د. نبيل حنفي**
27/03/2005 
ما مدى توافق أو اختلاف الطب الذي كان سائدًا في جزيرة العرب على عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم– مع ما يسمى بـ”الطب النبوي”؟ ثم ما موقعه من “الطب الحديث”؟ هذا التساؤل ليس سهلاً، ويحمل على التردد كثيرًا، لحساسية الموضوع أولاً؛ ولأنني أتبنى رأيا مختلفًا في هذا الموضوع ربما يثير الكثير من الانتقادات.

الحياة في الجزيرة العربية قبل وبعد البعثة

منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشاءت إرادة المولى عز وجل أن يرسل نبيه الخاتم في مكان كان من أكثر الأماكن على ظهر الأرض وحشة وقسوة، ولقوم كانوا من أكثر خلق الله شرا في أرضه، كانوا أصحاب جهل وجاهلية؛ يعبدون الأصنام، ويشربون الخمر، ويئدون البنات، ويتقاتلون عقودا من أجل شربة ماء أو نحلة طائشة أو هفوة صغيرة. ولم يكونوا أصحاب حضارة ولا أصحاب علم.. وسرت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء الناس كما تسري النار في الهشيم؛ فأضحوا –بحمد من الله– أمة واحدة ذات دين قويم وخلق رفيع، وانتشرت هذه الدعوة حتى عمت مشرق الأرض ومغربها، ورحل عنهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وقال لهم ربهم في محكم كتابه الكريم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) [المائدة:3].

هذا ما كان من أمر الدين، أما أمور الدنيا فتكاد تكون كما هي لم يتغير فيها شيء، ولم يتبدل منذ جاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد عليها قومه إلى أن رحل عنهم.

جاءهم وهم يأكلون الثريد والتمر والبر والعسل، ويشربون حليب النوق والضأن، ويعيشون في بيوت من الشعر الحيواني والحجارة، ويحاربون بالسيف والرمح، ويركبون الدواب، ويتداوون بالكي والحجامة والعسل والحبة السوداء وألبان الإبل وأبوالها ودهن الحيوانات. ورحل عنهم وهم كما جاءهم لم يتغير في أمور معيشتهم شيء يذكر، إلا بعد أن فتح الله عليهم أركان المعمورة.

هكذا عاش النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة كما يعيشون، وعاش معهم بعد البعثة كما يعيشون. وتولى أمر الدين والدعوة بوحي من ربه، ولكنه ترك للناس أمور دنياهم إلا ما له علاقة بأمور الدين، وكان يجتهد في أمور الدنيا كما يجتهد أصحابه، فيصيب ويخطئ، وكان يشير على أصحابه، وكان أصحابه يشيرون عليه، ولعل ما حدث في غزوة بدر وغزوة الخندق خير دليل على أخذه برأي أصحابه في أمور خطيرة تتعلق بالجهاد ومستقبل الدعوة. ولعل حديث “تأبير النخل” خير دليل على اعتراض أصحابه عليه في أمر من أمور الدنيا، ولم يستنكف خير خلق الله من أن يقر بخطئه في هذا الأمر؛ حين قال: “إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم عن الله –عز وجل– فلن أكذب على الله”. أي أن ما حدثهم به بشأن عدم تلقيح النخل كان اجتهادًا منه وليس وحيًا من عند الله، بل إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فضل أصحابه على نفسه في أمور الدنيا فقال لهم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

 الطب في الجزيرة العربية على عهد الرسول
كان الناس قديمًا يصنفون الأمراض على أساس الأعراض وليس على أساس طبيعة المرض نفسه. فهناك مرض “الصداع”، ومرض “القيء” .. وكل عَرَض يندرج تحته الآن عشرات الأمراض التي تختلف في التشخيص والعلاج.
كان الطب في جزيرة العرب على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، مثله مثل الطب في كل أركان الأرض في ذلك الزمان؛ كان طبًّا بدائيًّا يعتمد على الوصفات والممارسات المتوارثة والمتبادلة بين الشعوب، وعلى الخبرات الشخصية المتراكمة لدى عامة الناس وخاصتهم، وكان الطب –كغيره من العلوم– نوعًا من الفلسفة والحكمة والثقافة العامة والتراث الشعبي أكثر من كونه علمًا تجريبيًّا منضبطًا ومدروسًا.

ولعل هذا الطب لم يكن يختلف كثيرًا عن الطب الذي مارسته الشعوب قبل وبعد الميلاد، وحتى بداية الثورة العلمية، فالصينيون والفراعنة واليونانيون مارسوا الحجامة وطب الأعشاب والكي قبل وبعد الميلاد، وحتى أثناء النهضة الفكرية والعلمية التي تلت ظهور الإسلام وانتشاره واختلاط العرب بغيرهم من الأمم لم يختلف الطب كثيرًا في هذه الفترة عما سبقه من طب؛ فطب ابن سينا والرازي والزهراوي وغيرهم كان أغلبه أعشابًا وحجامة ونظريات افتراضية وفلسفية قائمة في مجملها على غير أساس علمي قوي.

وكان الناس في ذلك الزمان يصنفون الأمراض على أساس الأعراض وليس على أساس طبيعة المرض نفسه. فهناك مرض “الصداع”، ومرض “القيء”، ومرض “استطلاق البطن” (الإسهال)، ومرض “الحكة”، ومرض “الحمى” وغيرها. وبالطبع فإن كل عرض من هذه الأعراض يندرج تحته الآن قائمة من عشرات، بل من مئات الأمراض التي تختلف في التشخيص والعلاج.

