قال معزيا: رحمة الله على الفقيد  وأحسن الله عزائكم، قلت: الرجل لم يمت فقد ترك تراثا ضخما من العلم والمواقف تجلب له الرحمات بعد موته بمئات السنين، كم من الناس عاشوا وماتوا دون أن يتركوا أثرا فيمن حولهم، وحينما نتكلم عن الأثر لا نقصد ذلك الذي توثقه الكاميرات أو تحتفظ به السجلات الرسمية أو التاريخية، بل نقصد ما يستقر في القلوب والعقول من كلمات رقيقة  دقيقة معبرة عن قلب محب ناصح، أحيانا يسوقها الله تعالى على ألسنتنا لمن نعرف أو لا نعرف. ما الذي يمكن أن نقف معه في سيرة هذا الرجل الشيخ يوسف القرضاوي ليبقى عطاؤه موصولا ولننتفع بتجربة ضخمة عاش صاحبها عشرات السنين يكتب ويحاضر ويخطب، وخاض غمار مرحلة دقيقة ربما لم تمر بها الأمة الإسلامية من قبل، وانتفع بتجارب علماء عاملين:

1. أن البيئة التي خرج منها لا زالت تحفل بالمئات من مثله، لكن الموفق من يهيأ الله تعالى له من يأخذ بيده ليوجهه نحو الصواب، ويكشف له عن مواهبه، ثم يمهد له الطريق ويشاركه وضع الهدف والسير لتحقيقه، هذه العملية التي تحتاج إلى وقت وجهد وصبر كان يقوم بها عدد من الناس: معلم القرآن ومعلم المدرسة وصديق الوالد وزميل الدراسة والأخ الأكبر  ومن يسوقه الله تعالى لكي يوجه نحو الخير .

وإذا كان عالمنا العربي يحفل بمن يبحث عن الموهوبين في  لعبة كرة القدم وأصحاب الأصوات الحسنة الذين يمكن تأهيلهم ليصبحوا مطربين، أو من يملكون قدرة على التمثيل ليصبحوا نجوم الغد، فأين من يبحث عن أصحاب المواهب الفكرية والعلمية؟  هذا المجهود كان يقوم به أفراد بما أودع الله تعالى في فطرتهم من حب الخير للناس، لكن صعوبة الحياة والكد لتوفير الضروري من النفقات قد يعوقهم كثيرا أو قليلا  في سبيل البحث عن هذه المواهب ورعايتها،

هذه المسألة ينبغي أن تشغل بالنا أكثر مما هي عليه الآن، فكثير من الموهوبين تندثر مواهبهم أو تموت لأنها لم تجد من يرعاها.

2. الشيء اللافت في حياة الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله أنه كان يحول الفكرة إلى مؤسسة لتحقيق استدامة الفكرة وتطويرها، مثل مركز دراسات السنة والسيرة، ومثل الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، ولا يتأتى ذلك إلا لشخص يملك قدرة على التفكير  الاستراتيجي، ويحرص على بقاء الفكرة حية سواء بقي هو أو رحل، كثير من القيم الجميلة والحقائق التي نحتاجها نتحدث عنها في مواسم معينة أو بسبب ظرف طارئ ثم يطويها النسيان، لكن المؤسسات الفعالة تبقي الأفكار حية وتسعى إلى توسيع دائرة العاملين لها  والمستفيدين منها. 

3. إعادة صياغة الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي بما يناسب العصر الحاضر، وهذه النقطة قد تفسر على أنها تمييع للإسلام وخروج به عن أصوله وقواعده، وكثير ما اتهم الشيخ بذلك، ثم عاد من اتهموه ليسلكوا نفس السبيل ويقرروا نفس الأحكام التي تشنجوا وقت أن أصدرها الشيخ،ـ والفارق بينهما أن الشيخ يوسف القرضاوي وقت أن قرر ما قرر كان يستند لما أداه إليه اجتهاده بينما الآخرون  غيروا مواقفهم لأن الرياح تغيرت.  

وقد تفسر على أنها إبقاء لهدايات الإسلام قائمة بدورها في عصرنا كما قامت بدورها فيما سبقنا من عصور، فلكل عصر إشكالته وأسئلته وقضاياه، وواجب على أهل العلم أن يقوموا بأنفسهم بتقديم هدايات الإسلام لمعاصريهم بلغة يفهمونها، مستندين إلى ما استقر من أحكام الشريعة، مراعين قواعدها وأصولها العامة، وأنها رحمة كلها، عدل كلها، خير كلها، موازنين بين الخير والشر وخير الخيرين وشر الشرين.  

