا يحيط به سواه، وكل ما يستطيعه أي عالم – مهما بلغ علمه – أن يفهم بعضاً مما في كلمات الله تعالى من علم، والله عز وجل يقول: “ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء” (البقرة: 255)، ولا ينبغي أن يعتبر أي باحث أن فهمه للنص في القرآن أو السنة فهماً صحيحاً كل الصحة، فقد لا يكون كذلك، وحسبه أن يكون اجتهاداً مدروساً ومبنياً على منهج علمي سليم لمحاولة فهم بعض المعاني في الآية أو الحديث، وليس فهماً لمعانيه جميعاً، لأن معانيه جميعاً لا يحيط بعلمها إلا الله تعالى.

ثالثاً: لا تجوز محاولة إخضاع النص القرآني – وما أعظم شأنه – للحقائق العلمية التي توصل إليها الإنسان، وما أقل شأنها. كما لا ينبغي محاولة التوفيق بين ما في القرآن أو الحديث النبوي من علم بلا حدود، وبين ما لدى الإنسان من علم قليل ومحدود. ونذكر هنا نبي الله الخضر عليه السلام عندما قال لنبي الله موسى عليه السلام: “ما علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من ماء البحر”. ونذكر أيضاً قول الله عز وجل في كتابه العزيز: “وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً” (الإسراء: 85). فمن الضروري لكل باحث في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة أن يضع هذه الحقائق نصب عينيه دائماً.

رابعاً: يجب أن يكون للفهم العلمي لبعض أوجه الحقيقة في النص القرآني أو في الحديث النبوي حدوداً يقف عندها الباحث ولا يتعداها. وأحرى بأي عالم – مهما بلغ علمه – وهو يحاول أن يتفهم بعض المعاني في آية قرآنية أو حديث نبوي – أن يسكت فيما لا علم له به، لأن الوحي الإلهي في القرآن والسنة كما نزل ليخاطب العصور القديمة وعصرنا الحاضر فإنه نزل أيضاً ليخاطب العصور المستقبلية أيضا باللغة والبراهين والأدلة التي يفهمون. وقد لا نكون نحن – كعلماء – على مستوى فهم الخطاب القرآن أو النبوي للعصور المستقبلية وإلى يوم القيامة. وهنا نذكر قول الله عز وجل: “يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم” (المائدة: 106).

خامساً: كذلك لا يصح عند تناول آية قرآنية كريمة ترتبط بآية أخرى تلتها أو سبقتها أن ننتزع من الآية كلمتين أو أكثر، ونحاول أن نبين الإعجاز العلمي فيها، ونتغاضى عن باقي كلمات الآية، أو الآية المرتبطة بها. ومثال ذلك محاولة بيان الإعجاز العلمي في قوله تعالى: “وأنزلنا الحديد” (الحديد: 25)، ونتغاضى عن باقي كلمات الآية المترابطة في المعنى ارتباطاً وثيقاً. لقد قال الله تعالى: “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز” (الحديد: 25).

سادساً: لا يجب أن يفسر أي نص قرآني أو نبوي بفرض علمي أو بنظرية علمية. فهذه الفروض وتلك النظريات ظنية. والظنون تصيب تارة وتخطئ تارة أخرى، وإذا فعل أي باحث في الإعجاز العلمي هذه الفعلة فإنه يحمل القرآن الكريم ظنون العلماء البشر وأخطاءهم المحتملة. وفي هذه النقطة نتفق مع المتحفظين والمعترضين على دراسة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، لأن أي تفسير تأسس على خطأ علمي لا يمكن أن يكون تفسيراً صائباً. ويجب للتفسير أن يتأسس على حقائق علمية ثابتة، وفي احتراس، وحذر، وأدب، وتعمق في الدراسة، ومع اتباع للمنهج العلمي الصحيح، وحتى بعد هذا كله ينبغي ألا نعتبر أي فهم علمي نصل إليه لنص قرآني أو نبوي فهماً أو تفسيراً حتمياً دائماً، ولكن نضع في الحسبان دوماً احتمال خطأ الباحث في الفهم أو التفسير.

إلا أن ذلك لا يجب أن يمنعنا من محاول تفهم كلمات القرآن والسنة، لأننا لو امتنعنا عن ذلك خشية الوقوع في الخطأ لكان من الضروري أن يمتنع كل مفسر عن التفسير بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سابعاً: إن الحقائق العلمية في مختلف فروع العلم ذكرت في القرآن الكريم على سبيل الذكر الحقيقي تارة، وذكرت على سبيل المجاز تارة أخرى. ويجب أن يُفسر اللفظ في النص على ظاهره ما لم يكن في النص قرينة تدل على المجاز، أو كان المعنى يستعصي فهمه على ظاهر اللفظ.

إن مخالفة هذه القاعدة وعدم الانتباه لها يؤدي إلى كثيرة من الأخطاء في الفهم والتفسير.

ثامناً: يجب أن يضع الباحثون في الإعجاز العلمي نصب أعينهم أن خير ما يفسر القرآن الكريم هو القرآن الكريم نفسه، ثم السنة النبوية المشرفة، كما قال الإمام ابن تيمية.

تاسعاً: في كلمات القرآن والحديث النبوي أعماق علمية لا يصل إلى فهم ملامحها فهماً صحيحاً إلا فريق متكامل من العلماء والمتخصصين. فبيان الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ليس بالأمر السهل الذي يظنه البعض. وكلما ازداد العلماء تعمقاً في محاولة فهم النص القرآن أو النص النبوي، كلما وصلنا إلى نور جديد وعلم جديد، ولن يصل العلماء إلى كل ما في النص من علم، لأن علم الله تعالى لا يحيط به سواه. ففي كلمة واحدة من كلمات الله تعالى من العلم ما يفوق علوم الناس جميعاً في مختلف فروع العلم، إلا أن الله تعالى وعد عباده بأن يبين لهم من الآيات الكونية ما يشاء أن يبينه لهم ويعطيهم شيئاً من العلم فيها، قال تعالى: “فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه” (القيامة: 18-19)، وقال تعالى أيضًا: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” (فصلت: 53).

أ.د. أحمد شوقي إبراهيم