عندما كتب العلامة أبو الحسن الندوي كتابه الفريد في موضوعه “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، رصد أنه “ليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها، وتزاحمها في سيرها، وتعارضها في وجهتها، وتنافسها في مبادئها وفلسفتها الجاهلية ونظام حياتها المادي، لا في أوربا ولا في أمريكا ولا في أفريقيا أو آسيا. وأن الذي نرى ونسمع من خلاف سياسي ونزاع بين الأمم فإنما هو تنافس في القيادة وتنازع فيمن يكون هو القائد إلى هذه الغاية المشتركة”.

وهذا الذي رصده العلامة الندوي غدا الآن في مطلع القرن العشرين مسلَّمة من المسلمات، الأمر الذي يعني أن دراسة الأزمة الحضارية في عمقها الفلسفي للغرب تعني دراسة النموذج الأعلى الذي يتمثله العالم بوجه عام، ومن ثم تمثل نتائجها الإجابة الجديدة على سؤال العلامة الندوي الذي نطرحه مرة أخرى بعد نصف قرن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.

وتمثل المظالم الاقتصادية وارتفاع معدلات الجريمة والانتحار والتفسخ الاجتماعي والأسري داخل الغرب نفسه مبررات كافية للقول بأن الغرب في أزمة يحق لنا البحث في عمقها الفلسفي دون الانخداع بالمظهر القوي الذي تبرزه العولمة الاقتصادية والتقدم التكنولوجي والقوة العسكرية المبهرة، هذا إذا سلمنا جدلاً بكون المآسي التي يصنعها الغرب في باقي العالم لا تمثل في ذاتها أحد مظاهر هذه الأزمة.

الفكر الغربي في مرحلة انتقالية

تتمثل تطورات الصراع الفكري في الغرب منذ عصر النهضة في البحث عن المنظومة التي تجمع بين الإجابة عن أسئلة الإنسان المصيرية: من هو؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين يمضي؟ وما الهدف؟ ثم سائر منظومة القيم الحياتية كالحرية والعدالة الاجتماعية، أي: المنظومة التي يسعى إليها الإنسان في كل زمان ومكان، والتي لم تتحقق في نموذجها المثالي إلا في الإسلام. فالإسلام هو الذي يمثل التجسيد الواقعي المتكامل لمطامح جان جاك روسو الفكرية التي أفقدتها رومانسيته القدرة على طرح منظومة لها القدرة على التمثل والتحقق العملي، بعكس ما يتميز به الإسلام من عقلانية وتحرر وعدل، على الرغم من جوهره الإيماني. والمفارقة أن روسو أكثر الفلاسفة تمردًا على فكر فلاسفة الاستنارة؛ بالرغم من انتمائه إليهم. ولكن مشكلة الغرب أنه لم يبحث عن الإجابة على تلك الأسئلة التي طرحها روسو إلا في نسقه العلماني الذي يتمحور حول الاقتصار على العقل الإنساني وخبراته في إدراك الحقيقة وتصريف شئون الحياة. وبعد مسيرة من التخبط بين مدرسة “المادية الواقعية” التي مثلها هوبز ولوك وهيوم، ومدرسة “المثالية العقلانية” التي مثلها بيركلي وكانط وهيجل، وجد الغرب نفسه في نهاية القرن التاسع عشر يتمزق في طاحونة صراع ذي أبعاد ثلاثة هي المسيحية والرأسمالية والماركسية.

فالإنسان الغربي مثله كمثل كل البشر يبحث عن العدل والطمأنينة التي يمنحها الإيمان إياه. وكانت المسيحية هي البديل المطروح أمامه. لكنه –أي الإنسان الغربي- يصطدم بتناقض المسيحية مع العقل، وافتقادها لروح الحرية والعدالة؛ لما اصطبغت به من كهنوت. وإذا وجد الحرية في الليبرالية الرأسمالية اصطدم بافتقادها للإيمان، وغلبة الروح النيتشوية عليها، تلك الروح التي أحلَّت النوازع الشريرة في الإنسان محل الإله، كما أراد نيتشه الذي كان يرى “أن القيم هي ما وضعته إرادة القوة.. طالما أنها هي مبدأ ذاتها ولا مبدأ يصنع لها ذاتها من خارجها”.

وإذا صدق الإنسان الغربي ما تبشر به الماركسية من عدل اجتماعي فلم يجد ذلك كافيًا في ذاته ليضحي لأجله بما ينشده من إيمان وحرية.

