عندما نتحدث عن الأطفال والأمراض المعدية نكتشف أن بلدان الدول النامية (العالم الثالث) تفقد أكثر من 15 مليون طفل سنويًّا بسبب الأمراض المعدية الفتاكة التي تحصد أرواح فلذات أكبادها، والذين من الممكن إنقاذهم في ذلك العالم الفقير البائس إذا ما توفرت لهم اللقاحات والأمصال اللازمة؛ لتجنب مثل هذه الأخطار المحدقة، وعلى النقيض، خطت الدول المتقدمة خطوات شاسعة للقضاء على الأمراض المعدية الفتاكة والتي اندثر منها الكثير وأصبح في ذمة التاريخ.

وعلماء الدول المتقدمة والدول الفقيرة يقدرون حجم هذه المشكلة، والكل يعرف العلاج الناجع لإنقاذ حياة هذه المليارات من البشر، إنه وبكل بساطة أَن يلقح أولئك الأطفال بالطعوم (اللقاحات والأمصال) التي تصد أخطر الأمراض المعدية مثل الالتهاب الكبدي بي، والكوليرا، والسعال الديكي، والسل، وشلل الأطفال وأنواع أخرى مميتة من الإسهال.

إذن أين المشكلة في علاقة الأطفال والأمراض المعدية؟..المشكلة الرئيسة هي الفقر الذي يجعل تطعيم مثل هذا الكم من البشر في حكم المستحيل في ظل التكنولوجيات الحالية؛ حيث لا تملك مثل هذه الدول الفقيرة الأموال والموارد الكافية لدرء خطر مثل هذه الأمراض التي من الممكن أن تشكل رعبًا مستمرًا لحوالي 20 بالمائة من الأشخاص اليافعين أيضًا، الذين يظلون عرضة للأمراض المروعة، إذا لم تتوفر لهم الطعوم اللازمة، وذلك حسب آخر تقارير منظمة الصحة العالمية.

في موضوع الأطفال وتالأمراض المعدية، توفر التكنولوجيا الحالية لقاحات وطعومًا يتم تناولها عن طريق الحقن، باستثناء وحيد هو طعم شلل الأطفال الذي يتناول عن طريق الفم. وهذه الحقن غالية الثمن وصعبة التواجد والتداول في كثير من دول العالم الثالث لضرورة نقلها مبردة من نقطة التصنيع إلى مكان الاستعمال، وتحتاج إلى أطقم طبية مدربة لإعطاء اللقاحات على خير وجه.

ومن هنا وجب البحث عن بديل لينقذ حياة هؤلاء المساكين المعدمين، وظهر البديل سريعًا في صورة المارد الجديد “الهندسة الوراثية”، والذي يناط به تلبية أشد الطلبات غرابة. وبالفعل لقد أصبح بالإمكان هندسة النباتات وراثيًّا لتعطي لقاحًا لمقاومة بعض الأمراض المعدية، ولتكون خطًّا مناعيًّا ودفاعيًّا للبعض الآخر. ولقد تمكن الباحثون من تحوير نباتات البطاطس، والبرسيم، والطماطم والموز حيث أصبحت “مصانع صيدلانية حية” قادرة على إنتاج لقاحات وأمصال لأمراض مميتة. ومثل هذه النباتات عالية القدرة Superpower Plants من المكن أن تنقذ بلايين الأرواح بشكل خاص في الدول الفقيرة التي تفتقر إلى الكثير من الأمصال والطعوم الطبية وتعاني من تفشي الكثير من الأمراض المعدية لندرة الرعاية الصحية أو انعدامها.

خطوات خضراء مضيئة

“شارلز آرنزين” أول من تبنى فكرة هندسة النباتات وراثيًّا لإنتاج الأمصال واللقاحات القابلة للأكل، ويعد “شارلز آرنزين” -الأستاذ بكلية الفنون والعلوم جامعة ولاية “آريزونا” الأمريكية- من أوائل العلماء الذين تبنوا فكرة إنتاج الطعوم الصالحة للأكل وذلك بغرسها داخل الخضر والفاكهة باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية. وأخذ على عاتقه أَن ينقذ حياة بلايين الأطفالِ المهددين بالموت نتيجة للأمراض المعدية المميتة.

