أشبه ما يكون بورقة التعليمات التي تصاحب الآلات.. يأتي فيها اسم أجزاء الآلة ووظيفتها، وآلية تركيبها وتفكيكها.. موجودة داخل كل خلية من خلايا كل كائن حي.. خريطة مفصلة لكل صفاته.. يرثها منه أبناؤه.. وفي الذكرى الخمسين لاكتشاف اللولب المزدوج الذي يحمل هذه الخريطة.. نحكي لكم قصته.

تبدأ أحداث القصة عام 1928 عندما بدأ التعرف لأول مرة على أن الحمض النووي هو مادة الوراثة، بعد تجربة شهيرة أجراها العالم “جريفيث”، وأشار فيها إلى أن هناك “مادة” يمكن أن تغير التركيب الوراثي للبكتريا. وتم التحقق من أن هذه المادة هي الحمض النووي “حمض نواة الخلية” عام 1944م بواسطة عالمين أمريكيين، هما “آفري” و”مكلويد”. ثم أجريت تجارب أخرى عديدة بعد ذلك، وأثبتت جميعها أن الحمض النووي الديوكسي ريبوزي هو الحمض الذي يحمل الصفات الوراثية التي تنسق جميع العمليات الحيوية في الخلية الحية.

وفي عام 1953م تم اكتشاف التركيب الجزيئي للحمض النووي؛ حيث وضع العالمان “جيمس واطسون” و”فرانسيس كريك” من مختبر “كافنديش” في جامعة “كامبردج” نموذجًا للحمض النووي يسمى بـ”اللولب المزدوج”، ونشر نبأ الاكتشاف في مقال علمي مقتضب، عرف رسميا بأنه “رسالة” باسم “واطسون” و”كريك” في عدد مجلة “نيتشر” العلمية في 25 أبريل 1953م.

ومن الطريف أن “واطسون” و”كريك” لم يجريا أي تجربة عملية، ولم يحملا أنبوبة اختبار واحدة للتوصل لهذا الكشف المثير، ولكنهما وضعا نموذجهما استنادًا إلى البيانات التي وفرها باحثون في مختبرات جامعة “كامبردج” على مدى 3 سنوات، وكان من أهمهم البروفيسور “موريس ولكنز” الذي استخدم الأشعة السينية (أشعة أكس) لدراسة وتحليل الحمض النووي، وساعدته في ذلك الدكتورة “روزلندا فرانكلين” التي ساهمت في التقاط العديد من الصور للحمض النووي في عام 1952م. وكشفت هذه الصور النقاب عن التركيب الجزيئي للحمض النووي، وبنى “واطسون” و”كريك” نموذجهما للحمض النووي بعد أسبوعين فقط من الحصول على الصور. وباكتشافهما لحقيقة أن جزيئات الحامض النووي تكون تركيبا لولبيا مزدوجا، يشابه السلم الملتوي، تبين كيف يمكن للحمض النووي أن ينسخ نفسه.

عجائب اللولب المزدوج

ويتألف جزيء الـ”دي إن إيه” من شريطين يلتفان حول بعضهما باتجاه عقارب الساعة، حول محور واحد؛ أحدهما يتجه إلى أعلى والآخر إلى أسفل، على هيئة سلم حلزوني مزدوج. وكل شريط عبارة عن خيط من وحدات كيماوية تسمى النيوكلتيدات. والنيوكلتيدات من أربعة أصناف لا تختلف إلا في نوع القاعدة النيتروجينية. وهذه القواعد النتروجينية هي: “الأدنين” Adenin، و”الثايمين” Thymine، و”السيتوسين” Cytocine، و”الجوانين” Guanin.

وتشكل هذه القواعد أزواجا؛ فقاعدة “الأدنين” ترتبط دائما بـ”الثايمين”، بينما ترتبط “الجوانين” بـ”السيتوسين”. وتتوزع القواعد بالترتيب على اللولب المزدوج؛ بحيث يوجد 10 أزواج فقط على كل دورة لولب مزدوج. وتشكل القواعد كلمات وجملا وراثية تحفظ المعلومات الوراثية للكائن الحي من الإنبات إلى الممات، على هيئة جينات، وتتطابق كل مجموعة مؤلفة من ثلاثة أحرف مع حامض أميني واحد.

ولقد كشفت الدراسات الحديثة أن للولب المزدوج خصائص مذهلة، لا سيما في العلاقة بين التركيب والوظيفة التي تؤكد أن التصميم الدقيق لهذا اللولب المزدوج المثير يشير بقوة إلى قدرة إبداع الخالق.

فلك أن تعلم أنه إذا تم تمديد جديلة الـ”دي إن إيه” الموجودة في أي خلية من خلايا الإنسان فسيبلغ طولها مترين. وإذا وضعت جميع جزيئات الحمض النووي للجسم البشري سوية من نهايات أطرافها؛ فإنها قد تصل إلى الشمس وترتد أكثر من 600 مرة.

هناك ستة أقدام من الـ”دي إن إيه” في كل خلية من الخلايا البشرية موجودة في تركيب لا يتجاوز قطره 0.0004 من البوصة. وهناك 3.1 مليارات حرف من الـ”دي إن إيه” في كل خلية من الخلايا البشرية البالغ عددها 100 تريليون خلية.