ويبدو أن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت تمثل حقًا مرحلة فارقة في تاريخ الفكر الغربي، الأمر الذي دفع المؤرخين إلى الاعتياد على تسميتها بمرحلة الحداثة.

وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف الملامح الأساسية لفكر تلك المرحلة والخلاف الشديد بين المفكرين والفلاسفة الغربيين على ما يمكن إدراجه من أفكار وفلسفات إليها؛ فإن السمة الأساسية لفكر الحداثة، والتي لا يكاد يختلف عليها أحد هي التمرد على الماضي بما يمثله من رؤى دينية أو فلسفات تأملية. فإذا كان فكر الاستنارة يمثل تمردًا على الرؤى الدينية؛ فإن الحداثة تمثل -تحديدًا- تمردًا على اليقين العقلاني الذي يمثله فكر الاستنارة، سواء في بعده المادي أو المثالي، بعد أن فقد مصداقيته، كما يمثل سعيًا إلى إنتاج مشروع فلسفي جديد. وعلى ما نرى فإن فلسفة البراجماتية تمثل أهم نتاج لهذا السعي.

البراجماتية.. الهروب من الحق إلى المصلحة

على الرغم من التباين الشديد بين التيارين الفلسفيين الأساسين الغربيين المثالي العقلي والمادي التجريبي، فإنهما قد اتفقا على أن هناك مرجعا ما أو أصلا قائما بالفعل يمكن الرجوع إليه في تقدير مدى صحة فكرة مطروحة أو رأي أو قول ما، وإن يكن هذا الأصل القائم عند المثاليين هو فكرة العقل، وعند التجريبيين يتمثل في أية واقعة خارجية تُدرَك بالحواس؛ فإن الاتجاه البراجماتي كما يتحدث عنه الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس في كتابه “البراجماتية” الذي صدر في عام 1907، هو تغيير اتجاه النظر بعيدًا عن الأشياء الأولية التي اعتاد مفكرو عصر الاستنارة البدء بها، مثل: المبادئ، والنواميس، والفئات، والحتميات المسلم بها، وتوجيه النظر نحو الأشياء الأخيرة: الثمرات، والنتائج، والآثار، والوقائع، والحقائق.

فالبراجماتية ليس لها أية عقائد يقينية أو جزمية، أو أية مبادئ؛ اللهم إلا طريقها، ومناهجها. ويرى المذهب البراجماتي أن أسماء مثل: الإله، المادة، العقل، لا نستطيع اعتبارها نهاية مطاف سعينا نحو الحقيقة؛ إذ يتعين على الإنسان من وجهة نظره أن يُخرِج من كل كلمة قيمتها النقدية الفورية العملية، ومن ثم فإن النظريات تصبح أدوات ووسائل؛ لا حلولاً لألغاز، ولا إجابات صارمة على أحجية. فالبراجماتية -كما يقول وليم جيمس- تعني أن توضع كل المفاهيم المطروحة على بساط البحث على المحك البراجماتي (نافعة / غير نافعة)، فإذا لم يكن ثمة فرق عملي بين قولين بالقياس إلى صحة هذا أو ذاك؛ إذن فالاثنان حقًا عبارة واحدة في شكلين كلاميين. وإذا لم يكن ثمة فرق عملي يحدث، سواء كانت عبارة معينة صحيحة أو باطلة؛ إذن فالعبارة ليس لها معنى حقيقيا. وفي كلتا الحالتين فليس هناك شيء يستحق أن نتنازع من أجله. وعلى ذلك فإن الحقيقي –براجماتيًّا- في أوجز عبارة ليس سوى النافع في سبيل تفكيرنا تمامًا، كما أن الصواب ليس سوى النافع في سبيل مسلكنا.

والبراجماتية لا تمثل ولا تناصر أي نتائج معينة في طريقتها، كما أن حيازة الحقيقة فيها بعيدة كل البعد عن أن تكون غاية في ذاتها. فهي لا تزيد عن كونها مجرد وسيلة أو أداة أولية لبلوغ الإشباع والرضا والسرور. والحق يفضل على الباطل عندما يرتبط كلاهما بالموقف، أي: الموقف العملي الذي يتم البحث فيه عن أيهما أنفع. أما إذا لم يرتبط بذلك فإن الحق يتساوى مع الباطل. ولأن الحقيقة ترتبط بالنتائج البراجماتية؛ فهي نفسها في حالة تغير وتبدل وانتقال.

