منذ أن لخص أرسطو النظريات السائدة في عصره والمتعلقة بتخلق الجنين، استمر الجدل بين أنصار نظرية الجنين الكامل القزم الموجود في ماء الرجل وبين أنصار نظرية الجنين الكامل القزم الذي يتخلّق من انعقاد دم الحيض لدى المرأة. لقد تصور معظمهم أن الإنسان مختزل في الحبّة المنوية؛ فرسم له العلماء صورة وتخيلوا أنه يوجد كاملا في النطفة المنوية غير أنه ينمو ويكبر في الرحم كالشجرة الصغيرة، ولم يتنبّه أحد من الفريقين إلى أن كلاً من حيوان الرجل وبييضة المرأة يساهمان في تكوين الجنين، وهو ما قال به العالم الإيطالي “سبالانزاني” Spallanzani سنة 1775م.

في عام 1783 تمكن “فان بندن” Van Beneden من إثبات هذه المقولة.. وهكذا تخلت البشرية عن فكرة الجنين القزم. كما أثبت “بوفري” Boveri بين عامي 1888 و1909 أن الكروموسومات تنقسم وتحمل خصائص وراثية مختلفة. واستطاع “مورجان” Morgan عام 1912 أن يحدد دور الجينات في الوراثة وأنها موجودة في مناطق خاصة من الكروموسومات.

العلقة في اليوم 23
  العلقة في اليوم 23

وهكذا يتجلى لنا أن الإنسانية لم تعرف أن الجنين يتكون من اختلاط نطفة الذكر وبييضة الأنثى إلا في القرن الثامن عشر، ولم يتأكد لها ذلك إلا في بداية القرن العشرين.

بينما نجد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد أكدا بصورة علمية دقيقة أن الإنسان إنما خُلق من نطفة مختلطة سماها “النطفة الأمشاج” فقال تعالى في سورة الإنسان: “إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا” (الإنسان:2). وقد أجمع أهل التفسير على أن الأمشاج هي الأخلاط، وهو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة. والحديث الشريف يؤكد هذا؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده أن يهودياً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه فقالت له قريش: يا يهودي، إن هذا يزعم أنه نبي فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي، فقال: يا محمد، مِمَّ يُخلق الإنسان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا يهودي، من كلٍّ يخلق: من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فقال اليهودي: هكذا كان يقول مَن قبلك” (أي من الأنبياء).

منظر ترسيمي للجنين و هو يبدو على شكل دودة العلق
منظر ترسيمي للجنين و هو يبدو على شكل دودة العلق

وسنتحدث عن الأطوار الجنينية كما ذكرها البيان القرآني ونلقي ضوءاً على الحقائق العلمية الثابتة في كل طور من الأطوار.. وأول هذه الأطوار: طور النطفة: Sperm

حقائق علمية مثبتة

تتشكل النُّطف في الخصية التي تتكون بدورها -كما أثبت علم الأجنة- من خلايا تقع أسفل الكليتين في الظهر ثم تنزل إلى أسفل البطن في الأسابيع الأخيرة من الحمل.

ومني الرجل يحتوي بشكل رئيسي على المكونات التالية: الحيوانات المنوية (النطف Sperms ) التي يجب أن تكون متدفقة ومتحركة حتى يحدث الإخصاب، ومادة البروستاغلاندين Prostaglandin التي تسبب تقلصات في الرحم مما يساعد على نقل الحيوانات المنوية إلى موقع الإخصاب.

مع أن مئات الملايين (500-600 مليون) من النطف تدخل عبر المهبل إلى عنق الرحم فإن نطفة واحدة هي التي تلقح البييضة، قاطعة مسافة طويلة جداً لتصل إلى مكان الإخصاب في قناة فالوب الرحمية Uterine Tube التي تصل المبيض بالرحم، تلك المسافة المحفوفة بكثير من العوائق تعادل ما يمكن تشبيهه بالمسافة التي يقطعها الإنسان ليصل إلى القمر!. ويحدث عقب الإلقاح مباشرة تغير سريع في غشاء البييضة؛ وهو ما يمنع دخول بقية الحيوانات المنوية إليها.

