باهشام بنسالم**

باهشام بنسالم

جزى الله خيرا أخانا الدكتور الريسوني على اقتراحه الذي ينم على حمل هم شئون الأمة الإسلامية، وهذا هو الواجب الذي يجب أن يقوم به جميع العلماء، وهو المشاكرة في حمل همّ الأمة وتوضيح الحق والجهر به، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”(1)، وهذه الكلمات النيرة التي قالها حبيبنا الدكتور الريسوني لا نحسبها إلا كذلك، وهي مشاركة في حمل همّ هذا الشعب المقهور والمغلوب على أمره.

أهل المكان.. أهل الفتوى

إلا أن دكتورنا يعرف جيدا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والنيات، وأن الإمام الشافعي رحمه الله على سبيل المثال كان له مذهبان؛ المذهب القديم قبل سفره إلى مصر سنة 199 هجرية، الذي وضعه بالعراق، والمذهب الجديد في مصر ولو جاءه أول الأمر وهو في العراق مصري لأفتاه بالمذهب القديم؛ أي بما يعيشه في العراق، ولكن لما انتقل إلى مصر غيّر المذهب فأصبح الفقهاء يقولون: المذهب القديم والجديد.

وبناءً على ذلك، فالفتوى أو الاقتراح الذي تقدم به أخونا وحبيبنا الدكتور أحمد الريسوني ينطلق من البيئة التي يعيش فيها، والمرء ابن بيئته ويخفى عليه الكثير من المعطيات عن الشعب الفلسطيني عموما، وعن حركة حماس خصوصا وما وصلت إليه من انتصارات، فهو ما عاش ولو سنة في فلسطين وما عرف أحوالها، وإنما سمع فقط، وعندما نتحدث عن حركة حماس لا نتحدث عن ثلة من المجاهدين، بل نتحدث عن غالبية الشعب الفلسطيني الذي عبر بكامل حريته أنه مع حماس قلبا وقالبا، وأبناء هذه الحركة وعلماؤها هم الأولى بمن يفتي عندما يستشكل عليهم الأمر، وهم –وحدهم- الذين يمدوننا بكل المعطيات الصحيحة لا التي نستقيها من وسائل الإعلام التي تعتبر أغلبيتها في حوزة الصهاينة أصحاب (الحكومة الخفية)، والتي من خلالها يظهرون الوجه الذي يريدون لتتم تحليلاتنا على غرار ما نشاهده ونسمعه، لهذا قال المناطقة: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، والتصور الصحيح هو عند إخواننا الفلسطينيين، أما نحن فما دمنا لا نعايش أحوالهم ولا نحيط علما بمجريات الأمور الصحيحة، فحكمنا يبقى مبتورا وناقصا.

أمية في مجال السياسة

أما مسألة عقد هدنة سلام مع الإسرائيليين وادعاء أنها غير ملزمة؛ فأقرّب للأخ الكريم الريسوني ما يقترحه وأبين له مدى خطورته بهذا المثال؛ وهي حيلة يستعملها المحامون في مجال المرافعات عندما يطالب مالك منزل بثمن كراء منزله الذي امتنع المكتري عن أدائه مدة ثلاثة شهور مثلا، وتطالب منه المحكمة -وهو المالك- بشهادة أن فلانا المدعى عليه هو مكترٍ عنده فعلا، ويعترف المالك أنه لا يملك هذه الوثيقة أو لا يستطيع أن يأتي بالشهود ليثبتوا له ذلك ثانيا، فيقوم المحامي ويرسل رسالة إشعارية للمكتري يقول له فيها: إن في ذمتك عشرة أشهر مثلا من الكراء ويطلب منه الرد على هذه الرسالة، فعندما يقرؤها المكتري يفاجأ بما فيها فيسرع بالرد ويقول: ليس في ذمتي سوى ثلاثة أشهر فقط. وهذا اعتراف صريح من قبل المكتري، وهذا ما يبحث عنه المحامي وتريده المحكمة.

وهكذا سيحدث لإخوتنا الفلسطينيين إن أخذوا باقتراح الأخ الجليل الدكتور الريسوني؛ إذ إن أمريكا وحلفاءها يهددون حماس ويريدون منها شيئا واحدا وهو مجرد الاعتراف بإسرائيل، فإذا تم النزول مع الصهاينة إلى طاولة المفاوضات وتم عقد الهدنة فهو اعتراف صريح بدولة إسرائيل وهذه أمية في مجال السياسة، بالإضافة إلى الهدنة التي دعا إليها أخونا وكان من الأولى أن تكون في غير هذا الوقت.