ولنا أن نتساءل: حتى لو كانت المنفعة هي الهدف الوحيد، فكيف يمكننا بغير الحق أن ندرك ماهية هذه المنفعة؟ ولكن جيمس يقلب الأمور كلها رأسًا على عقب باستهتار ولا مبالاة شديدين؛ فهو لا يبحث عن الحق كغاية أو كهدف في ذاته. وما دامت الفكرة نافعة فليس مهمًا عنده كونها حقًا أو باطلاً، بل ليس مهمًا الموضوع الذي تؤدي إليه أيًّا كان.. لاحظ أخي القارئ مدى اللامبالاة بمصالح الآخرين الذين لا تكون الفكرة نافعة لهم. وما دامت المنافع تتغير وتتبدل بتغير الظروف والأحوال فلا بد أن يلازمها الحق في تبدلها وتغيرها. وهكذا نستطيع أن نفهم جيمس جيدًا.

لقد كان الحق هو الغاية لكل الفكر الإنساني قبل ظهور البراجماتية، ولكن وليم جيمس جعل الحق هو مجرد وسيلة إلى الفوائد والمنافع الشخصية؛ بإضفاء صفة الحق عليها. ولكن الأهم من ذلك كله أنه يخلط بين الحقائق والوسائل بطريقة تؤدي إلى تذويب الحقائق بشكل مطلق ونهائي.

ويعي وليم جيمس جيدًا مدى ضعف نظريته منطقيًّا، وأنه لا يقدم أي مفهوم يقيني للحقيقية، أو حتى راجح الصحة، وهو لا يطالبنا أن نعتقد بذلك، وإنما يقول للغربيين: ما دمتم قد فقدتم الثقة في الوسائل المعرفية التي لديكم، وتدركون قدر ضعفها؛ فينبغي عليكم أن تأخذوا كلامي ولو على سبيل الظن أو حتى الاحتمال. فالأنماط المتعددة في التفكير –كما يقول- كلها متعارضة، وليس فيها واحد على سبيل الحصر يستطيع أن يقيم الحجة على دعوى الصحة المطلقة؛ أفلا ينبغي أن يثير ذلك احتمالاً أو فرضًا أو ظنًا أو حدسًا مناصرًا لوجهة النظر البراجماتية؟ وما دامت هذه الأنماط المتعددة من التفكير غير صحيحة، ولكنها خدمت أغراضا معينة لكم، فلماذا لا يثير ذلك ولو حتى احتمالاً مناصرًا لمقولتنا؟ إن الحقائق ينبغي أن تكون هي الوسائل التي نستطيع بها أن نصل إلى ما نريد.

أي أن وليم جيمس يبدأ بموقف عبثي من الكون، وينتهي بنا إلى موقف عبثي أيضًا، ثم يقول لنا إنه ما دام الأمر كذلك فبدلاً من اليأس والمرارة والسأم؛ على كل منا أن ينتفع بما يريح نفسه ويجد فيه اللذة، ولو بشكل مؤقت ومتغير. وخلاصة ما يريده وليم جيمس قوله بأن الإنسان لكي يستريح تمامًا، عليه أن يعتقد أن ذلك الذي يفعله هو الحقيقة.

إن ما يقدمه جيمس تحديدًا هو حالة من الإلهاء المتواصل عن القلق الإنساني الذي يسببه البحث عن الإجابة على الأسئلة المصيرية. هو الإلهاء الذي يتمحور حول اللذة والمنفعة، ولكن هذا الإلهاء البراجماتي يتوافق تمامًا مع منطق الرأسمالية الغربية التي تعمل على الدوام على تجدد الرغبات التي لا يمكن وضع حد لإشباعها، فإن نتيجة هذا الإلهاء المادي المتواصل الذي لا يمكن أن توفره الطبيعة ذاتها لكامل البشر هو التجني على أشد الحاجات المادية الضرورية للآخرين.

وإذا كانت البراجماتية هي عملية انتقال بارعة من المذهبية الفلسفية إلى التبرير الفلسفي لكل ما هو قائم على أنه هو ما تفرضه الاحتياجات الإنسانية، وعلى أنه الوحيد الذي يتلاءم مع افتراضها محدودية قدراتنا المعرفية؛ فإنها في الوقت نفسه تمثل تعبيرًا حقيقيًّا عن النسق الفكري الذي انتهت إليه الحضارة الغربية في أقصى نموها المادي.