كما كانوا يصنفون الأمراض بطريقة أخرى على حسب مكانها في جسم الإنسان؛ فالذي لديه علة في بطنه فهو “مبطون”، وإن كانت العلة في صدره أو قلبه فهو “مفؤود”، ومن كانت علته في جنبه فلديه “ذات الجنب”. وهكذا… هذا بالإضافة إلى بعض الأمراض المعدية مثل الجرب والطاعون والبرص والتي كانت توصف على أساس المشاهدة والخبرة الشخصية للمريض ذاته أو الطبيب. ولم تكن هناك وسائل تشخيصية، وإنما كان التشخيص يعتمد على شكوى المريض؛ فكان المريض عليه وصف الداء والطبيب عليه وصف الدواء.
كانت أسباب الأمراض البدنية تتوقف عند فكرة وجود الأخلاط والسموم بالجسم، كما أن أسباب الأمراض النفسية كانت تتوقف عند فكرة المس والسحر.
وكانت أسباب الأمراض البدنية تتوقف عند فكرة وجود الأخلاط والسموم بالجسم، كما أن أسباب الأمراض النفسية كانت تتوقف عند فكرة المس والسحر. فهذا الطب لم يكن يعرف شيئًا مثلاً عن الكائنات الدقيقة من بكتريا وفطريات وفيروسات وغيرها. ولم يكن يعرف شيئًا عن اختلال وظائف الأعضاء والتي تسبب أمراضًا شتى مثل الفشل الكلوي والكبدي والقلبي والتنفسي وغيرها. ولم يكن يعرف شيئًا عن الأمراض السرطانية وأمراض المناعة وأمراض التغذية… إلخ.

وعلى هذا الأساس فإن الوسائل العلاجية لم يكن لها علاقة بالمسببات الحقيقية للأمراض، وإنما كانت ترتكز على فكرة إخراج السموم والأخلاط من الجسم في حالة الأمراض البدنية. فالحجامة -مثلاً- تخرج السموم والأخلاط من الدم، والسنا والعسل يخرجها من البطن. والحبة السوداء والعسل يخرجها من الصدر عن طريق البلغم.. وهكذا. لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم -وتأسيسًا على ما سبق واجتهادًا منه على قدر ما هو متاح من علم في ذلك الزمان- كان يرشح مثل هذه الوسائل العلاجية لعلاج كل الأمراض مما سيتضح فيما بعد.

أما السحر والمس، فكان علاجهما الرقية والأدوية المقيئة التي تخرج السحر من الجسم، هذا هو “طب الجزيرة العربية” الذي أرادوا أن ينسبوه إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم يردوه إلى رب العزة والجلالة على أساس أنه طب منزل من عنده أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. وكأن ما عدا هذا الطب ليس من عنده وليس من نعمه -سبحانه وتعالى– على عباده، وهو القائل: (عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:5]، والقائل: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [النحل:8]، والقائل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت:53].

وعندما فكرت في أن أضع هذا الطب في ميزان الطب الحديث، كان لا بد أن أجد مصدرًا معتبرًا يتحدث عن هذا الطب، ولم أجد أفضل من باب “الطب النبوي” الذي وضعه ابن القيم الجوزية –رحمه الله– ضمن كتاب “زاد المعاد”. ثم بعد ذلك أصبح هذا الباب كتابًا مستقلاً يحمل نفس الاسم.

ولكون المجال غير متاح الآن لتناول كل تفاصيل الكتاب، أخذت بعض المفردات المهمة الواردة فيه وتناولتها بالعرض والتقييم.

طب النبي.. وطب الأطباء

يقول ابن القيم: “إن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم. وليس طبه كطب الأطباء؛ فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب. ولا ينكر انتفاع كثير من المرضى بطب النبي، ولكن لا ينتفع به إلا من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فطب النبوة لا يناسب إلا ذوي الأبدان والأرواح الطيبة” انتهى كلام ابن القيم.

وهو -بالطبع– كلام جميل يثلج صدر كل مسلم غيور على دينه، محب لنبيه صلى الله عليه وسلم. ونحن جميعًا نقدر شرف مقصد وحسن نية أبي عبد الله (ابن القيم)؛ ولكننا نعتقد أنه –جزاه الله خيرًا– أضر من حيث أراد أن يفيد. فنحن أولاً لا نقر تسمية طب الجزيرة العربية في العصر الجاهلي وفجر الإسلام بالطب النبوي، ولا نعترف بنسبة هذا الطب إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. ونحن لا ندري تحديدًا من الذي منح هذا الطب المتواضع ذاك الشرف الرفيع، ولكننا نعلم -علم اليقين- أن هذه التسمية لم ترد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه الكرام؛ لأنهم كانوا يتعاملون مع النبي صلى الله عليه وسلم في النواحي الطبية والحياتية كواحد منهم؛ فكان صلى الله عليه وسلم يطبّبهم ويطبّبونه، ويصف لهم الدواء ويصفونه له. وكان صلى الله عليه وسلم يطلب الطبيب والحجام لنفسه وأهله وأصحابه، فلقد طلب الطبيب لسعد بن أبي وقاص وطلب الحجام لأم المؤمنين “أم سلمة” رضي الله عنها.

وتقول عائشة رضي الله عنها: إن الوفود كانت تأتي المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير فتصف له الدواء، وكانت عائشة تصنعه له. وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على مريض يعوده فقال: “أرسلوا إلى الطبيب”. فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وسلم: “نعم. إن الله -عز وجل- لم ينزل داءً إلا أنزل له دواء”.

