د. سعد الدين العثماني **
04/05/2005 
د. سعد الدين العثمانيمن القضايا التي تحتاج إلى مزيد مناقشة ودراسة لدى المهتمين بالتحولات في مجتمعاتنا: العلاقة بين الكوني والشرعي، وبين الوضعي والديني في ثقافتنا، وكيف نركز نظرة تجديدية تخرج من مأزق التعارض أو التنافر، إلى رحابة الانسجام والتكامل.

ولذلك أطرح هنا السؤال حول مدى انسجام وجود الإسلام ومجتمع الإسلام مع دولة مدنية تنبني فيها الشرعية على إرادة الشعب، وتصدر فيها القوانين من قبل مؤسسات مخول لها ذلك بالانتخاب، وتتخذ قراراتها وفق المصلحة، مصلحة المجتمع، وبأقصى درجات الموضوعية الممكنة.

وقد اخترت أساسا منهجيا للإجابة على هذا السؤال تصرفات الرسول بالإمامة، وسماتها لدى الأصوليين. إنها أساس منهجي يلقي الضوء على جوانب لم يُهتم بها بما يكفي لتطوير التجربة السياسية المعاصرة للمسلمين، وللخروج من سجن الكثير من التجارب التاريخية التي ربما تكبل انطلاقة كثير من المسلمين للاستفادة بقوة من التجربة الإنسانية المعاصرة.

تنوع التصرفات النبوية

لقد نُظر كثيرا إلى التصرفات النبوية على أنها من نوع واحد وعلى وزن واحد، وعلى أنها كلها وحي يُتبع. وقد بين كثير من العلماء والأصوليين خطأ هذه النظرة ومجافاتها لطبيعة التصرفات النبوية. وقام كثير منهم باقتراح تقسيمات لها، مثل أبي محمد ابن قتيبة الدينوري (ت 276 هـ) في كتابه “تأويل مختلف الحديث” ، والقاضي عياض اليحصبي (ت 544 هـ) في كتابه “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” ، وابن قيم الجوزية (751هـ) في العديد من مؤلفاته، والعالم الهندي شاه ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) في كتابه “حجة الله البالغة”.
التصرفات النبوية تنقسم على العموم إلى: تصرفات تشريعية وتصرفات غير تشريعية
وممن أسهم في الموضوع من المعاصرين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب “مقاصد الشريعة الإسلامية”. لكن أكثرهم توسعا في بيان الفرق بين أنواع التصرفات النبوية، الأصولي الألمعي شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ). وقد بث ذلك في العديد من كتبه مثل موسوعته الفقهية “الذخيرة” ، وكتابه المشهور بالفروق ، ثم في كتاب خاص بالموضوع هو “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”.

وبالاستفادة من مجموع تلك الجهود المتراكمة يمكن أن نقسم التصرفات النبوية -على العموم- إلى قسمين هما:

1 ـ تصرفات تشريعية، وهي ما صدر عن الرسول مما هو للاتباع والاقتداء. وهذه التصرفات التشريعية تنقسم بدورها إلى قسمين:

ـ تصرفات بالتشريع العام، وهي تتوجه إلى الأمة كافة إلى يوم القيامة. وهي إما تصرفات بالتبليغ أو تصرفات بالفتيا.

ـ تصرفات بالتشريع الخاص، وهي مرتبطة بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليست عامة للأمة كلها. ويدخل ضمنها التصرفات بالقضاء، والتصرفات بالإمامة، والتصرفات الخاصة. وهي ملزمة لمن توجهت إليهم فقط، وليس لغيرهم. ويسميها بعض العلماء بالتصرفات الجزئية أو التشريعات الجزئية أو الخطاب الجزئي.

2 ـ تصرفات غير تشريعية، وهي تصرفات لا يقصد بها الاقتداء والاتباع، لا من عموم الأمة ولا من خصوص من توجهت إليهم. وقد أحصينا منها: التصرفات الجِبِلِّية والتصرفات العادية والتصرفات الدنيوية والتصرفات الإرشادية والتصرفات الخاصة به .