والذي يعنيه ذلك أنه إذا كانت البراجماتية فلسفة تحايل وتكيف مع الواقع المعيش، فإنه من نفس مضمون العجز الفلسفي الكامن في الفكر العلماني في أقصى تطوره الذي انطلقت منه الفلسفة البراجماتية انطلق اتجاه آخر يزاحم الفكر البراجماتي؛ هو اتجاه الأفكار ما بعد الحداثية.

ما بعد الحداثة لا تعرف الحق ولا تبحث عنه

وإذا كانت الحداثة قد نأت بنفسها عن الرؤى الدينية والأيديولوجيات التأملية؛ فإن ما بعد الحداثة ترى على حد قول مفكرها البارز جان فرانسوا ليوتار: “إمكانية التآكل الكامنة في نهج إضفاء المشروعية الآخر، وهو جهاز الانعتاق المنبثق عن التنوير”. وهذا يعني أن ليوتار رأى أن مهمة فكره الأساسية إنهاء أساطير القواعد العقلية الكلية التي أنتجها عصر التنوير الغربي.

فالموقف ما بعد الحداثي ينطلق من التداعيات الفلسفية لبلوغ النسق العلماني أقصى مراحل تطوره إلى مرحلة العجز عن إدراك الحقائق المطلقة. وهو فكر لا ينزع المشروعية عن الرؤى الدينية والأيدلوجيات التأملية وحسب، بل ينزعها أيضًا عن المشروعات الحداثية التي تمردت على الرؤى الدينية والتأملية (أي ينزع القداسة عن مشروعات التنوير الغربية نفسها). فما بعد الحداثة “تحمل من الحداثة الذات المنقسمة المفتتة، لكنها تمحو كل مسافة نقدية منها، فهي ضد الضد؛ حيث يكون ذلك لشيء أساسي هو عدم إمكانية المعرفة ومن ثم فهي ضد الاستلاب؛ لأنه لم يعد ثمة ذات لتستلب ولا شيء يجري الاستلاب عنه، فالأصالة لم تُرفض بقدر ما نسيت ببساطة”.

والاتجاه ما بعد الحداثي يدين بدوره لأفكار نيتشه الذي عادت أفكاره للظهور فيما بعد البنيوية: كالعلاقة بين المعرفة والقوة، ونسبية المعرفة، وموت الإله. بيد أن هذه الأفكار نمت وتطورت من خلال مرورها بمصفاة البنيوية وما بعد الحداثة في مجال الفنون. وللألماني هيدجر تأثيره الكبير أيضًا في الاتجاه التفكيكي الذي يمثله دريدا الذي يعد واحدًا من أبرز فلاسفة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.

ويمكن القول بأن الفكرة البنيوية التي تقول إن اللغة تصنع موضوعاتها الخاصة بها قد تطورت إلى نظرية في المعاني “ونقطة البدء في هذه النظرية أن المعنى لا يأتي بأية حال من الأحوال عن العلاقة بشيء خارجي. فليس هناك شيء مطلقًا بإمكاننا البحث عنه ليضمن لنا المعنى، وليؤكد لنا أننا على حق”. ويمكن وضع هذه الفكرة بصورة أخرى بالقول بأنه لا يوجد من يلعب دور الإله، أي: لا يوجد مدلول متعال. وكون أن المعنى لا يأتي بأية حال من الأحوال من خارج اللغة هو الأمر الذي يعني انتفاء القصدية وموت المؤلف؛ لأن الاعتراف بوجود المؤلف يمثل قيدًا على تفسير النص يتمثل في وجود معنى لا نهائي. والتسليم بوجود معنى نهائي بالنسبة لرولان بارت، البنيوي، والذي مهد للتفكيك، هو “التسليم بوجود حقيقة أو حقائق مسبقة وثابتة، ومن ثم فإن موت المؤلف -كما يقول بارت- يعني رفض فكرة وجود معنى نهائي أو سري للنص، بل رفض وجود الله ذاته وثالوثه: العقل والعلم والقانون”.

ومن الواضح أن الفكر الغربي انتبه أخيرًا إلى أن مجرد وجود معنى أو منطق أو إمكانية اليقين المعرفي يعني التسليم بوجود الله، وهو الأمر الذي يعاند في رفضه. ومن ثم كانت هذه النهاية الحتمية لفكره في تلك الرؤية التفكيكية التي تقضي على الإنسان بعد أن تم القضاء على الإيمان بالله.