إن النطفة تحتوي على 23 كروموسوما (صبغيا)، منها كروموسوم واحد لتحديد الجنس، وقد يكون (Y) أو (X) أما البييضة فالكروموسوم الجنسي فيها هو دائماً X))، فإن التحمت نطفةY) ) مع البييضة (X) فالبييضة الملقحة Zygote ستكون ذكراً (XY)، أما إذا التحمت نطفة (X)مع البييضة (X) فالجنين القادم سيكون أنثى XX)).. فالذي يحدد الجنس إذن هو النطفة وليس البييضة.
بعد حوالي 5 ساعات على تكون البييضة الملقّحة -وهي الخلية الإنسانية الأولية الحاوية على 46 كروموسوما- تتقدر الصفات الوراثية التي ستسود في المخلوق الجديد، والصفات التي ستتنحى فلا تظهر

عليه، بل يمكنها أن تظهر في بعض أولاده أو أحفاده (مرحلة البرمجة الجنينية)، بعد ذلك تنقسم البييضة الملقحة انقسامات سريعة دون تغير في حجمها، متحركة من قناة فالوب (الواصلة بين المبيض والرحم) باتجاه الرحم حيث تنغرس فيه كما تنغرس البذرة في التربة.

والرحم هو مكان تطور ونمو الجنين قبل أن يخرج طفلاً كامل الخلقة وسويّ التكوين. ويتميزالرحم بأنه مكان آمن للقيام بهذه الوظيفة؛ وذلك للأسباب التالية:

1- موضع الرحم في حوض المرأة العظمي، وهو محمي أيضاً بأربطة وصفاقات تمسك الرحم من جوانبه وتسمح له أيضاً بالحركة والنمو حتى إن حجمه يتضاعف مئات المرات في نهاية الحمل.

2- عضلات الحوض والعجان (الدبر) تحفظ الرحم في مكانه.

3- ويساهم في استقرار الرحم إفراز هرمون الحمل (البروجسترون) الذي يجعل انقباضات الرحم بطيئة.

4- كما أن الجنين داخل الرحم محاط بأغشية مختلفة تنتج سائلاً أمنيوسياً يسبح فيه الجنين ويمنع عنه تأثير الرضوض الخارجية.

تستمر مرحلة الإلقاح ووصول البييضة الملقحة إلى الرحم حوالي 6 أيام، ويستمر انغراسها ونموها في جدار الرحم حتى اليوم 15 حيث تبدأ مرحلة العلقة.

تأملات قرآنية

إن “النطفة” لغوياً هي القليل من الماء أو قطرة الماء، وهذا يطابق ماء الرجل الذي يحوي الحيوانات المنوية كجزء منه. والحيوان المنوي ينسلّ من الماء المهين (المني) وشكل الحيوان المنوي (النطفة) كالسمكة الطويلة الذيل (وهذا أحد معاني لفظة سلالة). يقول تعالى: “الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ” (السجدة :7-8) . ويقول أيضاً مبيناً دور النطفة في الخلق: “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِماَ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ” (الطارق 5-6)، ويقول: “خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ” (النحل : 4). ويؤكد البيان الإلهي أن صفات الإنسان تتقرر وتتقدر وهو نطفة ولذلك قال تعالى: “قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ” ( عبس17-19) .

المضغة في اليوم 28

والنطفة الأمشاج في قوله تعالى: “إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا” (الإنسان:2) تعبّر عن هذا الإعجاز؛ فلغوياً هي نطفة (صغيرة كالقطرة) مفردة، ولكن تركيبها مؤلف من أخلاط مجتمعة (أمشاج) وهذا يطابق الملاحظة العلمية حيث إن البييضة الملقحة بالحيوان المنوي هي على شكل قطرة، وهي في نفس الوقت خليط من كروموسومات نطفة الرجل وكروموسومات البييضة الأنثوية.