ولهذا التقسيم فوائد عديدة في فقه الدين وفي التعامل مع الأحاديث النبوية. فلقد أصاب هذا التعامل البعض بنوع من عمى الألوان. فلم يفهموا أقواله وأفعاله إلا على طريقة واحدة، ولم ينظروا إليها إلا على أنها من لون واحد. وانغلقت داخل ألفاظ النصوص ومبانيها اللغوية، ولم تلتفت إلى الملابسات والقرائن المحيطة، ولم تعتبر كون كثير من تلك التصرفات النبوية تستجد بحسب النوازل والظروف، أو ترتبط بأسباب وأحوال خاصة. كما أنها لا تهتم بمقاصد التصرفات النبوية وأهدافها التشريعية والتربوية والدعوية… وعندما يغيب كل هذا، تصبح سنة الرسول مبادئ وأحكاما مجردة، لا علاقة لها بواقع يتحرك، ولا ببشر يتدافع، ولا بطوارئ تستجد. إن الأمر يصبح كأنه تشريع يبنى في عالم مجرد لا علاقة له بتغيرات واقع اجتماعي وسياسي معين، بل ولا علاقة له حتى بطبيعة البشر.

لكل هذا اعتبر شهاب الدين القرافي قاعدة الفرق بين التصرفات النبوية من الأصول الشرعية الجديرة بالمعرفة والاهتمام. فبعد أن سرد أنواع تصرفاته ، والفرق بينها قال: “وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته ، فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية” .

كما أن ابن قيم الجوزية صاغ في الموضوع قاعدته المهمة: “لا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كليا عاما، ولا الكلي العام جزئيا خاصا، فيقع من الخطأ وخلاف الصواب ما يقع” .

التصرفات النبوية بالإمامة

لننظر الآن إلى التصرفات النبوية بالإمامة وسماتها. تُعرف التصرفات النبوية بالإمامة بأنها تصرفاته بوصفه رئيسا للدولة يدير شئونها بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد، ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع. ويسميها بعض العلماء تصرفات بالسياسة الشرعية أو بالإمارة .

وقد درج بعض الأصوليين على الحديث عن المقام الذي يصدر عنه التصرف النبوي. وهو هنا “مقام الإمامة” أي موقع الرئاسة السياسية. ويميزونه عن المقامات الأخرى بميزات عديدة. فتصرف الرسول عليه السلام بالإمامة -عند القرافي- «وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء» . فهو بالتالي مقام غير مقام النبوة والرسالة، وغير مقام الفتيا، وغير مقام القضاء. ويختلف هذا المقام عن المقامات الأخرى بأمرين اثنين :

1- أن الإمام «هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد…».

2- أن الإمام يمتلك قوة التنفيذ، وهذا شيء لا يملكه المفتي ولا القاضي. والمقصود من الإمامة «إنما يحصل بالقدرة والسلطان» .

لكن المهم هو أن نتوقف عند سمات التصرفات النبوية بالإمامة لنرى درجة الموضوعية التي يصر الأصوليون على التعامل بها معها. ويمكن حصر أهمها في أربع سمات هي:

1ـ تصرفات تشريعية خاصة:
تصرفات الرسول بالإمامة تصرفات جزئية مرتبطة بتدبير الواقع وسياسة المجتمع، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها.
فتصرفات الرسول بالإمامة تصرفات جزئية مرتبطة بتدبير الواقع وسياسة المجتمع، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها. ولذلك يعبر عنها ابن القيم بأنها “سياسة جزئية” بحسب المصلحة “فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال” ، بينما يسميها الطاهر ابن عاشور “التشريعات الجزئية” .

ومن ثم فهي ليست شرعا عاما ملزما للأمة إلى يوم القيامة. وعلى الأئمة وولاة الأمور بعد الرسول ألا يجمدوا عليها، وإنما عليهم أن يتبعوه في المنهج الذي بنى عليه تصرفاته وأن يراعوا المصالح الباعثة عليها، والتي راعاها النبي زمانا ومكانا وحالا . وهو الأمر الذي عبر عنه القرافي بأن هذا النوع من التصرف النبوي “لا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأنه إنما فعله بطريق الإمامة ولا استبيح إلا بإذنه” .

