د. سليم العوا

من سنن الله أن يتجاور في الاجتماع الإنساني أهل مختلف الملل والنحل، كما يتجاور فيه أهل الألوان والألسنة. وهم جميعا إخوة لأب وأم، وإن تباعد بمعاني الأخوة الإنسانية طول الأمد بين الأصول والفروع. ولذلك قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات 13]. وفي الحديث الصحيح: “يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد: كلكم لآدم وآدم من تراب”.

اللقاء الأول

كان أول لقاء بين الإسلام – الدولة – وبين غير المسلمين المواطنين في دولة إسلامية هو الذي حدث في المدينة المنورة غداة الهجرة النبوية إليها.

وكان لا بد للدولة من نظام يرجع أهلها إليه، وتتقيد سلطاتها به (دستور). عندئذ كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وسلَّم – والغالب أنها كتبت بإملائه شخصيا – الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة تاريخيا باسم: وثيقة المدينة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى أهل المدينة، أو كما يسميها المعاصرون: دستور المدينة.

وفي هذه الوثيقة نقرأ أنها:

-كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛

-أنهم أمة من دون الناس؛

-وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

-وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.

-وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

-وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم.

-وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

-وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

-وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

-وأن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.

-وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.

-وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

-وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

-وأن لبني الشُطَيْبة مثل ما ليهود بني عوف. وأن البر دون الإثم.

-وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.

فهذه تسع قبائل، أو تجمعات، يهودية، تنص الوثيقة عليها وتقرر لهم مثل ما ليهود بني عوف، وتضيف إلى ذلك أن مواليهم وبطانتهم كأنفسهم.

-وتقرر الوثيقة النبوية أن بينهم النصح – هم والمسلمون – على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصر والنصيحة، والبر دون الإثم، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره (أي الله شاهد ووكيل على ما تم الاتفاق عليه).

فهذه الوثيقة تجعل غير المسلمين المقيمين في دولة المدينة مواطنين فيها، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين.

أول عهد ذمة:

إن أول عهد – تحت أيدينا – استعملت فيه كلمة (الذمة) هو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلى أهل نجران، فقد كتب لهم:

“… ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم… وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته… ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين…”. ونجد مثل ذلك النص في كتاب خالد بن الوليد إلى أهل الحيرة وقد أقره الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واعتبره الفقهاء – بتعبير الإمام القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة – نافذا على ما أنفذه عمر إلى يوم القيامة (النصوص، وتعليق عليها في: الخراج لأبي يوسف، ص 78و155و159).

فالذمة هي ذمة الله ورسوله، وليست ذمة أحد من الناس. بقاؤها لضمان الحقوق لا إهدارها، ولاحترام الدين المخالف للإسلام لا لإهانته، ولإقرار أهل الأديان على أديانهم ونظمها لا لحملهم على الزهد فيها أو الرجوع عنها. ومع ذلك فهي عقد لا وضع.

الذمة عقد لا وضع:

الذمة في اللغة هي العهد والأمان والضمان. قال أبو البقاء الكفوي في كلياته (وسمي العقد مع غير المسلمين بها لأن نقضه يجلب المذمة)!.

وهي في مصطلح الفقهاء عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بأمان الجماعة الوطنية الإسلامية وضمانها، بشرط بذلهم الجزية، وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شئونهم الدينية (عبد الكريم زيدان: أحكام الذميين والمستأمنين، بيروت 1967 ص 22، والقرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، القاهرة 1977 ص 6).

وعقد الذمة ليس اختراعا إسلاميا، وإنما هو عقد وجده الإسلام شائعا بين الناس، فأكسبه مشروعية بإقراره إياه، وأضاف إليه تحصينا جديدا بأن حوَّل الذمة من ذمة العاقد أو المجير إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها، وبأن جعل العقد مؤبدا لا يقبل الفسخ حماية لأهل غير الإسلام من الأديان، من ظلم ظالم أو جور جائر من حكام المسلمين.

والجزية لم تكن ملازمة لهذا العقد في كل حال – كما يصرح بذلك تعريفه – بل لقد أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من غير أهل الإسلام مشاركة المسلمين في الدفاع عن الوطن، لأنها بدل عن الجهاد (كما يقرر الإمام ابن حجر في شرحه للبخاري، فتح الباري ج 6 ص 38 وينسب ذلك – وهو صحيح صائب – إلى جمهور الفقهاء). ولذلك أسقطها سراقة بن عمرو عن أهل أرمينية سنة 22 هجرية، وأسقطها حبيب بن مسلمة الفهري عن أهل أنطاكية، وأسقطها أصحاب أبي عبيدة بن الجراح – بإقراره ومن معه من الصحابة – عن أهل مدينة على الحدود التركية السورية اليوم عرفوا باسم – الجراجمة – وصالح المسلمون أهل النوبة، على عهد عبد الله بن أبي سرح، على هدايا يتبادلها الفريقان في كل عام، وصالحوا أهل قبرص في عهد معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم (والخراج هنا ضرائب تفرض على من يجوز من الفريقين ديار الآخر).

وغير المسلمين من المواطنين – اليوم ومنذ أكثر من قرن – في الدول الإسلامية يؤدون واجب الجندية، ويسهمون بدمائهم في حماية الأوطان، فهم لا تجب عليهم جزية أصلا في النظر الفقهي الصحيح.

