دخل المسلمون شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) فاتحين سنة (92هـ=711م)، وأشاعوا فيها الخير والسلام، وعمّروا نواحيها بالسماحة والعدل وأقاموا بها مجدا تليدا وحضارة سامقة، ما تزال آثارها في أشبيلية وغرناطة وقرطبة وطليطلة شاهدة على ما بلغته تلك البلاد تحت حكم المسلمين من رقي وتقدم وغنى وازدهار.

وقبل أن يطأ المسلمون بأقدامهم هذه البلاد كانت طليطلة تعد أهم المدن قاطبة في شبه الجزيرة، فقد كانت حاضرة القوط السياسية، وعرفت بالمدينة الملكية أو مدينة الملوك، ومنها كانوا يغزون عدوهم، وإليها كانت تجتمع جنودهم كما يقول ابن حيان المؤرخ الأندلسي المعروف، وفي الوقت نفسه كانت مقر الكرسي الأسقفي في أيبيريا منذ أن اتخذ الملك القوطي ريكارد الكاثوليكية مذهبا رسميا للقوط سنة 587م.

وكانت طليطلة من أمنع المدن هناك؛ بسبب موقعها على المنحدرات الصخرية العالية الممتدة حتى ضفاف نهر تاجة الذي يحيط بها من الشرق والغرب والجنوب، وبسبب أسوارها العالية وقلاعها الحصينة، وظلت طليطلة أعظم مدن أيبيريا, وأعلاها مكانة حتى الفتح الإسلامي.

ولم يكد المسلمون يحققون انتصارهم في معركة وادي لكة أو معركة شذونة بقيادة طارق زياد سنة (92هـ=711م)، وهو النصر الذي فتح لهم أبواب البلاد، حتى كانت وجهتهم مدينة طليطلة عاصمة البلاد التي تبعد عن أرض المعركة بنحو ستمائة كيلومتر، ولم يمنعهم طول المسافة ولا وعورة الطريق عن إنجاز مهمتهم التاريخية حتى تحقق لهم ما يريدون، وفتحوا طليطلة، وعاملوا أهلها معاملة حسنة ولم يمسوا مقدسات المدينة بأي سوء، وحافظوا على كنائسها وأديرتها، وبدأت صفحة جديدة في تاريخها المجيد.

لم تعد مدينة الملوك

وبعد أن أتم المسلمون الفتح اتخذوا من أشبيلية عاصمة لدولتهم الوليدة، ثم لم يلبث أن استبدلوا بها مدينة قرطبة التي ظلت حاضرة للدولة الإسلامية في الأندلس قرونا عديدة، ولم يتخذوا طليطلة أبدا عاصمة لدولتهم، على الرغم مما تتمتع به المدينة من مزايا إستراتيجية تجعلها دون غيرها أولى المدن الأندلسية بأن تكون عاصمة المسلمين هناك.

ويرى بعض المؤرخين المحدثين أن المسلمين ارتكبوا خطأ إستراتيجيا فادحا بعدم اتخاذهم هذه المدينة الحصينة عاصمة للأندلس؛ لأن موقعها المتوسط كان يسهل لهم الهيمنة على كل أنحاء شبه الجزيرة، ومراقبتها والاتصال بأطرافها على سبيل أسهل مما يستطيعه الحاكم المقيم في قرطبة، كما أنه يحفز الحاكم على تحقيق الوحدة للبلاد، ويمكّن المسلمين من مواصلة فتوحاتهم في غربي أوربا في سهولة ويسر، ويجهد العدو المهاجم في الوصول إليها.

وكلفت هذه الخطوة المسلمين كثيرا، وكانت عواقبها وخيمة على حركة الفتوحات الإسلامية التي تأثرت كثيرا بابتعاد عاصمة البلاد في الجنوب عن نطاق عملها فيما وراء جبال ألبرت، وهو ما أطال خطوط إمداداتها، وأجهد سيرها، بل كلف المسلمين خسارة الأندلس نفسها فيما بعد؛ لأنه بعد سقوط طليطلة سنة (447هـ=1084م) تداعت المدن الأندلسية واحدة بعد الأخرى.

طليطلة

وبعد الفتح سكنت طليطلة عناصر عربية وأخرى بربرية، بالإضافة إلى سكانها الأصليين من الأسبان الذين لم يغادروا مدينتهم بسبب المعاملة الحسنة التي لقوها بها من المسلمين الفاتحين، حيث سمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية في حرية تامة، وبقرع نواقيس كنائسهم دون حظر أو تقييد، وقد شجعت هذه المعاملة الحسنة أهالي المدينة على الدخول في الإسلام وترك المسيحية طواعية دون إكراه.