وهكذا فإن أمثال تلك التصرفات بالإمامة مفوضة إلى رأي الإمام أو الجهات المسئولة في المجتمع تراعي فيها مقاصد الشرع “حسب المصلحة التي راعاها النبي زمانا ومكانا وحالا” . والجمود على تلك التصرفات النبوية على الرغم من قيام دواعي تغييرها خروج عن المراد الشرعي ومجافاة للسنة.

فمثلا قوله : “من أحيا أرضا ميتة فهي له” -عند من يعتبره من العلماء تصرفا بالإمامة- تمليك منه للأرض الموات لمن يحييها في عهده. أما في غير عهده فإن الإمام أو الجهات المسئولة هي المخول لها أن تعطي هذا الحق أو تمنعه أو تنظمه بطريقة مغايرة حسب المصلحة، وهذا معنى قول أبي حنيفة: “الإحياء لا يكون إلا بإذن الإمام” .

وقوله : “من قتل قتيلا فله سلبه” -عند القرافي- تصرف مرتبط بمصلحة مؤقتة، فهو “إنما قاله لأن تلك الحالة كانت تقتضي ذلك، ترغيبا في القتال”، لذلك يقرر شهاب الدين القرافي أنه “متى رأى الإمام ذلك مصلحة قاله، ومتى لا تكون المصلحة تقتضي ذلك لا يقوله. ولا نعني بكونه تصرفا بالإمامة إلا ذلك القدر” .

2– تصرفات مرتبطة بالمصالح العامة

والسمة الثانية ذات الأهمية الكبيرة أن التصرفات بالإمامة تهدف إلى تحقيق المصالح العامة. لأنه لولا نَصْب الإمام -عند العز بن عبد السلام– “لفاتت المصالح الشاملة وتحققت المفاسد العامة” . ورئيس الدولة (أو الإمام) شرطه الأساس -لدى القرافي- أن يكون “عارفا بتدبير المصالح وسياسة الخلق”. وإذا كان القضاء يعتمد الحجج والقرائن والبينات، والفتيا تعتمد الأدلة الشرعية، فإن التصرف بالإمامة «يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة» . والسبب في ذلك أن «الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة وقتل الطغاة وتوطين العباد في البلاد…» .

ومن الأمثلة على ذلك أن النبي نهى مرة عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فقال لهم: “ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقي”، وفي العام الموالي روجع فقال: “إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت حضرة الأضحى فكلوا وتصدقوا وادخروا” .

فالحكم الأول بالنهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث إنما أصدره الرسول مراعاة للظروف الاقتصادية أو التموينية التي عاشتها المدينة لكثرة من وفد عليها، وذلك بقصد رفع الأزمة والتخفيف عن الناس، ويشهد له ما صرحت به عائشة في حديث آخر إذ قالت: “ما فعل ذلك إلا في عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغنيُّ الفقير” .

فهذه مصلحة عامة اعتبرت في تغيير هذا الحكم الشرعي، لذلك ذهب أحمد محمد شاكر إلى “أنه تصرف منه -- على سبيل تصرف الإمام والحاكم فيما ينظر فيه لمصلحة الناس، وليس على سبيل التشريع في الأمر العام ” .

3- تصرفات اجتهادية
عندما يتصرف الرسول بوصفه “إماما” أو قائدا سياسيا إنما يتصرف باجتهاده ورأيه الذي يمكن أن يصيب فيه أو يخطئ.
فمن المتفق عليه أن الرسول عندما يبلغ عن الله أو عندما يبين الدين يتصرف وفق ما أوحي إليه به، أو وفق ما فهمه من الوحي مما لا يُقر فيه على خطأ. وعندما يتصرف بوصفه “إماما” أو قائدا سياسيا إنما يتصرف باجتهاده ورأيه الذي يمكن أن يصيب فيه أو يخطئ. وهذا الأمر الثاني يكاد يجمع عليه الأصوليون والفقهاء. وهذا ما حكاه محمد بن علي الشوكاني إذ يقول: “وأجمعوا أنه يجوز لهم (أي الأنبياء) الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها، حكى هذا الإجماع سليم الرازي وابن حزم، وذلك كما قلت وقع من نبينا من إرادته بأن يصالح غطفان على ثمار المدينة، وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة… . ورجح هذا الرأي كل من أبي بكر الجصاص ، وأبي الحسين البصري ، وإمام الحرمين الجويني ، وفخر الدين الرازي . ونسبه تقي الدين ابن تيمية إلى ابن بطة الذي قال: “والدليل على أن سنته وأوامره قد كان فيها بغير وحي وأنها كانت بآرائه واختياره أنه قد عوتب على بعضها، ولو أُمر بها لما عوتب عليها، من ذلك حكمه في أسارى بدر، وأخذ الفدية، وإذنه في غزوة تبوك للمتخلفين بالعذر حتى تخلف من لا عذر له، ومنه قوله {وشاورهم في الأمر} (آل عمران/159) فلو كان وحيا لم يشاور فيه” .