هل تصور أحد من البشر أن نطفة الرجل حال الإمناء يتقرر مصيرها وما يخرج منها ذكرا كان أو أنثى؟! هل يخطر هذا بالبال ؟! لكن القرآن يقول: “وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىِ . من نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى” (النجم 45-46) حال إمنائة إذا تمنى، وقد قدر ما سيكون الجنين ذكرا أو أنثى!! من أخبر محمدا أن النطفة بأحد نوعيها (X أو Y) هي المسؤولة عن تحديد جنس الجنين؟ هذه المعلومة لم تعرف إلا بعد اكتشاف الميكروسكوب الإلكتروني في القرن الماضي؛ حيث عرفوا أن الذكورة أو الأنوثة تتقرر في النطفة وليس في البييضة، بما يعني أننا كنا في أوائل القرن العشرين وكانت البشرية بأجمعها لا تعلم أن الذكورة والأنوثة مقررة في النطفة.. لكن القرآن الذي نزل قبل أربعة عشر قرنا يقرر هذا في غاية الوضوح!

وثمة لفتة طريفة، حيث ذكرنا سابقاً أن النطف تتكون في الخصية التي تتشكل بدورها -كما أثبت علم الأجنة- من خلايا تقع أسفل الكليتين في الظهر ثم تنزل إلى الأسفل في مراحل الحمل الأخيرة، وهذا تأكيد لقوله تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ” (الأعراف 172) وهذه إشارة واضحة إلى أن أصل الذرية هو منطقة الظهر حيث مكان تشكل الخصية الجنيني، فسبحان الله أعلم العالمين.

وأخيراً كما ذكرنا فإن الرحم يعتبر مقراً آمناً (ومكيناً) لنمو الجنين وحمايته لأسباب كنا قد تحدثنا عنها سابقاً، نجد أن القرآن الكريم يذكر ذلك ويؤكده منذ أكثر من 14 قرناً حيث يقول تعالى: “فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ . فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ” ( المرسلات:21-23).. صدق الله العظيم.

الطور الثاني: العلقة الحقائق العلمية الثابتة

يبدأ طور العلقة في اليوم 15 وينتهي في اليوم 23 أو 24 حيث يتكامل بالتدريج ليبدو الجنين على شكل الدودة العلقة التي تعيش في الماء، ويتعلق في جدار الرحم بحبل السرة، وتتكون الدماء داخل الأوعية الدموية على شكل جزر مغلقة تجعل الدم غير متحرك في الأوعية الدموية، معطية إياه مظهر الدم المتجمد.

وبالرغم من أن طبيعة الجسم البشريّ هي أن يطرد أيّ جسم خارجي فإن الرحم لا يرفض العلقة المنزرعة في جداره، على الرغم من أن نصف مكوناتها ومورثاتها هو من مصدر خارجي (الأب) وهذا مرده حسب بعض التفسيرات أن منطقة خلايا Syncitia بالعلقة لا يوجد بها مولدات ضد Antigens .

يجدر بالذكر هنا أن الشريط الأولي Primitive Streak هو أول ما يُخلق في الجنين في اليوم 14 أو 15 ثم تظهر فيه العقدة الأولية Primitive Node ومن هذا الشريط تتكون الخلايا الأم Stem cells ومصادر الأنسجة الرئيسية Mesoderm, Ectoderm, Endoderm التي سوف تشكل أعضاء وأنسجة الجسم المختلفة ، وفي نهاية الأسبوع 3 يضمر الشريط الأولي ويتوضع ما يتبقى منه في المنطقة العجزية – العصعصية Sacrococcygeal region بنهاية ذيل العمود الفقري مبقياً على بقايا للخلايا الأم في هذه المنطقة ، حتى إن بعض أورام المنطقة العصعصية -تسمى الورم متعدد الأنسجة أو الورم العجائبي Teratroma- يمكنها أن تحوي أنسجة مختلفة (عضلات، جلدا، غضروفا، عظما، وأحيانا أسنانا أيضا) بخلاف الأورام التي تنشأ في مناطق أخرى، والتي تكون على حساب نسيج واحد محدد.