وهناك قصة صغيرة ولكنها ذات معانٍ كبيرة وهي القصة التي وردت في الصحيحين: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف؛ فادع الله لي، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن شئت صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله لكِ أن يعافيكِ”. فقالت المرأة: أصبر.

فهذه المرأة لم تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعالجها من مرض “الصرع”، ولم تفترض مقدرته صلى الله عليه وسلم على هذا العلاج؛ ولكنها طلبت منه الدعاء لها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يدَّع مقدرته على هذا العلاج؛ ولكنه خيَّرها بين الصبر وبين الدعاء.

أما قول ابن القيم رحمه الله: إن هذا الطب أفضل من طب الأطباء. فإن هذا الكلام إذا جاز على أطباء القرن الثامن الهجري وهو القرن الذي عاش فيه ابن القيم فإنه لا يجوز على أطباء القرن الخامس عشر الهجري، وهذا ليس اتهامًا لأطباء القرن الثامن، ولكنها حركة الحياة وعجلة العلم التي تدور، وقد يأتي يوم –ولا بد هو آتٍ– يسخر فيه الناس من طب وأطباء القرن الخامس عشر الهجري.

أما مقولة ابن القيم بأن هذا الطب صادر عن الوحي. فقد تكفل بمناقشتها البحث المشار إليه بداية. كما أننا نضيف إلى ذلك قولنا: إنه إذا فرضنا جدلاً أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا والطب هي وحي يوحى؛ فإن هذه الأمور في تغير وتبدل مستمر، وهذه الأمور المتغيرة لا تجوز على وحي من عند مَن “لا يبدل القول لديه” سبحانه وتعالى عما يصفون.

فعلى سبيل المثال هناك حديث ورد في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: “خير ما تداويتم به الحجامة”. فإذا كانت الحجامة هي خير ما تداوى به الناس على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها بالقطع ليست أفضل ما يتداوى به الناس الآن. فإذا جاز نسبة هذا الكلام إلى الرسول فلا بأس. فالرسول صلى الله عليه وسلم –وكما أسلفنا– بشر يخطئ ويصيب في أمور الدنيا. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم من الممكن أن يكون حديثه لعامة المسلمين في كل زمان ومكان، أو خاصًا للمسلمين في جزيرة العرب على عهده. أما أن ينسب هذا الكلام للوحي المنزل من عند الله تعالى فهذا ما لا يجوز قطعًا.

وأخيرًا فإن مقولة ابن القيم: إن هذا الطب لا يناسب إلا ذوي الأبدان والأرواح الطيبة؛ فإنها تُحتسب على هذا الطب ولا تُحسب له. إذ إنها تحكم عليه بأنه طب خاص لا يناسب غير المسلمين، وليته يناسب كل المسلمين؛ ولكنه يناسب فقط ذوي الأرواح والأبدان الطيبة منهم. أما طب هذا الزمان فإن تأثيره في الجرذان كتأثيره في الإنسان، وسواء كان هذا الإنسان صالحًا أم طالحًا، مسلمًا أم غير مسلم، له روح وبدن طيب أو خبيث. وكان الأولى بهذه الخاصية هو ذلك الطب المنسوب إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، والذي أرسله الله للبشر في كل زمان ومكان، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الطب النبوي.. والأمراض المعدية

هناك تعارض واضح لا تخطئه العين في جملة الأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث في موضوع العدوى بالرغم من أن أغلب هذه الأحاديث صحيحة، وقد أثبت ابن القيم وغيره وجود هذا التعارض، لدرجة أن هذه الأحاديث تدخل تحت بند “مختلف الحديث”. فإذا استعرضنا بعض الأحاديث التي تثبت إمكانية حدوث العدوى ووجوب الاحتراز منها فإننا نجد الآتي:

  • ورد في صحيح مسلم: أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل له النبي صلى الله عليه وسلم “أن ارجع قد بايعناك”.
  • روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “فِر من المجذوم كما تفر من الأسد”.
  • وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يُورِدن مُمْرض على مُصِحّ”.
  • وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة، فلما أراد الدخول بها وجد بكشحها بياضًا، فقال صلى الله عليه وسلم: “الحقي بأهلك”.
  • وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الطاعون رجز أُرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارًا منه”.
  • وفي مقابل هذه الأحاديث التي تثبت حدوث العدوى فإننا نجد بعض الأحاديث الصحيحة الأخرى تنفي إمكانية حدوث العدوى أو تشير إلى عدم احتراز الرسول صلى الله عليه وسلم منها، كالآتي:
  • ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا عدوى ولا طيرة”. فقيل له: إن النقبة تقع بمشقر البعير فيجرب لذلك الإبل. قال صلى الله عليه وسلم: “فمن أعدى الأول؟!”.
  • روى الترمذي وابن ماجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، وقال: “كُل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه”.

وبالطبع فإن إمكانية حدوث العدوى من الناحية العلمية موضوع –لا أقول– شبه محسوم؛ ولكنه محسوم يقينًا، لا يجادل فيه إلا جاهل أو غافل. ولقد اجتهد ابن القيم –رحمه الله– بنفسه ونقلاً عن غيره في إثبات عدم التناقض بين هذه الأحاديث الشريفة؛ فأورد ثلاثة احتمالات لنفي هذا التناقض وهي:

1- إما أن يكون أحد الحديثين المتناقضين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونهم ثقات. والثقة ربما غلط.

2- وإما أن يكون التناقض في فهم السامع لا في نفس كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

3- وإما أن يكون أحد الحديثين المتناقضين ناسخًا للآخر إذا كان يقبل النسخ.