يختزن الجرام الواحد من الـ”دي إن إيه” معلومات بقدر ما يختزنه ألف مليار قرص كومبيوتر، ويستطيع محلول الـ”دي إن إيه” أن ينجز 2 × 1910 عملية ربط بالجول الواحد في درجة حرارة الغرفة، علمًا بأن أفضل الكمبيوترات الحالية ينجز 910 عملية فقط بالجول الواحد، وأن الحد الأقصى الذي لا يمكن تجاوزه ثرموديناميكياً هو 34 × 1910 عملية في الجول الواحد. والمعلومات الموجودة في الـ”دي إن إيه” يمكن أن تملأ مجموعة من الكتب يصل ارتفاعها إلى 60 مترًا أو 200 دليل هاتف، كل واحد منها مؤلف من 500 صفحة.

يتألف البشر من عدد من الجينات يتراوح ما بين 26500 و30000 جين بشري، وهو عدد يقل عن التقديرات السابقة التي تراوحت بين 60 و140 ألف جين. والمثير أن عدد الجينات في جينوم نبات الخردل تتساوى تقريبًا مع نفس عدد جينات الإنسان، كما أن خريطة الجينات للإنسان وللفئران تكاد تكون متقاربة تماما. كما أكدت الدراسات أنه ليس هناك أي أساس علمي للطبقات العنصريّة؛ حيث إن البشر متشابهون في حوالى 99.9% على مستوى الـ”دي إن إيه”.

قصة.. بلا نهاية

ورجوعًا للقصة.. فبعد عامين من اكتشاف الـ”دي إن إيه” تحقق “آرثر كورنبرج” من إمكانات نسخ الحمض النووي لنفسه. وفي عام 1960م تمكن مارشال “نيرنبرج” و”هار خولانا” و”سيفيرو أكوا” من التحقق من أن 3 أحرف من الأحرف الأربعة للحامض النووي تشكل رمزًا لأحماض أمينية. وفي السبعينيات تمكن العلماء من التعرف على حروف الحمض النووي، ثم تمكنوا من قطع ولصق أجزاء من الحمض النووي، ثم تمكنوا من نسخه بعد ذلك.

في عام 1983م استطاع العالم الأمريكي “كاري موليس” أن يطور طريقة لاستنساخ آلاف النسخ من الحمض النووي؛ وهو ما وضع أسس الهندسة الوراثية الحديثة. ثم توجت أبحاث العلماء في نهاية القرن العشرين بدراسة، ووضع جينوم الحيوانات، وفي منتصف عام 2000م وضعجينوم الإنسان(الأطلس الوراثي البشري)، ليعلن اكتماله هذا العام 2003، وتستمر قصة اكتشاف أسرار اللولب المزدوج.. ولا نعلم إلى أين ستنتهي؟

وقد أقيمت عدة احتفالات في المحافل العلمية العالمية للاحتفال بالذكرى الخمسين لاكتشاف اللولب المزدوج، وقامت بعض الدوريات العلمية بتخصيص أعداد كاملة للاحتفال بهذا العمل التاريخي. كما أصدرت دار سك العملات الملكية في بريطانيا قطعة نقدية جديدة ضمن الاحتفالات المقامة في الذكرى الخمسين لاكتشاف بنية الحمض النووي.

ويمثِّل التصميم الخلفي لقطعة النقد الجديدة الصادرة في فئة الجنيهين الإسترلينيين بنية جزيء “دي إن إيه” الفريدة، وقد وردت على طرفها عبارة “الحمض النووي الديوكسي ريبوزي”. كما طُرحت في السوق نسخ خاصة بأصحاب المجموعات مصنوعة من الفضة والذهب، ونسخة مخصَّصة للتداول.

وما زاد روعة الاحتفالات هو أن “جيمس واطسون” و”فرانسيس كريك” و”موريس ولكنز” الحاصلين على جائزة نوبل للطب والفسيولوجيا عام 1962م لإسهامهم في هذا الاكتشاف الكبير لا يزالون على قيد الحياة. ولم تحصد “روزلندا فرانكلين” البطلة المجهولة في هذا الاكتشاف إلا الذكرى العطرة؛ نظرا لرحيلها عن الحياة مبكرا.

طارق قابيل – متخصص في علوم الوراثة الجزيئية والخلوية والتكنولوجيا الحيوية، عضو هيئة التدريس بقسم النبات –كلية العلوم– جامعة القاهرة

هوامش ومصادر:

  • البيان الإماراتية، سرُّ الحمض النووي يظهر على نقود جديدة، 27 مايو 2003م.

  • جريدة الشرق الأوسط، العالم يحتفل بالذكرى الخمسين لاكتشاف الحامض النووي، العدد: 8914 – 24 إبريل 2003م.

  • د. سامية التمتامي، الوراثة البشرية.. الحاضر والمستقبل، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1996م.

  • دانييل كيفلس وليروي هود، الشفرة الوراثية للإنسان، القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري، ترجمة د. أحمد مستجير، عالم المعرفة، العدد 217، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، يناير 1997م.

  • طارق يحيى قابيل، نباتات حسب الطلب، مجلة العربي الكويتية، العدد 471، 1998م.

  • The structure of DNA, Camberidge University, 2003.

  • DNA 2003, Camberidge University, 2003.

  • Double helix: 50 years of DNA, Nature magazine, 2003.

  • Watson J. and Crick F (1953). A Structure for Deoxyribose Nucleic Acid Nature 171, 737.