اختلفت الفرق النصرانية في طبيعة المسيح عليه السلام ،بين قائل :إنه ابن الله ،وبين قائل :إنه إله ،وبين قائل :إنه بشر يوحى عليه ،وقد أنعم الله عليه ،وهو عبد ملهم من الله ،وغير ذلك ،ولكن الذي استقرت عليه المجامع النصرانية في مؤتمراتها العالمية هي نفي بشرية المسيح ،مع بقاء الاختلاف بين أنه إله أو ابن للإله،ولكن الإسلام جاء ليقرر الحق ،من كون عيسى عبد الله ،وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

المسيح عليه السلام واختلاف أهل ملته حوله:

يقول الدكتور عمر الأشقر أستاذ الفقه والأصول بالجامعات الأردنية: لا شك أن ما جاء به عيسى ـ عليه السلام ـ من عند ربه هو التوحيد الخالص والإقرار بالعبودية التامة لله شأن كل رسول ، ولكن هذه العقيدة الناصعة أُدخلت عليها التحريفات ؛ بسبب دخول الوثنيين في النصرانية ؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد ، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها .

وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح ـ عليه السلام ـ في تلامذته وفي أتباعهم ، وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت ـ وهو إنجيل برنابا ـ يتحدث عن عيسى ـ عليه السلام ـ بوصفه رسولاً من عند الله ، ثم وقعت بينهم الاختلافات ، فمن قائل : إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل ، ومن قائل : إنه رسول نعم ، ولكن له بالله صلة خاصة . ومن قائل : إنه ابن الله لأنه من غير أب ، ولكنه على هذا مخلوق الله . ومن قائل : إنه ابن الله وليس مخلوقـًا ، بل له صفة القدم كالأب .

ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام ” 325 ” ميلادية (مجمع نيقية) الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفـًا من البطارقة والأساقفة ، قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية : وكانوا مختلفين في الآراء والأديان ، فمنهم من كان يقول : إن المسيح وأمه إلهان من دون الله ، وهم (البربرانية) ، ويسمون (الريمتيين) .

ومنهم من كان يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها، وهي مقالة (سابليوس) وشيعته.
ومنهم من كان يقول : لم تحبل به مريم تسعة أشهر ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب ؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها ، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها ، وهي مقالة (إليان) وأشياعه .

ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وإن ابتداء الابن من مريم ، وإنه اصطفي ليكون مخلصـًا للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهية ، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي ” ابن الله ” .

ويقولون : إن الله جوهر قديم واحد ، وأقنوم واحد ، ويسمونه بثلاثة أسماء ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بروح القدس ، وهي مقالة ” بولس الشمشاطي ” بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم (البوليقانيون) .

ومنهم من كان يقول : إنهم ثلاثة آلهة لم تزل : صالح ، وطالح ، وعدل بينها ، وهي مقالة (مرقيون) اللعين وأصحابه ! وزعموا أن (مرقيون) هو رئيس الحواريين ، وأنكروا (بطرس) . ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح ، وهي مقالة (بولس الرسول) ، ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفـًا .

وقد اختار الإمبراطور الروماني (قسطنطين) الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ، ولم يكن يدري شيئـًا عن النصرانية ! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم ، وشرد أصحاب سائر المذاهب ؛ وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده ، وناسوتية (إنسانية )المسيح .

وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه : ” إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودًا فيه ، وأنه لم يوجد قبل أن يولد ، وأنه وجد من لا شيء ، أو من يقول : إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب ، وكل من يؤمن أنه خلق أو من يقول : إنه قابل للتغيير ، ويعتريه ظل دوران ” .

ولكن هذا المجمع بقراراته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع (آريوس) ، وقد غلبت على القسطنطينية ، وأنطاكية ، وبابل ، والإسكندرية ، ومصر .

ثم سار خلاف جديد حول (روح القدس) فقال بعضهم : هو إله ، وقال آخرون ليس بإله ، فاجتمع (مجمع القسطنطينية الأول) سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر .

وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع ، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية : ” قال ثيموثاوس بطريرك الإسكندرية : ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله ، وليس روح الله شيئـًا غير حياته ، فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق ، فقد قلنا : إن روح الله مخلوق ، وإذا قلنا : إن روح الله مخلوق ، فقد قلنا : إن حياته مخلوقة ، وإذا قلنا : إن حياته مخلوقة ، فقد زعمنا أنه غير حي ، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به ، ومن كفر به وجب عليه اللعن ” .

وكذلك تقررت ألوهية (روح القدس) في هذا المجمع ، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية ، وتم (الثالوث) من الآب ، والابن ، وروح القدس .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية ، أو اللاهوت والناسوت كما يقولون ، فقد رأى (نسطور) بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنومـًا وطبيعة ، فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ؛ وطبيعة الإنسان ، وقد ولدت من مريم ، فمريم أم الإنسان ـ في المسيح ـ وليست أم الإله ، ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم ـ كما نقله عنه ابن البطريق : ” إن هذا الإنسان الذي يقول : إنه المسيح ، بالمحبة متحد مع الابن ، ويقال : إنه الله وابن الله ، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة ” .

ثم يقول : ” إن نسطورا ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلهـًا في حد ذاته ، بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة ، أو هو ملهم من الله ، فلم يرتكب خطيئة ، وما أتى أمرًا إدًا ” . وخالفه في هذا الرأي أسقف رومه ، وبطريرك الإسكندرية ، وأساقفة أنطاكية ، فاتفقوا على عقد مجمع رابع ، وانعقد (مجمع أفسس) سنة ” 431″ ميلادية ، وقرر هذا المجمع ـ كما يقول ابن البطريق ـ : ” أن مريم العذراء والدة الله ، وأن المسيح إله حق وإنسان ، معروف بطبيعيتين ، متوحد في الأقنوم ” ، ولعنوا نسطورا !
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد ، انعقد له (مجمع أفسس الثاني) ، وقرر : ” أن المسيح طبيعة واحدة ، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت ” .

ولكن هذا الرأي لم يسلم ؛ واستمرت الخلافات الحادة ، فاجتمع مجمع (خلقيدونية) سنة “451” وقرر : ” أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة ، وأن اللاهوت طبيعة وحدها ، والناسوت طبيعة وحدها ، التقتا في المسيح ” ، ولعنوا مجمع أفسس الثاني .
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع ، ووقعت بين المذهب المصري (المنوفيسية) والمذهب (الملوكاني) الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية .

ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح ؛ والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف ، وما تزال إلى اليوم ثائرة .

المسيح عليه السلام عند أهل الإسلام:

وتجئ الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذه القضية ، ولتقول كلمة الفصل ؛ ويجئ الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم…)[المائدة/17 ، 72] ، (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ…) [المائدة/73] .

ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع : (…قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً…)[المائدة/17] . فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه ، وبين ذات عيسى ـ عليه السلام ـ وذات أمه ، وكل ذات أخرى ، في نصاعة قاطعة حاسمة ، فذات الله سبحانه واحدة ، ومشيئته طليقة ، وسلطانه متفرد ، ولا يملك أحد شيئـًا في رد مشيئته ، أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعـًا . وهو سبحانه مالك كل شيء ، وخالق كل شيء ، والخالق غير المخلوق ، وكل شيء مخلوق : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة/17] .

وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية ، ووضوحها وبساطتها ، وتزيد جلاءً أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب ، وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية في تقرير حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين ، بلا غبش ولا شبهة ولا غموض .