ودعنا الآن نناقش هذه الاحتمالات التي أوردها ابن القيم –رحمه الله-:
لم نشكك أبدًا في نسبة الأحاديث الصحيحة إلى الرسول، وإنما الاعتراض منصبٌّ على اعتبار كل الأحاديث الصحيحة – والتي تعالج أمور الدنيا – ملزمة ووحيًا.
فالاحتمال الأول -وهو تغليط الثقة- ربما يفتح بابًا لكل صاحب مصلحة أو رأي يغاير ما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن يدعم رأيه باحتمال خطأ الرواة الثقات.

ونحن لم نشكك أبدًا في نسبة الأحاديث الصحيحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما الاعتراض منصبٌّ على اعتبار كل الأحاديث الصحيحة –والتي تعالج أمور الدنيا– ملزمة وصالحة لكل زمان ومكان؛ ولكن دون التشكيك في صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما الاحتمال الثاني الذي ساقه ابن القيم، فهو أن يكون التعارض في فهم السامع وليس في كلامه صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وهو أفصح العرب وأكثرهم بلاغة لم يكن ليتحدث حديثًا يلتبس على العامة، ناهيك عن الخاصة.

أما الاحتمال الثالث الذي ساقه ابن القيم وهو احتمال وجود ناسخ ومنسوخ في أحاديث العدوى؛ فإننا قد نتفق معه في هذه الاحتمالية، حيث إن النسخ في الأمور العلمية وارد، فالعلم ربما تغير أو تبدل. وقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتقد في بداية بعثته بعدم إمكانية حدوث العدوى، ثم اقتنع بعد ذلك بهذه الإمكانية. وقد ورد أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يروي حديث “لا عدوى” ثم شك فيه فتركه وراجعوه فيه. فقالوا: سمعناك تحدث به. فأبى أن يحدث به. وهذا من ناحية أخرى يؤكد على بشرية هذه الأحاديث (في الطب خاصة)، فلو كانت (أحاديث الطب) وحيًا من عند الله ما نسخ بعضها بعضًا، حيث إن (الحقيقة العلمية) مقررة في علم الله لا تقبل التغيير ولا التبديل، وإن كانت تتغير في علم الإنسان من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.

الحمى.. في الطب النبوي

لعل أشهر ما جاء على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بخصوص الحمى هو الحديث الثابت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء”.

قال ابن القيم –رحمه الله– في معرض تعليقه على هذا الحديث: “أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ورأوه منافيًا لداء الحمى وعلاجها، ونحن نبين -بحمد الله وقوته- وجهة فقهه؛ فنقول: خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: عام لأهل الأرض، وخاص ببعضهم، وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز؛ إذ كانت الحميات التي تعرض لهم هي من الحمى اليومية العرضية الناتجة عن شدة حرارة الشمس”. انتهى كلام ابن القيم.

وتعليقًا على هذا الكلام؛ فإننا نقول: إن ابن القيم قد اتهم أطباء عصره بالجهل؛ لأنهم ينكرون هذا الحديث، واجتهد في الرد عليهم لتبرئة ساحة الحديث الصحيح، فاستخدم واحدة من أشهر وسائل الدفاع عن الأحاديث وهي مقولة (الحديث العام والخاص). فرفع ابن القيم صفة العمومية عن هذا الحديث الشريف، واحتج بأن الحديث موجه إلى أهل الحجاز حيث إنهم أكثر الناس عرضة للإصابة بحمى ضربات الشمس، وهو النوع الوحيد من أنواع الحمى الذي أقر أطباء عصره علاجه بالماء. ونحن لا ندري من أين استقى ابن القيم خصوصية هذا الحديث لأهل الحجاز، فالماء يصلح لعلاج كل أنواع الحمى، سواء ما كان منها بسبب ضربات الشمس أو غيرها. وليعلم أن هذا الحديث لم يكن بحاجة للدفاع عنه بحجة “العام والخاص” بل إنه من الأحاديث التي سبق بها الرسول صلى الله عليه وسلم عصره، حيث إن الماء هو العلاج الفعال لكل أنواع الحمى، في كل زمان ومكان. ومما سبق نستطيع أن نؤكد على الآتي:

1- أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا بشر أصيب وأخطئ” إنما هو قولٌ حق. ولقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم بخطئه في بعض الأمور الدنيوية. وها هو هنا يصيب في هذا الحديث الذي سبق به عصره وزمانه.

2- أن محاولة الدفاع عن السنة النبوية الخاصة بأمور الدنيا باستخدام وسائل معينة مثل تغليط الرواة الثقات أو الاحتجاج بمناسبة الحديث أو مقولة الخاص والعام وغيرها من الوسائل قد يضر في بعض الأحيان بهذه السنة ولا يخدمها كما رأينا في هذا الحديث وغيره.

السواك.. ومعجون الأسنان

ورد في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”.

وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “السواك مطهرة للفهم مرضاة للرب”.

يقول ابن القيم –رحمه الله– في كتاب “الطب النبوي”: “في السواك عدة منافع: يطيب الفم، ويشد اللثة، ويقطع البلغم، ويجلو البصر، ويُصِحّ المعدة، ويصفي الصوت، ويعين على هضم الطعام، ويسهل مجاري الكلام، وينشط للقراءة والذكر والصلاة، ويطرد النوم”.