أجرى “آرنزين” وزملاؤه تجارب علمية ناجحة في توليد استجابة تحصنية مناعية لبكتيريا “إى كولي” E-Coli في الإنسان باستخدام مصل من البطاطس المحورة وراثيا ونشرت هذه النتائج عام 1998م. كما نجح الفريق البحثي نفسه في إنتاج مصل لفيروس “نورووك” في نبات البطاطس، باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية، ويسبب هذا المرض عدة أعراض مثل الغثيان، التقيؤ وآلام المعدة والإسهال واشتق اسم هذا الفيروس بعد إصابة 100 طالب تقريبًا في وقت واحد عام 1968م بمدرسة في “نورووك” بولاية “أوهايو” الأمريكية، وقد حار العلماء في ذلك الحين في تحديد المسبب المرضي، وبعد أربع سنوات كاملة أدرك العلماء أنّ المسبب المرضي كان فيروسًا، وسمي هذا الفيروس بالاسم السابق نفسه تخليدًا لمكان اكتشافه لأول مرة، وينقل هذا الفيروس عن طريق الغذاء في الولايات المتحدة وكثير من دول العالم المتقدّم. ولقد تأكد نجاح التجارب الإكلينيكية (السريرية) البشرية الأولى للمصل في شهر يوليو 2000م.

مصل مضادّ للالتهاب الكبدي بي في البطاطس

أعلن الباحثون الأمريكيون “هف ماسون” و”تشارلز أرنتزين” وآخرون يوم الإثنين 30/10/2000م أنهم توصلوا إلى عمل مصل صالح للأكل للوقاية من الالتهاب الكبدي الفيروسي بي الذي يصيب البلايين من الناس والذي يمكن أن يؤدّي إلى مرض الكبد، والسّرطان وإلى الموت السريع. وتم إنتاج نبات بطاطس مهندسا وراثيا لينتج المصل في أنسجته وخلاياه. ويشابه هذا المصل نظيره المحقون الذي يستعمل الآن على نطاق واسع حول العالم.

واختار الباحثون في معهد “بويس ثومبسون” بجامعة “كورنيل” الأمريكية مرض الالتهاب الكبديّ بي بسبب أهميته الكبيرة، وانتشاره في كلّ أنحاء العالم، ويقدر أن حوالي بليونين من البشر مصابون أو يحملون عدوى الالتهاب الكبديّ بي مما يعظم الحاجة لكميات كبيرة من الأمصال المضادة لهذا المرض.

كيف تم ذلك؟ اكتشف العلماء منذ سنوات أن جينا يشفر لبروتين يسمى (هبساج) HbsAg يمكن استخدامه كعلاج مناعي ظاهري للالتهاب الكبديّ بي، وبنقل هذا الجين لفطرة الخميرة، تمكنت من إنتاج هذا البروتين بكميات كبيرة، وبذلك أمكن استخدامه كمصل للوقاية من المرض.

وتحتوي الأمصال واللقاحات الخاصة بالأطفال والأمراض المعدية التي تفتك بهم، بشكل عام على أجسام غريبة عن الجسم “الأنتيجن” على هيئة ميكروبات مضعفة أو ميتة، أو سموم بكتيرية مثبطة، أو بعض البروتينات الغريبة عن الجسم والتي تنشط وتحفز الجسم لإنتاج الأجسام المضادة لفيروس أو لبكتيريا غازية لخلايا الجسم. وتنتج اللقاحات والأمصال بحقن الإنتجينات في أجسام بعض الحيوانات كالبقر والماعز والأرانب، ويتم الحصول على الأجسام المضادة الجاهزة. وتعد هذه المرة الأولى التي يتم فيها إنتاج مصل مقاوم للالتهاب الكبديّ بي في النباتات، وأظهرت التجارب التي أجريت على الفئران بعد تغذيتها بالبطاطس المحورة وراثيا، تواجد أجسام مناعية في دمائها مما عزز الفكرة وأكد أن هذا الطريق من الممكن أن يكون إستراتيجيّة عملية لإنتاج الأمصال.

وفي الجزء الثاني من الدراسة فحص الباحثون الطرق المتنوعة لتزويد حصيلة إنتاج “الهبساج” في البطاطس، فالمحصول الكافي من الأنتجن البروتيني يعتبر عاملا حاسما لنجاح الأمصال الصالحة للأكل؛ لأنّ المعدة والأمعاء تهضم معظم البروتين قبل أن يصل لجهاز المناعة. وقد توصل الباحثون لأحسن نتائج بعد إجراء بعض التعديلات في نهاية تتابع الـ”دي إن إيه” (دنا) المشفر للبروتين وقد يثبّت هذا التعديل إشارة “أر إن إيه” (رنا) الرسول الذي يترجم لبروتين بعد ذلك.

وأجرى باحثو “كورنيل” دراسة صغيرة لم تكتمل على المتطوعين البشريين، وذلك لعدم وجود التمويل اللازم حيث قامت شركة “بريتيش-بيسد” الممولة لهذه البحوث بتجميد نشاطها في الهندسة الوراثية نتيجة للمخاوف الأوربية من الأغذية المحورة وراثيًّا.