وهذا النص يشير إلى أمثلة من تصرفاته السياسية، وإلى أنها كانت عن اجتهاد منه ورأي.

ومما يدل أيضا على أن تصرفاته بالإمامة راجعة إلى اجتهاده، مشاورته لأصحابه فيها. إذ لو كان مأمورا بالوحي في القضية المعروضة لما استشارهم . والواقع أنه كان ينزل عند رأيهم ويرجع إلى خبرائهم، كما كان يراجع ويناقش دون أي نكير.

وكان الصحابة يميزون بين وظيفته بوصفه مبلغا للرسالة والوحي، ووظيفته بوصفه قائدا سياسيا وحربيا. وإذا اختلط عليهم الأمر سألوه فبين لهم. وذلك مثل ما تقدم من سؤال الحُباب بن المنذر الرسول عن المكان الذي اختاره في بدر: أهو منزل أنزله الله إياه “أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”، وسؤال السعدين في غزوة الخندق بقولهم: “يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟.

4 – تصرفات في أمور غير “دينية”:

وهو معنى يعبر عنه القرافي بالتأكيد على أن حكم الحاكم يكون “فيما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا”. وهو كما يقول: “احتراز من مسائل الاجتهاد في العبادات ونحوها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل لمصالح الآخرة، فلا جرم لا يدخلها حكم الحاكم أصلا” .

وهذا التمييز بين ما هو لمصالح الدنيا وما هو لمصالح الآخرة مهم جدا، لكنه يجب أن يفهم في إطار النظرة الإسلامية الشاملة للعلاقة بين الدين والدنيا، وليس في إطار العلاقة الكنسية التي ورثها التصور الغربي. وقد وضعنا لفظ “دينية” بين مزدوجتين، لأننا نقصد به معنى خاصا للفظ الدين الذي يستعمل في النصوص الشرعية بمعنيين:
الدين بمعناه الخاص: ما كان من تصرفات النبي عن وحي أو اجتهاد في مرتبة الوحي، والدنيا ما كان منه عن رأي واجتهاد محض.
الأول عام، يشمل جميع أوجه نشاط المسلم وجميع الأعمال التي يأتيها بما فيها ممارسته السياسية. وهكذا فكل ما يفعله المسلم في حياته من عمل صالح فهو عبادة بمفهومها العام، وهو صدقة ما دامت نيته خالصة لله. وكل ذلك يدخل في مسمى الدين. ولذلك كانت كتب الفقه التي تتضمن أحكام الدين العملية تضم أبواب الصلاة والصيام والزكاة إلى جانب أحكام الأسرة والزواج والطلاق والإرث، والأبواب المرتبطة بالنشاط الاقتصادي مثل البيوع والربا والرهن والمزارعة والإجارة، إلى جانب الأبواب المرتبطة بالنشاط السياسي مثل الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والسير. وكل هذا كان يعتبر دينا. فهو هنا بمعنى كل عمل صالح نافع مفيد.

المعنى الثاني للدين: خاص، يستعمل في مقابل الدنيا. كما ورد في الحديث المذكور: “إن كان من أمر دينكم فإلي، وإن كان من أمر دنياكم فشأنكم”. وفي إحدى روايات الحديث توضيح لمعنى الدين هنا. فقد مر رسول الله بقوم على رؤوس النخل فسأل عما يصنعون فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال: “ما أظن يغني ذلك شيئا”. فتركوا التلقيح فلم يثمر، فأُخبر بذلك فقال: “إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب عن الله”. وفي حديث آخر: “إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر” . فالدين ما كان من تصرفاته عن وحي أو اجتهاد في مرتبة الوحي، والدنيا ما كان منه عن رأي واجتهاد محض.