ولا أدري من أين استقى ابن القيم كل هذه الفوائد الصحية الجمة للسواك. فإن كان استقاها من السنة النبوية فأين الأحاديث الدالة على ذلك؟! وإذا كان قد استقاها من المعلومات الطبية المطروحة في عصره وزمانه فنحن –وبكل أسف– لا نقر هذه المعلومات الآن، حيث إنه لم يثبت لدينا -حتى الآن- بطريقة علمية صحيحة أن السواك: يقطع البلغم، ويجلو البصر، ويصح المعدة… إلخ.

وبغض النظر عن أدبيات ابن القيم في السواك وهي غير موثقة شرعًا وطبًّا؛ فإننا نقول: إن ظاهر الحديث هو الأمر بالسواك، أما مقصد الحديث فهو نظافة الفم، ولما كان السواك هو الوسيلة المستخدمة في نظافة الفم والأسنان في ذلك الزمان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باستخدامه، ولكن السؤال المطروح الآن هو: إذا ما توفرت وسيلة عصرية لنظافة الفم والأسنان أفضل من السواك أليس من الأفضل الاستغناء بهذه الوسيلة عن السواك؟. ولقد حاول كثير من أدعياء “الطب النبوي” إثبات أن السواك أفضل من معاجين الأسنان والفرشاة، ولكن دون جدوى حيث انصرف أغلب الناس إلى المعجون والفرشاة، ولما يئس أدعياء الطب النبوي من إقناع الناس بالأخذ بظاهر الحديث استحدثوا معاجين أسنان من خلاصة السواك. وحتى هذه المعاجين لم يكتب لها النجاح أيضًا، وبقيت الفرشاة والمعاجين التقليدية أكثر فاعلية وأكثر انتشارًا في نظافة الفم والأسنان، بالإضافة إلى أن الفرشاة سهلة التنظيف والحفظ، كما أن المعاجين المطروحة للاستخدام تُصنع بطريقة علمية وصحية سليمة، وتضاف إليها مواد لمقاومة التسوس ونخر الأسنان. ولقد ثبت أن الاعتماد على السواك دون الفرشاة والمعجون هو واحد من الأسباب الرئيسية لتفشي ظاهرة تسوس الأسنان في بعض المجتمعات الإسلامية، كما أنه قد يكون وسيلة لنقل العدوى والأمراض حيث يصعب تنظيفه وحفظه. وإذا استحدثت مستقبلاً طريقة لنظافة الفم والأسنان أفضل من الفرشاة والمعجون فلا مانع من ترك الفرشاة والمعجون إلى هذه الطريقة.

الكي.. وحدود التداوي به

ورد في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار. وأنا أنهى أمتي عن الكي”. وفي لفظ آخر: “وما أحب أن أكتوي”. والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كوى أصحابه أو أمر بالكي في حالات مرضية معينة مثل: النزيف وتعقيم الجروح بعد استخراج الأجسام الغريبة مثل الشوكة وفي ذات الجنب.

ولقد أشكل أمر الكي على ابن القيم –رحمه الله– ولم يستطع تحديد حكم شرعي معين للكي، فقال: الثابت في أحاديث الكي أربعة أحكام:

أحدهما: فعله. والثاني: عدم محبة الرسول له. والثالث: الثناء على تركه. والرابع: النهي عنه.

ولقد اجتهد ابن القيم في التوفيق بين هذه الأحكام الأربعة، وقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الطريقة العلاجية لما فيها من إيذاء النفس البشرية، لذلك جعلها آخر الدواء.

ولقد استخدم الطب الحديث الكي لأغراض مماثلة للأغراض التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نحوها، وإن اختلفت الطريقة: حيث يستخدم التخدير قبل الكي وتستعمل أجهزة طبية معينة لأغراض الكي المختلفة، مثل إيقاف النزيف في العمليات الجراحية وكي القروح، مثل قرحة الرحم، وإزالة الأورام الجلدية الحميدة. ولعل آخر صيحة في عالم الكي هي حرق الأورام في الأعضاء الداخلية، مثل الكبد إذا اكتشفت في حالة مبكرة.
ما نود أن نقوله هو أن “الكي” أصبح محصورًا الآن في بعض الحالات المرضية المحددة ويقوم به الأطباء تحت تأثير المخدر، سواء كان موضعيًا أم عامًا.
هذا ما كان من أمر السنة وأمر الطب الحديث بخصوص الكي. ولكن أدعياء الطب النبوي لم يرقهم هذا المجال الضيق للكي. فأخذوا مقولة آخر العلاج الكي ووظفوها أسوأ توظيف، وجعلوا من الكي بدلاً لعلاج كل الأمراض في حالة تأخر الشفاء بالوسائل الطبية المعتمدة. بل إن بعضهم يستخدم الكي كروتين قبل اللجوء إلى الطبيب، ويتم الكي على أيدي هؤلاء بوسائل بدائية، وغير إنسانية ودون تخدير.

وليس لديَّ إحصائيات دقيقة لمدى تفشي ظاهرة الكي في العالم العربي والإسلامي، ولكن الذي أعرفه أن هذه الظاهرة ما تزال متفشية في مصر بغرض علاج الصداع وآلام الظهر، وكذلك كي جلد البطن في حالة تضخم أعضاء البطن الداخلية مثل الطحال، ومن المعتاد أن يلجأ كل مريض في المناطق الريفية في مصر للكي بغرض علاج الطحال المتضخم، وذلك قبل أن يلجأ إلى الجراحة أو ينتهي به الأمر إلى الموت.