أما والحالة أن إخواننا في كامل العزة والقوة والنصرة بغض الطرف عن التهديدات والضغوطات المختلفة التي تمارس عليهم، فتلك سنة الله في الأرض، وهذه صفة الكفار من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصروه في شعب مكة، ومن تصريحات الأخ الحبيب خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس لما أجري معه استجواب في مصر لما قالت له المذيعة في آخر الاستجواب: ستكونون وبالا على العالم الإسلامي، فأجابها: بل سنكون رحمة إن شاء الله. وكان الحوار في الوقت الذي يعقد فيه وزراء الإعلام بالعالم العربي في مصر وهم يخططون ضد هذا النجاح، ويموهون على الأمة الإسلامية بأن اجتماعهم كان لأجل الانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم رصدوا لذلك بضعًا وعشرين مليون دولار، والزمان قد كشف زيفهم إذ لم يظهر أثر لذلك في جميع إذاعاتهم.

قالت المذيعة لخالد مشعل: ستعاقبون من قبل الدول العظمى بالحصار الاقتصادي وبقطع الإمدادات، فأجابها بكل يقين: نحن نعرف أن الرزاق هو الله سبحانه وتعالى، قال ذلك وهو على يقين من أمره مع عدم تغييب الأخذ بالأسباب؛ لأن من ذوي المروءات ومن الغيورين المسلمين بل من الدول المسلمة من سيساهم بأكثر مما تعيل به الدول الغربية الدولة الفلسطينية، وتأخذ مقابله عزة الفلسطينيين وكرامتهم.

السلم.. متى يكون؟

وقد حرص الإسلام أشد الحرص على السلم، وجعله هدفا من أهدافه السامية، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بأن يميل إلى السلم والمصالحة إذا مال إليه الأعداء، ووعده سبحانه بأن يكف عنه بأسهم إذا ما سولت لهم أنفسهم التمسك بأذيال المكر والخديعة واستعمال الجنوح للسلم كمكيدة للإيقاع بالمسلمين، فالله كافيه وعاصمه من مكرهم وخديعتهم، وفي هذا دلالة واضحة على أن الإسلام يُؤْثر السلم على الحرب ويوجب الوفاء بالمعاهدات والمصالحات، ويحرم المبادرة إلى الغدر والخيانة ونقض العهود، ولكن متى هذا؟

يجيب عن هذا السؤال قوله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بمعنى أن قبول المسالمة والهدنة لا يكون إلا بعد إعداد القوة وتحقيق تخويف العدو وأخذ الحذر من الغدر، بعدها قال تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}

إلا أنه أثير خلاف بين العلماء حول هذه الآية التي تدعو إلى السلم: هل هي منسوخة أم لا؟

فذهب قتادة وعكرمة إلى أنها منسوخة بقوله تعالى من سورة التوبة: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وبقوله تعالى كذلك من سورة التوبة: (وقاتلوا المشركين كافة). وقالا (أي قتادة وعكرمة): نسخت براءة -أي سورة التوبة- كل موادعة حتى يقولوا: لا إله إلا الله. ورأى ابن عباس رضي الله عنهما أنها منسوخة بالآية من سورة محمد: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم). وذهب جماعة إلى أنها غير منسوخة وفسروها بأخذ الجزية، وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثير من بلاد العجم على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه وهم قادرون على استئصالهم، وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على مال يؤدونه وعلى شروطٍ؛ نقضوها فنقض صلحهم. وقال مجاهد: عني بهذه الآية قريظة؛ لأن الجزية تقبل منهم، أما المشركون فلا يقبل منهم شيء. وقال السدي وابن زيد في معنى الآية: إن دعوك إلى الصلح فأجبهم ولا نسخ فيها. ويرى ابن العربي رحمه الله: أن لا صلح إن كان للمسلمين القوة والعزة، وأما إن كانت لهم فيه مصلحة لجلب منفعة أو دفع ضرر فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به -أي السلم- إذا احتاجوا إليه.

وقال القشيري رحمه الله: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة، وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين ولا تجوز الزيادة. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن كانت الهدنة مع المشركين أكثر من ذلك فهي منتقضة، وروي عن مالك رحمه الله جواز مهادنة المشركين إلى غير مدة.