وأهمية التنصيص على انبناء التصرفات النبوية بالإمامة على مصالح الدنيا:

  • إخراج لها من مسمى الدين بالمعنى الثاني. وهو دليل على وجود نوع من التمييز بين الدين والدنيا في الإسلام، وإبعاد الممارسة السياسية عن الممارسة الدينية المباشرة.
  • كذلك هو يفيد في أن من مقاصد الإسلام إزالة أي نوع من القداسة عن الممارسة السياسية حتى لا يصير ذلك احتكارا لها باسم الدين، أو حجرا على الإبداع والانطلاق.
  • كما أن هذا التمييز يفيد في إدراك ضرورة تغير التصرفات النبوية بالإمامة في حال تغير المصالح التي انبنت عليها. وهذا أمر متفق عليه.

فتصرفات الرسول بالإمامة ليست ملزمة لأي جهة تشريعية، ولا يجوز الجمود عليها بحجة أنها (سنة). وإنما يجب على كل من تولى مسئولية سياسية أن يتبعه في المنهج الذي هو بناء التصرفات السياسية على ما يحقق المصالح المشروعة. كما لا يجوز لأحد أن ينشئ الأحكام بناء عليها إلا أن يكون في مقام التسيير والتشريع. ولذلك لما سرد ابن القيم نماذج من تصرفات الرسول وخلفائه الراشدين بالسياسة الشرعية قال: “والمقصود أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة. فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة ولكل عذر وأجر. ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين”.

بناء الدولة المدنية

إن التصرفات النبوية بالإمامة بما هي تصرفات بالسياسة الشرعية، تفتح بابا واسعا لتجديد الفقه السياسي، وإعادة النظر -من زاوية جديدة- في كثير من قضاياه. كما تمكن من إرساء وعي منهجي في مجال السياسة الشرعية، وإشاعته بين المشتغلين بالإحياء الإسلامي نظرا وتطبيقا.

ورغم أن التفرقة في الإسلام بين ما هو وحي وما هو نتاج بشري، بديهي ومعروف، وخصوصا فيما يتعلق بالممارسة السياسية، فإن الوعي بالتصرفات النبوية بالإمامة يوفر أساسا منهجيا مهمًّا وصلبا للعديد من القضايا المطروحة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، نذكر منها:
1) الوعي بالتصرفات النبوية بالإمامة –وهي غير ملزمة- يوفر أساسا منهجيا مهمًّا وصلبا للعديد من القضايا المطروحة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
الوعي بالتصرفات النبوية بالإمامة –وهي غير ملزمة- يوفر أساسا منهجيا مهمًّا وصلبا للعديد من القضايا المطروحة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
تبين سمات التصرفات النبوية بالإمامة أن الدولة الإسلامية دولة مدنية، وليست دولة دينية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر السياسي الغربي. فطبيعة التصرفات النبوية بالإمامة وسماتها توضح كيف أن الإسلام ينزع كل عصمة أو قداسة عن ممارسات الحكام وقراراتهم، كما ينزعها عن الوسائل التي تتوسل بها الدولة لإدارة شئون الأمة. لذلك فإن الدولة في الإسلام لا يمكن أن توصف بأنها دولة دينية لأنه لا توجد دولة دينية دون العصمة أو المعرفة النابعة من عالم الغيب أو من الوحي.

الدولة في الإسلام إذن دولة دنيوية، قراراتها بشرية، واجبها تبني أقصى درجات الموضوعية والواقعية في تسيير شئون المجتمع، كما أن الحاكم في الإسلام، لا يستمد مشروعيته من قوة غيبية، بل هو فرد عادي يستمد ولايته من الأمة التي اختارته وكيلا عنها بمحض إرادتها وهو مسئول أمامها في الدنيا، فضلا عن مسئوليته أمام الله يوم القيامة.