تأملات من القرآن والسنة

منظر ترسيمي للجنين و هو يبدو على شكل دودة العلق تستغرق عملية التحول من نطفة إلى علقة أكثر من 10 أيام حتى تلتصق النطفة الأمشاج (البييضة الملقحة) بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة تصبح فيما بعد الحبل السري؛ ولهذا استعمل البيان القرآني حرف العطف (ثم) في الآية الكريمة “ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً” (سورة المؤمنون: 14) الذي يفيد التتابع مع التراخي.
والعلقة لغوياً لها معان عدة:
1- الدودة العلقة (Leech) التي تعيش في البرك وتمتص دماء الكائنات الأخرى.
2- شيء متعلق بغيره.
3- الدم المتخثر أو المتجمد.
وهذه المعاني جميعاً منطبقة تماماً على واقع الجنين البشري بعد انغراسه في جدار الرحم؛ فهو يبدو على شكل دودة العلق (Leech) وهو متعلق أيضاً بجدار الرحم عن طريق حبل السرة ، وتنشأ بداخله الأوعية الدموية على شكل شبكة جزر مغلقة معطية إياه مظهر علقة الدم المتجمد.

ثم يتم التحول سريعاً من علقة إلى مضغة خلال يومين (من اليوم 24 إلى اليوم 26)؛ لهذا وصف القرآن هذا التحول السريع باستخدام حرف العطف (ف) الذي يفيد التتابع السريع للأحداث “فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً” (سورة المؤمنون14).. إذن حتى استعمال حروف العطف المختلفة كانت له دلالات بيانية إعجازية عكست اختلاف المراحل الجنينية.

طور العلقة هو الطور الثاني إذن من أطوار المراحل الجنينية، وقد ذكر في القرآن في مواضع عديدة ، قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} (القيامة: 37-39)، وقال في سورة سميت بسورة “العلق”: “خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ” (العلق 2).

وعودة إلى موضوع الشريط الأولي الذي هو أول ما يُخلق في الجنين ومن هذا الشريط تتكون الخلايا الأم وأعضاء وأنسجة الجسم المختلفة، وفي نهاية الأسبوع 3 يضمر الشريط الأولي ويتوضع ما يتبقى منه في المنطقة العصعصية بنهاية ذيل العمود الفقري، مبقياً على بقايا للخلايا الأم في هذه المنطقة، ويأتي هذا مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى عنه أبو هريرة في مسند أحمد: “كل ابن آدم يبلى ويأكله التراب إلاّ عجب الذنب، منه خُلق وفيه يُركب” فالخلايا التي تشكل أنسجة وأعضاء الجسم تتوضع في “عجب الذنب” أي العظم العصعصي، ومنها يخلق الإنسان، صدق رسول الله !

الطور الثالث المضغة الحقائق العلمية الثابتة:

يتحول الجنين من طور العلقة إلى بداية طور المضغة ابتداءً من اليوم 24 إلى اليوم 26، وهي فترة وجيزة إذا ما قورنت بفترة تحول النطفة إلى علقة.

يبدأ هذا الطور بظهور الكتل البدنية (Somites) في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين في أعلى اللوح الجنيني، ثم يتوالى ظهور هذه الكتل بالتدريج في مؤخرة الجنين. وفي اليوم الثامن والعشرين يتكون الجنين من عدة فلقات تظهر بينها أخاديد؛ وهو ما يجعل شكل الجنين شبيهاً بالعلكة الممضوغة، ويدور الجنين ويتقلب في جوف الرحم خلال هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع السادس.
ويجدر بالذكر أن مرحلة المضغة تبدأ بطور يتميز بنمو وزيادة في حجم الخلايا بأعداد كبيرة أي تكون المضغة كقطعة من اللحم لا تركيب مميزا لها، وبعد أيام قليلة يبدأ الطور الثاني وهو طور التشكيل (التخلق) حيث يبدأ ظهور بعض الأعضاء، كالعينين واللسان (في الأسبوع 4) والشفتين (الأسبوع 5)، ولكن لا تتضح المعالم إلاّ في نهاية الأسبوع 8، وتظهر نتوءات الأطراف (اليدين والساقين) في هذا الطور.