والحفاظ على هدايات  الإسلام أمام جيلنا يعني إثبات صلاحيته لكل زمان ومكان وكونه الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وفي هذا وقاية من تيار الإلحاد الجارف الذي نشأ لأسباب متعددة ومتشابكة، لكننا نذكر في هذا الصدد حيرة الشباب حين يسألون أسئلة ثم لا يجدون ما يريح عقولهم القلقة، أو يسمعون جوابا يشعرون معه أن محدثهم يعيش قبل قرون من الزمان، لا يفهمهم ولا يفهمونه، فبدلا من اتهامه بأنه يعيش خارج الزمان تلتصق التهمة بالدين لأنه المتحدث باسمه عندهم.

4. كان الشيخ رحمه الله ينظر في الأدلة وهو يملك أدوات النظر الفقهي والفكري، وينظر في أقوال العلماء، ثم يخرج برأيه الذي يحرص فيه على الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر  وجمع كلمة المسلمين ورعاية مبدأ يسر الشريعة وسماحتها.

5. فتح الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله أبوابا من البحث ربما لم يسبق لها مستعينا بخبرته الواسعة بالتراث الإسلامي ومطالعته المستمرة لمصادره الأصلية، ويكفينا نظرة على بعض عناوين كتبه مثل: السنة مصدرا للمعرفة والحضارة، ومشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، وهذه النقطة تستدعي من طلابه ومحبيه المتأثرين به أن يواصلوا ما بدأه رحمه الله طارحين عناوين جديدة من خلال الواقع الذي يعايشونه، ومستندين على كتب علمائنا السابقين، ففيها خير كثير يحتاج على إعادة اكتشافه والتعبير عنه. 

6. كان الشيخ رحمه الله يعمل على التعاون بين أهل العلم مهما اختلفت مشاربهم، وله في ذلك تجربة وهي مشاركته للشيخ الألباني رحمه الله في تخريج أحاديث كتاب الحلال والحرام الذي ذاع صيته وطبع طبعات كثيرة، ومن قبله قام الشيخ الغزالي رحمه الله بنفس العمل مع كتاب فقه السيرة، وهذه التجربة كنا ننتظر أن تقوم بها مدرسة الأثر فتخرج عملا علميا بالاشتراك إثراء لعقل القاريء وإضافة للمكتبة الإسلامية، وإشارة إلى أن الخلاف بين المدرستين لا يمنع من تحقيق التعاون على صفحات الكتب وفي ميادين الحياة، أما القطيعة والتنافر ووصف المخالف بالفسوق والعصيان فأمر لا يليق بأمة كتابها واحد وقبلتها واحدة، ويكفي ما تعانيه الأمة من تشرذم بين أفرادها، وعلى العلماء أن يقدموا نماذج للتعاون في مجال العلم والعمل.

6.وهي دعوة إلى محبيه الذين عايشوه شخصيا أو عايشوا فكره أن يدونوا ما لم تسجله الأقلام   والكاميرات من سيرة الشيخ ومواقفه؛ لكي تتعلم منها الأجيال. ودعوة أخرى لمن اتخذ منه رحمه الله موقفا سلبيا أن ينظر بعين الإنصاف، وأن يقرأ كتب الشيخ ذاتها، فإن الحق يقتضي أن تأخذ المعلومة من مصدرها  دون واسطة، خصوصا مع توافر المصدر وسهولة الرجوع إليه. أما صيحات التحذير التي انطلقت صارفة الناس عن كتب الشيخ وآرائه، واستندت إلى نصوص اقتطعت من سياقها فقد استجاب لها البعض ثقة فيمن أطلقها، وقرر آخرون أن يقفوا على الحقيقة اتباعا لمنهج القرآن الكريم، فإن أشكل عليهم شيء ردوه لأهل العلم، وفي النهاية ما قام به الشيخ رحمه الله اجتهادات نحسب أنه اتبع فيها المنهج العلمي الذي سلكه أهل العلم من قبله.  

وختاما: لئن مات الشيخ وهذا قدر المخلوقات جميعا فإن آثاره باقية بإذن الله تعالى تنير الحياة بنور الإسلام وتجمع الناس على كلمة التوحيد وتربط بينهم برباط الأمة الواحدة وتردهم إلى الوسط بلا إفراط ولا تفريط.

إن بعض الكتب وبعض الشخصيات تلمع ثم تنطفئ بحسب ما تحمل من طاقة ونية وعوامل البقاء وبعضها يعبر الزمن  ينتفع به جيل المؤلف والأجيال التالية وينتشر نوره في العالمين باعثا على الحق حاثا على الفضيلة مبينا للناس طريق الهدى.

ونحسب أن كتب الشيخ سيمنحها الله تعالى هذه الكرامة وقد شاهدنا مدى انتشارها وتأثيرها في المحيط الثقافي العربي والإسلامي، وإن من حقه علينا وحق أهل العلم جميعا أحياء وأمواتا أن ندعو لهم بالخير، وأن يجزل الله تعالى مثوبتهم  وأن ينفعنا بعلمهم.