أما في السعودية فظاهرة الكي متفشية بصورة مزعجة جدًّا، خاصة في الأطفال الرضع، ولا يكاد ينجو طفل من الكي في طفولته المبكرة أكثر من مرة، وبالذات في مشاكل الجهاز الهضمي، مثل القيء، وانتفاخ البطن والمغص وغيرها، وبالطبع لا يكون للكي في مثل هذه الحالات أدنى فائدة، وتنتهي كل نوبة كي بزيارة الطبيب، ولقد بُحت أصوات الأطباء من التحذير والنهي عن هذه الممارسات، ولكن الناس في كل مرة يعودون لما نهوا عنه.

ما نود أن نقوله هو أن “الكي” أصبح محصورًا الآن في بعض الحالات المرضية المحددة، ويقوم به الأطباء تحت تأثير المخدر، سواء كان موضعيًّا أم عامًّا. أما الكي بمفهوم الحلاقين والمشعوذين والعجائز تحت شعار “الطب النبوي” فهذا أمر لا يقره العلم ولا السنة ولا الإنسانية.

حديث الذبابة.. وبول الجمال

ورد في صحيح البخاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه (اغمسوه) فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء”. وهذا الحديث لا جدال في صحته، حيث ورد في أصح كتب الحديث ألا وهو “صحيح البخاري”.

أما من الناحية الطبية البحتة فهذا الكلام لم تثبت صحته حتى الآن.. بالرغم من أني قرأت أكثر من مرة وفي أكثر من مصدر أنه: “ثبت علميًّا أن الميكروبات موجودة في أحد جناحي الذبابة وفي الجناح الآخر توجد مضادات لهذه الميكروبات”. ولم يقدم هؤلاء الزاعمون بحثًا علميًّا واحدًا تم بطريقة منهجية ومنضبطة ونشر في مجلة علمية متخصصة في بلد من بلاد المسلمين أو غير المسلمين يثبت صحة هذا الكلام من الناحية العلمية.

ولقد حضرتُ ندوات ومناظرات كثيرة بين علماء الطب وعلماء الدين بخصوص هذا الحديث، لم يخرج رأي علماء الدين عن أن الحديث صحيح، ولم يخرج رأي علماء الطب عن أن العلم لم يثبت حتى الآن صحة ذلك.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوظف المتاح والمتوارث والمتعارف عليه من العلاجات السائدة في زمانه.
وقد يكون لهذا الحديث ما يبرره على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث إنه عاش صلى الله عليه وسلم في بيئة صحراوية تعاني من ندرة الماء والغذاء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دائم الخروج هو وأصحابه للجهاد ونشر الدعوة، وكانوا يحملون الماء والزاد في سفرهم وترحالهم، وكان الذباب والهواء يكثر في هذه البيئة الصحراوية، فلو أن كل إنسان وقع في طعامه أو شرابه ذبابة فتخلص من هذا الطعام أو الشراب لهلك الناس جوعًا وعطشًا في ذلك الزمان. أما في هذا الزمان الذي نعيشه الآن فالطعام والشراب متوفر والسيطرة على الذباب ليست مشكلة.

كما أن العلم حتى هذه اللحظة لا يرى في الذباب غير مصدر معتبر من مصادر العدوى والمرض؛ لذا فإننا نرى -ومن منطلق بحث د. الأشقر– أن العمل بهذا الحديث غير ملزم بالرغم من صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى لو ثبت مستقبلاً صحة الحديث من الناحية العلمية، لأن هذا العمل من الأمور التي تعافها النفس البشرية وتكرهها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في هذا المجال، فقد كره الكي وهو علاج أساسي في زمانه، وكانت نفسه تعاف أكل البصل والثوم ولحم الضب، وهي أطعمة حلال.

وشأن حديث الذبابة كشأن التداوي ببول الجمال، فالثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم نصح بالتداوي ببول الجمال في حالات الاستسقاء البطني، ولكن مَن منَّا الآن يقبل أن يتداوى ببول الجمال حتى لو ثبتت فاعليته من الناحية العلمية؟!

ولا أظن أن هناك بحثًا علميًا معتبرًا نشر عن مدى فاعلية بول الجمال في علاج الاستسقاء أو غيره من الأمراض، وبالرغم من هذا فإني قرأت في أحد المواقع الخاصة بالطب النبوي على “شبكة الإنترنت” مقالاً يشير إلى أن البحوث العلمية أثبتت قدرة “بول الجمال” على علاج أمراض الاستسقاء، بالإضافة إلى أورام الكبد والسرطان وسرطان الدم…إلخ. ولا ندري أين هي هذه البحوث، ولا ندري مَن قام بها، وفي أي الأماكن، ولا ندري من هم هؤلاء المتطوعون الأبطال الذين تجرعوا أبوال الجمال لعلاج هذه الأمراض.

إن الأمر ببساطة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوظف المتاح والمتوارث والمتعارف عليه من العلاجات السائدة في زمانه. والسؤال الآن: إذا مَنَّ الله على عباده بعلاجات أكثر مصداقية وأكثر فاعلية وأكثر قبولاً لدى الناس من بول الجمال، فهل نترك هذه العلاجات ونعود إلى بول الجمال تحت زعم أنه طب نبوي؟!

العسل.. وما شفاؤه؟

قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل:68، 69].

وفي الصحيحين أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إن أخي يشتكي بطنه”. وفي رواية: “استطلق بطنه (أي أصابه إسهال) فقال: “اسقه عسلاً”. فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغنِ عنه شيئًا”. وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقًا – مرتين أو ثلاثًا -. كل ذلك يقول له: “اسقه عسلاً”. فقال له في الثالثة أو الرابعة: “صدق الله وكذب بطن أخيك”.