وحتى فقهاء السياسة المسلمون القدماء لم يشيروا إلا إلى هذه المعاني أثناء تعريفهم للسياسة الشرعية أو لوظائف الإمامة في الإسلام. لكن بعض كلامهم لم يفهم على وجهه الصحيح. فقد عرف أبو الحسن الماوردي الإمامة بأنها: “موضوعة لتقوم مقام النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا” . وقال عنها ابن خلدون: “نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به” . ثم قال: “وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته”. ويمكن لتعبير خلافة النبوة أن يدخل غموضا في معنى الإمامة لدى هؤلاء الفقهاء. لكن طبيعة التصرفات النبوية بالإمامة تبين أن أولي الأمر يخلفون النبي في وظيفة يتصرف فيها -هو نفسه- بصفته الدنيوية، بممارسات سياسية اجتهادية ليس النبي نفسه فيها معصوما، ولا يخلفونه -بإجماع- في صفته النبوية التي تقتضي تبليغ الوحي والتي هو معصوم فيها.

2) لقد اتخذت العلاقة بين الديني والسياسي في فكرنا المعاصر صيغًا مختلفة ومتناقضة. لكنها اتخذت في الغرب نفسه أشكالا متباينة على الرغم من وجود قواسم مشتركة.

ولا شك أنه من الضروري الاستعانة في مجال بناء نموذجنا في التجربة الديمقراطية بتجارب الآخرين. فالتجارب السياسية الإنسانية أعطت الكثير لاستقرار شعوبها وعقلنة إسهامها في تسيير شئونها. والقراءة المتفحصة والمتفهمة للتجربة السياسية الغربية تمكننا من إبداع نموذج يحقق الانسجام بين الشرعي والوضعي، ويستجيب لحاجياتنا الخاصة ويمكن من إنجاز التوافقات حولها. وهذا يحتاج إلى إزالة القداسة عن الجوانب المتعلقة بالسياسة من الدين، إذا استثنينا المبادئ العامة والمقاصد الكبرى، والباقي بشري دنيوي بشرية ودنيوية التصرفات النبوية بالإمامة.

فبالنسبة لأساس الشرعية، يجمع الفقهاء الدستوريون المسلمون، قدماء ومحدثين، على أنه يعود للأمة أو الشعب. وأكبر دليل على ذلك هو أن الرسول نفسه توفي ولم يعين أو يوص لأحد بعده بالحكم. فترك الأمر للناس، ليس فقط ليختاروا الشخص الذي يريدون، ولكن أيضا بالنهج الذي يرتضون. وهذه سابقة دستورية ذات دلالة، لصدورها من الرسول نفسه. لذلك فالحاكم تختاره الأمة بالطريقة التي ترضيها، والبيعة عقد بين الحاكم والمحكوم أساسه الرضا التام، ودونه لا عقد. لكن الحاكم على كل حال واحد من الأمة ولي مسئولية الحكم، فلا امتياز له بذلك، ولا يتصرف إلا بما يقتضيه عقده مع الأمة.

وقد استفاض العلماء قديما وحديثا في الاستدلال للمسألة، لكني اكتفي باستدلال للإمام الشافعي. فقد تحدث عن الحديث: “ولا تقبل صلاة من أمَّ قوما وهم له كارهون… إلخ” فاستنتج منه كراهية أن يؤم الرجل جماعة يكرهونه. ثم طرد هذا المبدأ إلى الجانب السياسي قائلا: “وأكره للرجل أن يتولى قوما وهم له كارهون، وإن وليهم، والأكثر منهم لا يكرهونه، والأقل منهم يكرهونه، لم أكره ذلك إلا من وجه كراهية الولاية جملة” . وهذا استدلال بديع، فكما أنه لا يجوز أن يؤم إنسان جماعة في الصلاة وهم له كارهون، فمن باب أولى ألا يجوز أن يحكمهم وهم له كارهون.