تأملات من القرآن والسنة

لغوياً تعني “المضغة” المادة التي لاكتها الأسنان ومضغتها، وهي تعطي وصفاً دقيقاً لواقع هذه المرحلة الجنينية؛ حيث يصبح شكل الجنين مثل المادة الممضوغة التي يتغير شكلها باستمرار، وحيث تظهر فلقات الكتل البدنية (Somites) في الجنين، واختلافها يشبه شكل “طبع الأسنان” على اللقمة, كذلك يدور الجنين ويتقلب في جوف الرحم كتقلب القطعة الممضوغة في الفم.

يأتي طور المضغة بعد طور العلقة، وهذا الترتيب يطابق ما ورد في الآية الكريمة: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} (المؤمنون: 14).
من صفات المضغة أنها تستطيل ويتغير شكلها عند مضغها، وهذا ما يحصل تماماً للجنين في هذه المرحلة. وكما ذكرنا فللمضغة طور باكر قبل أن تشكّل وتخلق الأعضاء، وطور آخر بعد بدء تشكل الأعضاء كما قال البيان القرآني: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى” ( الحج :5)، إذن هناك طوران للمضغة: المضغة غير المخلقة والمضغة المخلقة، وينتهي هذا الطور بشقيه في الأسبوع 6 (أي بعد 40 يوما)، وقد أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها”.
ولفتة أخرى أيضاً، وهي أن بعض الأعضاء تتخلق قبل غيرها؛ فالعينان واللسان (الأسبوع 4) تتخلق قبل الشفتين (الأسبوع 5)، والبيان القرآني يقدم العينين واللسان على الشفتين: “أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ” (سورة البلد: 8-9).

الطور الرابع العظام الحقائق العلمية الثابتة:

خلال الأسبوع 6 يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم، ولكن لا ترى في الجنين ملامح الصورة الآدمية حتى بداية الأسبوع 7؛ حيث يأخذ شكل الجنين شكل الهيكل العظمي. ويتم الانتقال من شكل المضغة إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة خلال نهاية الأسبوع 6 وبداية الأسبوع 7، ويتميز هذا الطور بظهور الهيكل العظمي الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي.

تأملات من القرآن والسنة

إن مصطلح العظام الذي أطلقه القرآن الكريم على هذا الطور هو المصطلح الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة الجنين تعبيرًا دقيقًا يشمل المظهر الخارجي، وهو أهم تغيير في البناء الداخلي وما يصاحبه من علاقات جديدة بين أجزاء الجسم واستواء في مظهر الجنين، ويتميز بوضوح عن طور المضغة الذي قبله، قال تعالى: “فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ” (المؤمنون: 14).

وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا الطور؛ حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح الصورة الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز أياما قليلة خلال نهاية الأسبوع 6 (ولهذا استعمل حرف العطف “ف” الذي يفيد التتابع السريع)، وهذا الهيكل العظمي هو الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي بعد أن يكسى باللحم (العضلات) وتظهر العينان والشفتان والأنف، ويكون الرأس قد تمايز عن الجذع والأطراف، وهذا مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا مرّ بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا ربّ أذكر أم أنثى؟” صحيح مسـلم. بعد أن يمر على النطفة 42 ليلة (6 أسابيع) يبدأ التصوير فيها لأخذ الشكل الآدمي بظهور الهيكل العظمي الغضروفي، ثم تبدأ الأعضاء التناسلية الظاهرة بالظهور فيما بعد (الأسبوع 10) .
وفي الأسبوع السابع تبدأ الصورة الآدمية في الوضوح؛ نظراً لبداية انتشار الهيكل العظمي، فيمثل هذا الأسبوع (ما بين اليوم 40 و45) الحد الفاصل ما بين المضغة والشكل الإنساني.


د. شريف كف الغزال