والعسل طعام قديم ودواء قديم قِدم الإنسان نفسه، وهو طعام طيب وسهل الهضم، ومناسب لغذاء الأصحاء والمرضى والكبار والصغار (وإن كانت هناك بعض المحاذير الطبية على استخدامه في الرضع). والعسل غني بالسكريات مثل الفراكتوز والجلوكوز، وكذلك يحتوي على كثير من الأحماض الأمينية والأملاح المعدنية والفيتامينات وبعض الأنزيمات التي لها دور في إتمام العمليات الحيوية داخل الخلايا، ولكن لم يرد أنه اكُتشفت فيه مادة علاجية محددة لعلاج مرض معين.

ومن الناحية الطبية فإن تقييم العسل كدواء لا يخرج عن كونه مادة مسهلة وطاردة للبلغم، كما أنه يستخدم بنجاح في علاج الجروح والقروح والحروق المستعصية؛ لأنه مادة مركزة لا تصلح لنمو البكتريا بصفة عامة، أما دور غذاء ملكات النحل في التنشيط الجنسي فهو دور تاريخي ومعروف للناس في كل زمان ومكان.

لذلك فإننا نعتقد أن دور العسل كوقاية قد يكون أفضل من دوره كعلاج، حيث إن المحتوى الغذائي للعسل متنوع وغني، وقد تساعد المداومة على تناوله على توفير عدد من الفيتامينات والأملاح المعدنية، والتي تقي من كثير من الأمراض الغذائية، وتساعد في تحسين الصحة وتعزيز المناعة وتنشيط الجسم بصفة عامة. وقد استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل كغذاء طيب ومحمود، وكوقاية أكثر مما استخدمه كعلاج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق، وفي سنن ابن ماجه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء. ولم يرد في كتاب ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدم العسل كعلاج إلا مرة واحدة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستخدامه كمسهل لتنظيف بطن رجل أصيب بالتخمة والامتلاء، وهو ما ورد في الحديث الذي ذكرناه سلفًا.

ولعل الآية الكريمة قصدت دوره الوقائي أكثر من دوره العلاجي. والوقاية خير أنواع العلاج أو خير من العلاج، وهذا ما أكده فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص العسل.

أما دعاة “الطب النبوي” والمتاجرون به فإنهم حَمَّلوا الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ما لا تحتمل، وسلكوا نفس الطريق الذي يسلكه بعض هواة “التفسير العلمي للقرآن”. فاستندوا إلى لفظة “شفاء” ليجعلوا من العسل مدرسة طبية علاجية شاملة، بل إنهم جعلوا للعسل منزلة خاصة تفوق منزلة ما عداه من مفردات الطب النبوي لدرجة أنهم أسموه “الطب الإلهي”، وكأن العسل طب من عند الله وما عداه ليس من عند “من له ملكوت السماوات والأرض”.

بل إن بعض الغلاة وصلوا إلى مرحلة قصر العلاج شرعًا على أمرين اثنين: العسل لعلاج الأبدان والقرآن لعلاج النفوس. وذلك استنادًا إلى آية العسل، وآية: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء:82]. وجعلوا ما عداهما من العلاجات من قبيل البدع والمستحدثات.

ولقد أصبح العسل على أيديهم “علاجًا لكل داء” دون سند علمي أو شرعي؛ فهناك عسل لعلاج الضغط، وعسل لعلاج الربو، وعسل لعلاج الصدفية والبهاق، وعسل لعلاج القولون، بل وعسل لعلاج السكري والسرطان. وهكذا لم يتركوا مرضًا لم يجعلوا له عسلاً. ونحن لا ندري هل هم يوظفون الهندسة الوراثية لخلق أنواع من النحل تختص بكل مرض. أم أنهم يستخدمون العسل كقاعدة دوائية يضيفون إليها المواد العلاجية المتعارف عليها لعلاج هذه الأمراض، أم أنهم لا يفعلون لا هذا ولا ذاك ويكتفون بمجرد كتابة اسم المرض على عبوة العسل، وهذا هو أغلب الظن، ولقد رأينا كثيرًا من الناس فُتِنوا في دينهم، وراحوا ضحية النصائح الخاطئة بإيقاف العلاج الطبي واستخدام العسل أو العسل المخلوط بالحبة السوداء كعلاج أوحد لبعض الأمراض المزمنة والخطيرة.

وإذا كان لنا كلمة أخيرة في “موضوع العسل” فإننا نقول: إن سورة النحل نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، أي في مراحل الدعوة المبكرة، وليس من الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غير اتجاه الطب بعد نزول آية العسل، أو أمر بالاكتفاء بالعسل كطب تأسيسًا على هذه الآية الكريمة، ولكن الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم مقولة “شفاء من كل داء” في أشياء أخرى خلاف العسل مثل الحبة السوداء والسنا والسنوت، ولم يستخدمها في العسل.

والحديث الشهير الذي أمر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم باستخدام العسل وكان استخدام العسل فيه صحيحًا من الناحية العلمية، حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعلاج رجل أصيب بالتخمة والامتلاء بالعسل لإحداث إسهال يطرد الفضلات والأخلاط من البطن. وقد أسلفنا أنه من الثابت علميًا أن العسل يستخدم كمادة مسهلة، وفي المقابل فإن هناك أمورًا كثيرة عرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يأمر فيها بالعسل، وإنما رشح وسائل طبية أخرى. فالثابت مثلاً أنه احتجم من صداع في رأسه، وأمر بالكي لإيقاف النزيف، ورشح السنا كمادة مسهلة، ورشح القسط البحري والزيت لعلاج ذات الجنب. وهكذا.. هذا ما كان من شأن “العسل” مع من نزلت على قلبه “آية العسل” فما بال أقوام اليوم يجعلون للعسل شأنًا آخر، ويرسمون له طريقًا مختلفًا؟!.