ويعتقد “ماسون” الذي قاد الفريق أن البطاطس لن يكون النبات النهائي الذي سيستعملونه لأمصالهم فهو يحلم بنقل الجين إلى الحبوب أو السّبانخ أو الطماطم أو بعض أنواع الطعام الأخرى مثل سكر النبات حيث يكون المصل أكثر ثباتا وأكثر سهولة في التوزيع، ويعتقد أن تسويق الأمصال النباتية الصالحة للأكل سوف يتطلب تعاونًا وثيقًا بين الصناعات الصيدلية والزراعية.

ويقدر أن أكثر من 23 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها يصابون سنويًّا بفيروس نورووك أو بفيروسات نورووك-لايك، مقارنة بحوالي 79,000 حالة تنشأ عن التلوّث البكتيري ببكتريا “إي كولي” وحوالي 4.1 ملايين حالة تسمم من السالمونيلا.

وللعلم في مسألة الأطفال والأمراض المعدية، سوف تكون الخطوة القادمة هي الإنتاج التجاري للأمصال الصالحة للأكل ضدّ الفيروس “نورووك” وضدّ أشكال مرضية لبكتريا “إى.كولي” وكلاهما يسبب الإسهال. كما يتوقع إنتاج أمصال صالحة للأكل لعلاج النوع 1 من مرض السكر(السكري)، وللوقاية من الكوليرا، وحتّى من البكتيريا التي تسبّب تجاويف الأسنان.

حلم صعب المنال

ويتخوف “أرنتزن” وكثير من العلماء من عدم تحمس شّركاتِ الأدوية لمثل هذه البحوث حيث تقل الجدوى الاقتصادية وتنحسر بعد إنتاج النبات الحاوي للقاح، وسيكون بإمكان أي مزارع بسيط إنتاج كميات لا بأس بها من الطعوم بدون مجهود يذكر. ولاستكمال مثل هذه البحوث يجب استمرار التمويل من الجهات الخيرية والجمعيات الأهلية، والمنظمات الدولية، حيث لا تعير شركات الأدوية العالمية فى الدول المتقدمة أي اهتمام بما يعانيه سكان الدول الفقيرة. وتتعرض شركات الأدوية العالمية لانتقادات عديدة من الكثير من الجهات التي تتهمها بالبحث عن الربح بالدرجة الأولى وتجاهل الأمراض الشائعة في دول العالم الفقيرة وقد جاء الانتقاد الأخير من وزيرة التنمية الدولية البريطانية، “كلير شورت”، التي قالت إن شركات الأدوية فشلت في الاستثمار في الأدوية التي تعالج أمراض الفقراء وقالت أيضا: إن المزيد من الأدوية واللقاحات مطلوبة بشكل عاجل لمعالجة أمراض الملاريا والتدرن والإيدز التي تقتل الملايين في دول العالم النامي، وأضافت أننا نعيش في عالم يتميز بالاكتشافات التقنية التي يمكن أن تجلب المنافع الهائلة للبشرية، لكن الحقيقة مختلفة تماما؛ إذ إن معظم الجهود تستهدف الأمراض التي يعاني منها العالم الصناعي، وإن الحاجة لتحقيق الأرباح من الاستثمارات وبناء أسواق كبيرة للمنتجات قد جعلت شركات الأدوية الرئيسية تميل إلى تجاهل الأمراض التي تنتشر في الدول الفقيرة، وصرحت بأن عشرة في المائة فقط من الأموال المخصصة للأبحاث تنفق على الأبحاث المتعلقة بالأمراض التي تؤثر على تسعين في المائة من الفقراء في العالم.

وقالت الوزيرة إنه كان مؤملا من العولمة، التي أوجدت شراكات عالمية كبيرة، أن تُحفِّز الاستثمارات في صناعة الأدوية واللقاحات لمعالجة الأمراض الرئيسية التي تنتشر في دول العالم الثالث.

ومن ناحية أخرى، ما زالت هذه التقنية فى مهدها وتحفها بعض المشاكل مثل صعوبة وصول البروتينات المستحثة للأجسام المناعية إلى الدم لضرورة مرورها بالقناة الهضمية للإنسان، ولكن مثل هذه الصعوبات تتاح لها الحلول بقليل من البحث المظم. وأظهرت هذه التقنية نجاحا مبدئيا في إنتاج لقاح لمرض الإيدز اللعين، ولقد ظهرت بعض النتائج الإيجابية تمثلت في نقل بعض الأحماض الأمينية الخاصة بالفيروس إلى مجموعة من النباتات، والتي أظهرتها بعد زراعتها، مما يعضد من استخدام هذه التقنية في إنتاج الطعوم واللقاحات لكثير من الأمراض التي حار فيها الإنسان كثيرا على مر العصور.


طارق يحيى قابيلجامعة كليمسون – جنوب كارولينا21/11/2000