وإذا ما جئنا إلى أحد أفراد الحركة الإسلامية الذي كان في الميدان، وهو سيد قطب رحمه الله، فنجد في تفسيره أنه يعتبر حكم هذه الآية حكما مرحليا مؤقتا، ويخطّئ الفقهاء الذين يعتبرونه نهائيا، ويفسرونه بقبول الجزية، ويبرر كلامه بأن هذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر، أما أحكام الجزية فلم تنزل إلا بعد السنة الثامنة في سورة التوبة، ويقول: “الأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول وطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي.. إلى أن يقول: إن هذا الحكم ليس نهائيا، وإنه عُدّل أخيرا بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة (التوبة) التي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام:

  • إما محاربون يحاربون.

  • وإما مسلمون تحكمهم شريعة الله.

  • وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا.

وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي.

فقه التنزيل.. وجماعية الفتوى

وبما أن المسألة تراعى فيها مصلحة المسلمين وماذا سيجلبه عليهم هذا الصلح وهذه المهادنة، فإننا قد جربنا مع اليهود ما يزيد عن ستين سنة ولم نر منهم -وهم أبناء المكر والخديعة- إلا الغدر، فإذا دعوا إلى السلم فلكي يستعدوا إلى مكر أشد من الأول، والزمان كشاف، وقد أوضح لنا هذا بجلاء. لهذا لا منفعة لا من قريب ولا من بعيد في مسالمة من دخل دارك ويريد أن يسالمك؛ بل لا بد أن يخرج من دارك وبعدها تتم الدعوة إلى المسالمة والهدنة بعد إعداد المسلمين للقوة التي ترهب عدو الله وعدوهم كما ترهب آخرين لا نعلمهم.

أما القواعد التي أوردها أخونا الدكتور الريسوني واستشهد بها فلا بد لها من فقه التنزيل، بمعنى أنها تصلح في غير الشعب الفلسطيني وفي غير الحالة الراهنة التي يعيشونها، وهم أدرى بواقعهم منا.

وحتى إذا أردنا أن نقترح أو أن نفتي فبدعوى منهم هم لا منا نحن، أو أن ندخل معهم في الساحة ونتطوع كما فعل سلفنا الصالح مثل عبد الله عزام رحمة الله عليه وغيره، وعندئذ تكتمل عندنا الصورة وتصبح القواعد التي في أيدينا صالحة أن نستشهد بها والخروج بفتوى أو باقتراح متكامل. وكل هذا غائب عند أخينا الدكتور الريسوني.

وتصريح الدكتور سالم سلامة القيادي في حماس والنائب التشريعي كافٍ عندما قال لـ”إسلام أون لاين.نت”: “إن الشيخ الريسوني يعبر عن رأيه الذي ينبغي احترامه، وإن كنا لا نقبله”.

وهذا يدخل في إطار آداب الحوار وفي مستوى العقلية التي يتميز بها أبناء حركة حماس وتحت مبدأ: “أنا لا أتفق معك، ولكن أساعدك على نشر رأيك”.

وندائي للأخ الكريم الدكتور الريسوني ولكل عالم غيور أن الفتوى في هذه القضايا لا يكفي فيها الفردانية، بل لا بد من الاجتهاد الجماعي وحتى الاقتراح إن سلمنا أن ما ذكره هو اقتراح، فلم يبق، بل يخالف حتى سنة الكون التي كلها في نظام جماعي بل حتى عند الكفار، لا بد من قرار جماعي ومن اقتراح جماعي ومن فتوى جماعية؛ لأن ديننا الإسلام يأمرنا في كل تشريعاته ويربينا على المبدأ الجماعي، حتى في سورة الفاتحة ولو كنا نقرأها وحدنا فإننا نسأل الله فيها -وهي كلها دعاء- بالصيغة الجماعية، فلا قيمة للفرد ولا قيمة لأي مخلوق وحده، وتلك سنة الله في الأرض ولن تجد لسنة الله تبديلا.

والله الموفق لما فيه الخير.

اقرأ في الملف:


** عضو رابطة علماء المغرب. وعناوين المقال كلها من صنع المحرر.

(1) هذا الحديث ضعيف جدا، وعلق عليه الإمام الذهبي فقال: أحسبه موضوعًا. (المحرر).