إن مفهوم العلاقة يعني ضمنًا وجود شيء ما مدلول عليه، كما يشير مفهوم البنية إلى وجود شيء ثابت ومنتظم. أما اتجاه ما بعد البنيوية فإنه يتخلى عن هاتين الفكرتين، ويقول إن هناك مستوى واحدًا فقط هو مستوى السطح، وليس ثمة أعماق خفية في الحياة. ومستوى السطح في صورته الأولية يتسم بالفوضى واللامعنى، أي: أنه لا يقر له قرار.

واهتداءً بنيتشه، فقد قلب فوكو رأسًا على عقب النظرة الدراجة عن العلاقة بين القوة والمعرفة، حيث يقول “إيان كريب” في كتابه: “النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس”: “إذا كانت القوة هي الدافع لفعل أشياء لم يكن باستطاعتنا القيام بها من دونها فإن فوكو يرى أن المعرفة هي في ذاتها قوة تمارسها على الآخرين لتحدي الآخرين، أي أن المعرفة ما عادت أداة للتحرير وأصبحت أداة للاستعباد”.

أما بالنسبة لهيدجر الذي كان يذهب إلى أن اللغة بيئة الوجود كان “يرى أن المشكلة تتعلق بتقاليد المعرفة التي حُجب بها البشر عن حقيقة الكينونة”، وهو يرى أن “التقاليد تأخذ ما توارثناه وتسلمه إلى ما لا يحتاج إلى برهان. إنها تحول بيننا وبين تلك المنابع الأولى التي جاءت منها جزئيا المقولات والمفاهيم التي نتوارثها، وهي في الواقع تدفعنا لنسيان أن لها تلك الأصول، وتجعلنا نفترض أن ضرورة العودة إلى مصادرها أمر لا نحتاج حتى إلى فهمه”.

وعلى هذا الأساس فإن هيدجر قد انتهى إلى أن تلك التقاليد الحاجبة تحتاج إلى عملية تدمير، حيث أنه “إذا كان لتاريخ الكينونة أن يصبح شفافًا؛ فإنه يجب هدم تلك التقاليد الجامدة، وإنهاء عمليات الإخفاء التي تتسبب فيها. ونحن نفهم ذلك بمعنى أننا إذا كنا سنعتبر مسألة الوجود مدخلاً فإن علينا أن ندمر المحتوى التقليدي للمعرفة القديمة؛ إلى أن نصل إلى تلك التجارب الأولى التي حققنا فيها أدواتنا الأولى لتحديد طبيعة الوجود”.

لماذا لم يهربوا من عجزهم إلى الإيمان

وخلاصة ما سبق، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، أن ما بعد الحداثة فلسفة لا عقلانية مادية لا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت متماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية، وحتى إن وُجدت الذات ووُجد الموضوع فلن يتفاعلا؛ إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل.

وما نراه هو أننا أمام موقفين إدراكيين لبلوغ النسق الفلسفي الغربي العلماني مرحلة العجز الكامل عن الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده تمامًا عبر مسيرة تطوره الحضاري.

الموقف الإدراكي الأول موقف تحايلي يقدم الإلهاء الحسي المتواصل بديلاً عن البحث الفلسفي، وبذلك يتم تكريس الوعي الغربي في اللهاث وراء رغبات تجدد على الدوام، ولا يمكن إنهاء عملية تلبيتها أبدًا وهذا هو الموقف البراجماتي.

الموقف الإدراكي الثاني موقف جاد وصريح مع النفس، يعترف بهذا العجز ويستسلم له بما يحمله ذلك من تشرذم ولا جدوى وانهيار.

وهذا هو الموقف ما بعد الحداثي وإذا كان الموقف الأول هو الموقف الأكثر إغراء للجماهير والنخب السياسية والاقتصادية بوجه خاص، فإن الموقف الأخير هو الموقف الأكثر تلاؤمًا مع جدية الفلاسفة والعلماء والعقول المفكرة الغربية. وهذا يعني -مع افتراض وجود مفكرين قلقين ومصلحين حقيقيين بين هذا العالم الغربي- أنه لا حل لهم لوجود إجابات حقيقية عن الأسئلة المصيرية، وتحقيق مطامحهم في الإيمان والعدل والحرية إلا في البحث عن نسق جديد يخالف النسق العلماني تمامًا، ولا حل لوجود ذلك النسق إلا في الإسلام؛ لأنه الوحيد الذي يجيب على هذه الأسئلة ويلبي هذه المطامح.

أ. محمد إبراهيم مبروك