وظلت المدينة سنوات عديدة تعيش حياة هادئة دون قلاقل، ثم ما لبث أن تفجرت كل صور السخط والتمرد على السلطة المركزية في قرطبة بعد أن استقل بالأندلس عبد الرحمن الداخل، وذكر المؤرخون معلومات شحيحة لا يمكن التعويل عليها عن أسباب تلك الأحداث المتكررة، التي لا تكاد تخمد واحدة حتى تشتعل أخرى، وهو ما أجهد السلطة المركزية والمدينة الثائرة.

ولعل ما ساعد طليطلة على القيام بهذه المشاكل المتعاقبة هو حصانة موقعها الذي أشرنا إليه، واتساع مواردها الاقتصادية وتنوع ثرواتها، وهو ما مكنها من المقاومة والدفاع وتحمل الحصار لشهور طويلة، بالإضافة إلى ميل زعمائها إلى الثورة والخروج على السلطة التي لم تسلك معها سياسة حكيمة، فكانت في كل مرة تثور فيها المدينة تقوم بقمعها بأساليب بالغة القسوة والوحشية، تترك في النفوس إحنا وأحقادا لا يلبث الوضع بسببها أن يشتعل مرة أخرى، كلما وجدت المدينة فرصة للثورة والانتفاض.

وبدأ مسلسل هذه الاضطرابات المتعاقبة في عهد عبد الرحمن الداخل الذي انفرد بحكم الأندلس وأسس الدولة الأموية هناك، وكانت أولاها تمرد هشام بن عروة الفهري سنة (144هـ=761م)، ثم تكررت بعد ذلك عدة اضطرابات، لكنها وجدت يدا قوية نجحت في القضاء عليها.

وقعة الحفرة.. مأساة إنسانية

وفي عهد الأمير الحكم بن هشام الربضي شبت ثورة عارمة بطليطلة سنة (181هـ=797م) نجح هو في القضاء عليها، لكنه خشي من تكرار مثل هذه الفتن، فأراد أن يضع حلا لمنع حدوثها مستقبلا، فأعد واليه على طليطلة عمروس بن يوسف الوشقي خطة خبيثة بتوجيه من الحكم للقضاء على أهل طليطلة.

قامت تلك الخطة على أن يتقرب الوالي إلى أهل طليطلة ويتظاهر بكراهيته لبني أمية وسخطه على حكمهم حتى يأنسوا به ويميلوا إليه، فإذا وجد منهم ذلك أقنعهم ببناء معسكر خارج المدينة للجند والحشم حتى لا يخالطوا أهل المدينة، واختار لهم موقعا بنى فيه قصرا لسكناه، وحفر في وسطه حفرة عميقة.

وبعد أن أتم ذلك جاءت المرحلة الثانية من الخديعة التي أعدها الوالي لأهالي طليطلة، بأن قام الأمير الحكم في سنة (191هـ=806م) باستنفار الناس للخروج للجهاد لمحاربة العدو الأسباني، وجعل على جيشه ابنه عبد الرحمن، وكان صغير السن لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وأخرج معه ثلاثة من وزرائه إمعانا في الخداع والحيلة.

تحرك الجيش إلى هدفه المزعوم، فلما تجاوز طليطلة، جاءت الأخبار بانصراف العدو، وكرّ الجيش راجعا، وفي أثناء ذلك أوعز عمروس إلى أهالي طليطلة بالخروج لاستقبال الأمير الصغير، فلما أنسوا إليه، طلب منهم الوالي المخادع أن يدعو الأمير عبد الرحمن إلى مدينتهم فاستجاب لهم، فلما اقتربوا من المعسكر الذي سبق أن أقامه الوالي، أعلن عمروس دعوة وجهاء أهل طليطلة إلى مأدبة أقامها داخل القصر، فحضروا وكان قد رتب لهم الدخول من باب، وصُرفت دوابهم من باب آخر.

وجاءت اللحظة الحاسمة التي كان ينتظرها ويعد لها الأمير الحكم، حيث وقف السيافون على شفير الحفرة التي لم يكن يعلم أحد عن سبب حفرها داخل القصر، وضربوا رقبة كل من دخل من وجوه أهل طليطلة، حتى قتل منهم خمسة آلاف ونيف، ولم ينج الباقون إلا بعد أن اكتشف أحدهم الخديعة، فنجوا بأنفسهم.

غير أن هذه الجريمة القاسية التي ارتكبتها الدولة في حق بعض رعاياها لم تمنع أهالي طليطلة من الثورة مرة أخرى، غير أن ذكرى المذبحة البشعة جعلتهم يميلون إلى الطاعة وطرح الثورة والتمرد حتى توفي الحكم سنة (206هـ=821م)، وخلفه في الإمارة ابنه عبد الرحمن المعروف بالأوسط، وظلوا على هدوئهم ثماني سنوات من فترة حكمه حتى ثاروا ثورة عارمة في سنة (214هـ=829م) تزعمها رجل يعرف باسم هاشم الضراب.

نجح هاشم الضراب في تحريض أهالي طليطلة على الثورة، والتف حوله كثيرون، وتطلع إلى السيطرة على الثغر الأوسط كله غير قانع بطليطلة، فأرسل إليه عبد الرحمن الأوسط حملة عسكرية استطاعت الإيقاع بقواته والتمكن من قتله.