انتهاء عقد الذمة في الدولة الحديثة

والعقد الذي سمِّيَ (عقد الذمة) قد أصابه بعض ما يصيب العقود فينهيها ويذهب بآثارها. فقد انتهى عقد الذمة الأول بذهاب الدولة التي أبرمته، فالدولة الإسلامية القائمة اليوم، في أي قطر، ليست خلفا للدولة الإسلامية الأولى التي أبرمت عقد الذمة. فتلك قد زالت من الوجود بالاستعمار الذي ذهب بسلطانها، وملك ديارها، وبدل شرائعها القانونية، وأدخل على ثقافتها ومكونات هوية كثيرين من أبنائها ما لم يكن منها.

وقد قاوم أبناء الوطن كلهم – مسلمين ومسيحيين – هذا الاستعمار في صوره كافة، كما يقاومون اليوم محاولات الهيمنة والاستتباع في صورها كافة، ونشأت من هذه المقاومة الناجحة دول اليوم، الدول القومية، التي تقدم السيادة فيها على نحو جديد من العقد الاجتماعي لم يعرض له الفقهاء الأقدمون. فالسيادة التي عرفها الفقه القديم قامت على انتصار منتصر وانهزام منهزم، أما سيادة دولنا اليوم فقائمة على مشاركة حقيقية يتساوى طرفاها في صناعة الدولة القائمة وفي الحقوق والواجبات التي تتقرر لهم أو عليهم في ظلها.

وذلك هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم، نفسه، حين أنشأ في المدينة المنورة دولة الإسلام الأولى. ولا نشك لحظة، فما دونها، أنه لولا نقض اليهود عهدهم، وغدرهم برسول الله والمسلمين، لبقي هذا العهد محترما، وفاء به وأداء لحقه، لكنهم خانوا وغدروا – والغدر والخيانة من شيمهم – فطردوا من المدينة إلى غير رجعة إن شاء الله.

إن المقرر في الفقه الإسلامي – بمذاهبه كافة – أن الكثرة الدينية، وحدها لا توجب حقا، والقلة الدينية وحدها لا تمنع من اقتضاء حق. ولكن النظام السياسي الحر، القائم على تحقيق إرادة الأمة كلها – أو غالبيتها – من الناحية السياسية، وهي الإرادة التي يعبر عنها “الناخبون” تعبيرا صحيحا لا تزييف فيه ولا تزوير يعبث به، هذا التعبير هو الذي يؤدي إلى تحقيق نصر سياسي أو إلحاق هزيمة سياسية، وهما، هنا، لا يرتبطان بالعقيدة الدينية، وإنما يرتبطان بالنجاح السياسي، وهو لا يكون، ولا يدوم، إلا إذا تحققت مصالح الناس (الناخبين)، ويصبح الذين يحققونها هم الأكثرية السياسية ولو تعددت أديان المنتمين إليها.

والفقه السياسي يقتضي أن الانتماء إلى الجماعة السياسية – أي جماعة – إذا جاز أن يرتبط بالأمل في تحقيق النجاح لمشروع وطني مبني على دين الكثرة، أو على دين القلة، فإنه لا يجوز، في الحالين، أن يمنع من هذا الانتماء السياسي من يقبل العمل لنجاح هذا المشروع الوطني لمجرد اختلافه – دينا – مع أصحابه أو دعاته.

وادعاء اقتصار الحق في العمل السياسي، أو ممارسة الحكم، على أهل دين معين في دولة متعددة الأديان ادعاء لا تسنده أصول الشريعة، ولا يقوم عليه من فقهها دليل. وهو لا يحقق أي مصلحة مشروعة، والقاعدة أن “كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل”. بل هو يجلب عشرات المفاسد، والقاعدة أن “دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة”.

ولا يرد على ذلك بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلَّم “لا ولاية لغير المسلم على المسلم” – وهو حديث صحيح – لأن المقصود بذلك هو الولاية العامة لا الولاية الخاصة التي هي اليوم ولاية كل ذي شأن، ولو كان رئيس الدولة نفسه، فحكم المؤسسات، وتخصص الإدارات والوزارات، ذهب بفكرة الولاية العامة، التي عرفها الفقه الإسلامي إلى رحاب التاريخ. لا يستثنى من ذلك سوى ولاية الفقيه عند إخواننا الإمامية، وإن كان منهم من يرجح عليها “ولاية الأمة” مثلما كان يقول أخونا العلامة الإمام محمد مهدي شمس الدين رحمه الله.

والوضع الجديد الذي نشأ بزوال “عقد الذمة” أو بانقضائه، لا يؤدي بالمسلمين إلى إنكار الحقوق التي تثبت بموجب هذا العقد لغير المسلمين من أبناء ديار الإسلام. لأن الذمة في الفهم الإسلامي هي “ذمة الله ورسوله” ولا يملك مسلم أن يخفرها أو يغير من حكمها. لكن الوضع الجديد إذا رتب لغير المسلمين حقوقا أو رتب عليهم واجبات لم تكن مرتبة في ظل العقد القديم، فإننا نؤدي هذه الحقوق ونستأدي هذه الواجبات دون أن ينقص ذلك من حقوقهم الأصلية شيئا. أما واجباتهم الأصلية فبعضها – كالجزية – يسقطه تقرير الواجبات الجديدة كالدفاع عن الوطن، وشرف الخدمة في جيشه، وبعضها يؤكده الوضع الجديد، كوجوب رعاية جانب إخوان الوطن وعدم التعرض لعقائدهم بما يسوؤهم أو يؤذي مشاعرهم.

والحمد لله رب العالمين.



 


* نص محاضرة ألقاها د. محمد سليم العوَّا في مؤتمر الإعلاميين المسيحيين العرب، مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيروت 10/10/2002

** مفكر إسلامي وخبير قانوني.