والمشروعية في التاريخ الإسلامي كانت في الغالب تستمد من الأمة بصورة من الصور. فتأسيس الدولة يتم على أنقاض دولة أخرى لم تنجح في تدبير الشئون بتحقيق مقاصد العدل والاستقرار داخليا، أو عجزت عن الدفاع عن الثغور ضد العدو الخارجي (لم تستطع حماية بيضة الإسلام وأرضه). فيقوم من يستنفر لتدارك الأمر، وإقامة دولة تستطيع ذلك. فيجتمع حوله الناس ويعينونه. إنه هنا يستمد المشروعية من الأمة بمعنى من المعاني، ما دام قام ليدافع عن مصالحها. وهو في ذلك مثل الدولة القومية أو الثورية المعاصرة في العالم العربي، والتي كانت تستجيب -بمعنى من المعاني- لتطلعات شعبية إلى التحرر وقطع دابر التبعية، أو إلى العدل الاجتماعي. لذلك حازت تعاطفا واسعا في بداية أمرها، لكنها بفعل عوامل ذاتية وموضوعية تحولت إلى دول قهر واستبداد وفشلت في تحقيق التحرر والعدالة الاجتماعية.

إن قيام المشروعية على الاستجابة لحاجات ضرورية للأمة، هو ما عبّر عنه بكونه قياما على مشروعية دينية، لكن ليس بالمعنى التيوقراطي، لكن بمعنى أن قيامها رهين بقدرتها على حماية الدين، وإعزاز أمة الإسلام. وبمعنى آخر أنها دولة مدنية، ذات مشروعية شعبية، مكلفة بحماية دين الأمة، كما أن الدولة الوطنية الحديثة، دولة مكلفة بحماية الوطن والدفاع عن مصالحه.

وإذا كان هذا منطبقا على أساس الشرعية في الدولة، فمن باب أولى أن ينطبق على المقتضيات الدستورية الأخرى من مثل ضبط المؤسسات السياسية، وانتخاب المسئولين، وتحديد مدد ولايتهم، والعلاقة بين السلطات واستقلاليتها وغير ذلك. فهي كلها أمور تخضع للاجتهاد البشري.

3 ـ تاريخية التجربة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، وهي تجربة ظل الفكر الإسلامي المعاصر، السياسي والتشريعي، سجينا لها في كثير من الأحيان. إن التجربة الراشدية لا شك تجربة سامقة، لها في نفس كل مسلم الإجلال والتقدير. لكن هذا لا يجعلها تجربة تتجاوز الزمان والمكان والملابسات التي أملتها.

فما دامت الممارسة السياسية النبوية نفسها نسبية، فمن باب أولى أن تكون التجربة الراشدية كذلك نسبية. وإذا كنا مأمورين بالاقتداء في مجال التصرفات النبوية السياسية بالمنهج العام دون الجمود على الأحكام الجزئية، فإن الاقتداء الذي أمرنا به للخلفاء الراشدين لا يمكن إلا أن يكون أيضا اقتداء بمنهجهم في التعامل مع كل نوع من التصرفات النبوية، وأسلوب تفاعلهم مع الواقع الإسلامي المتغير، وتنزيلهم للدين فيه.

أما الأشكال المؤسساتية، والآليات الدستورية، والاجتهادات التشريعية والسياسية للفترة الراشدية، فإنها نتاج بشري محكوم بالسياق التاريخي والظروف الحضارية والمناخ الثقافي لعصرها. ويجب ألا تتحول إلى جزء من الدين يلزم به المسلمون على اختلاف عصورهم. والفكر السياسي البشري والمستوى الحضاري الإنساني كانت عنده مسلمات أثرت على فهم المسلمين للإسلام ونظامه السياسي. ولم تدعهم يحققون من مقاصده أكثر مما كان يسمح به المحيط الثقافي والحضاري الإنساني آنذاك، والقرآن وحي يأخذ منه الناس على قدر استعدادهم، ولن يستنفدوا مقاصده أبدا.

وبعـد:

إن كون الدولة في الإسلام دولة مدنية، تستمد مشروعيتها من مواطنيها، يجعل المسلمين منفتحين باستمرار لتطوير نموذج الحكم على حسب ما تبدعه البشرية من آليات ونظم، وقادرين على تمثيل النموذج الديمقراطي في أعلى صوره، بل وإغنائه بمبادئ وقيم تعطيه السمو الإيماني والعمق الاجتماعي والبعد الإنساني الواسع.

اقرأ أيضا:

** الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في المغرب.