غير أن هذه النتيجة لم توقف الثورة، فاضطر عبد الرحمن الأوسط إلى إرسال جيش آخر بقيادة أخيه أمية لمحاصرة طليطلة سنة (219هـ=934م)، فحاصرهم حصارا شديدا وقطع أشجارهم وأتلف زروعهم، ونجح أحد قواده في أن يوقع بأهالي طليطلة ويعمل فيهم السيف، ويذكر ابن الأثير: أن رءوس القتلى جمعت وحملت إلى ذلك القائد الذي يدعى ميسرة، فلما رأى كثرتها عظمت عليه وارتاع لذلك، ووجد في نفسه غما شديدا، فمات بعد أيام يسيرة.

لم يكتف عبد الرحمن الأوسط بذلك، بل أرسل الحملات وراء الحملات، وأخذ يبدل في القادة، ولم يفك الحصار الصارم عن المدينة واستمر على ذلك حتى جهد أهلها وعجزوا عن المقاومة، وضاقوا ذرعا بالحصار، فنجحت قواته التي كانت بقيادة أخيه الوليد بن الحكم من اقتحام أسوار المدينة في (رجب 222هـ= يوليو 837م)، بعد أعوام عديدة من الفتن التي كان يغذيها روح التمرد، ودسائس النصارى من أهلها، وتحريض الفرنجة من أعداء الدولة الأموية بالأندلس.

معركة وادي سليط

شاءت الأقدار أن يكون عهد الأمير محمد الذي خلف أباه عبد الرحمن الأوسط في (4 من ربيع الآخر 238هـ=24 من سبتمبر 852م) بداية عصر من أشد عصور التاريخ الأندلسي خطرا على بني أمية وعلى دولة الإسلام في الأندلس، حيث لم تمض أيام قليلة حتى اشتعلت ثورة هائلة في طليطلة في منتصف (ربيع الآخر 238هـ= سبتمبر 852م) رفع خلالها أهلها روح التمرد والعصيان، وتمكن قادة الثورة من القبض على والي المدينة، ورفضوا إطلاق سراحه حتى أطلقت حكومة قرطبة رهائنهم المعتقلة، وكانت الحكومة المركزية قد دأبت على أخذ رهائن من وجهاء طليطلة حتى لا يعاودوا الثورة على الدولة.

وأمام هذه الأخطار المحدقة بالدولة لم يجد الأمير محمد بدا من الخروج بنفسه للقضاء على تلك الفتنة المستعرة، فسار إليها في (المحرم 240هـ= يونيو 854م) على رأس قوة كبيرة، وكانت أول حملة يقودها بنفسه بعد تبوئه الملك. وكان عماد الثورة هناك جمع كبير من المولّدين والنصارى الذين تحركهم روايات المتعصبين عن الاضطهاد الذي يلقاه إخوانهم في قرطبة.

ولما علم الثائرون بأنباء هذا التحرك بادروا بالاستعانة بالنصارى الأسبان، فأمدهم ملوكهم بقوات كبيرة، وخرج أهل طليطلة مع حلفائهم للقاء الأمير خارج المدينة حتى لا يقتحمها عليهم.

وضع الأمير خطة محكمة لجيشه لتحقيق النصر على أعدائه، فسار إلى وادي سليط القريب من طليطلة، وتقدم هو في أعداد قليلة من جيشه بعد أن كمن معظمه خلف التلال التي تحيط بالوادي، وأغرت هذه الأعداد القليلة أهالي طليطلة وحلفاءهم النصارى، فتقدموا للقائها على ثقة من تحقيق النصر، وعند ذلك ارتد محمد بجنوده متظاهرا بالهزيمة نحو وادي سليط، فلما تبعهم الثائرون انقضت عليهم الكمائن المختبئة ومزقتهم شر ممزق، وأبادوا جموعهم في ساعة من نهار، وقدر عدد القتلى بأحد عشر ألفا، وأسرت أعداد جمة،كان من بينها كثير من القساوسة الذين أعدموا على الفور.

نهاية الفتن

وعلى الرغم من تلك الهزيمة القاسية التي لحقت بأهالي طليطلة، فقد استمروا على تمردهم وعصيانهم، وهو ما جعل الأمير محمد يتخذ تدابير وقائية للسيطرة على المدينة الثائرة طوال فترة حكمه التي امتدت خمسة وثلاثين عاما، ولم تنقطع اضطرابات طليطلة إلا في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي نجح في إحكام قبضته عليها بعد عدد من الحملات العسكرية عليها، ثم اتبع معها سياسة رشيدة، فأمن أهلها واهتم بتنظيم أحوالها وشئونها، وصارت قاعدة تنطلق منها الجيوش المسلمة لرد غزو النصارى الأسبان.


أحمد تمام