طب الأعشاب.. بين الوقاية والعلاج

قد يكون طب الأعشاب واحدًا من أقدم أنواع الطب في التاريخ، ولم يكن الإنسان من فجر التاريخ وحتى فجر الثورة العلمية يمتلك من الوسائل الطبية غير عدد محدود، مثل: الكي، والحجامة، والأعشاب، والأغذية. ولطب الأعشاب باعٌ وذراعٌ في الطب النبوي، ولعل “الحبة السوداء” أكثر الأعشاب حظًا وشأنًا في هذا الطب، وذلك بفضل الحديث النبوي الشريف الثابت في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: “عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السَّام”. والسام هو الموت.

وبالرغم من أن هناك أحاديث نبوية أخرى تضع بعض الأعشاب على قدم المساواة مع الحبة السوداء، إلا أن حظ هذه الحبة السوداء كان أفضل من غيرها. فهناك حديث ورد في الترمذي: “لو كان شيء يشفي من الموت لكان السنا”. وورد في سنن ابن ماجه: “عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السَّام”. وورد في الصحيحين: “خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري”. والقسط البحري هو نوع من العود يسمى “العود الهندي”.

وفي المسند: “عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب”. أما “السنا” فهو نبتة حجازية تنسب إلى مكة المكرمة، فاسمها العلمي “سنامِكه”، واسمها الدارج “سنامكى”، وهو مادة مسهلة معروفة ومشهورة بهذه الفاعلية حتى وقتنا هذا، ولم يرد في كتاب الطب النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدم هذه المادة إلا لهذا الغرض، لذلك فإن الحديث النبوي الذي يشير إلى أنها تشفي من كل داء، إنما يؤكد الفكرة السائدة في ذلك الزمان، ألا وهي: أن إخراج السموم والأخلاط من البطن هو ركيزة أساسية من ركائز علاج كل الأمراض.

أما “السنوت والينسون” فهو بذور من فصيلة الكمون، وهو من النباتات التي تستخدم حتى الآن كمهدئ لاضطرابات الجهاز الهضمي وخاصة لدى الأطفال، ولكن كتاب “الطب النبوي” لم يشر إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدمه كعلاج لمرض معين، بالرغم من الحديث سالف الذكر.

ونعود لـ”الحبة السوداء” فنقول: إن التحليل الكميائي لهذه البذور يشير إلى وجود: سكريات أحادية ومركبة، وأحماض دهنية، وأحماض أمينية، وبعض الأملاح المعدنية مثل الكالسيوم والبوتاسيوم ومادة الكاروتين التي يمكن تحويلها في الكبد إلى فيتامين (أ)، وهي بهذا المحتوى ليست فريدة ولا متميزة عن كثير من المواد الغذائية الأخرى، ولا تحتوي على أي مادة غذائية أو كميائية يندر وجودها في مواد غذائية أخرى، وهي مثل العسل ليس بها أي محتوى علاجي محدد لعلاج مرض معين. ولقد جرت أبحاث علمية منضبطة في عدد من الجامعات، وخاصة جامعات البلاد الإسلامية مثل السعودية ومصر وباكستان بغرض تقييم وضع هذه البذور العلاجي والوقائي، وكانت النتائج تشير إلى أن هذه البذور تحسن النشاط المناعي للجسم بصفة عامة، كما أن لها دورًا مضادًّا لبعض أنواع الميكروبات ودورًّا مضادًّا للالتهابات، ولكن لم يحدد لها دور معين في علاج مرض معين على الأقل حتى الآن.
الحبة السوداء لا تحتوي على أي مادة غذائية أو كيميائية يندر وجودها في مواد غذائية أخرى، وهي مثل العسل ليس بها أي محتوى علاجي محدد لعلاج مرض معين.
وبهذا يكون شأنها كشأن العسل، ويكون دورها الوقائي أكثر من دورها العلاجي، وما يزال المجال مفتوحًا للبحث في هذا المجال، ولكن أدعياء الطب النبوي لم ينتظروا ولن ينتظروا أبحاثًا ولا دراسات، فلقد شمروا عن سواعدهم وكتبوا الحديث الشريف على واجهات المحلات، وجعلوا من الحبة السوداء – كما جعلوا من العسل – مدرسة طبية علاجية متكاملة، وجعلوا منها ألوانًا وأشكالاً؛ فهناك البذور، وهناك المسحوق، وهناك الزيت المستخلص من هذه البذور، بل إني عثرت في الأسواق على مراهم ومعاجين للحبة السوداء، وبهذا أصبحت الحبة السوداء مصدرًا من مصادر الكسب والتربح لا يقل شأنًا ولا ربحية عن العسل والحجامة!!.

الحجامـة.. والتبرع بالدم
1- تاريخ الحجامة:

الحجامة هي من أقدم الممارسات الطبية التي عرفها الإنسان منذ القدم، ولقد استخدمها قدماء المصرين والأشوريين والصينيين، وانتشرت في كل أركان الأرض، وكانت موجودة في جزيرة العرب قبل البعثة، وأثناء البعثة وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وظلت هذه الطريقة العلاجية البدائية متفشية كواحدة من أهم الوسائل الطبية، ولكنها بدأت تنحصر وتنزوي في بعض المجتمعات المغلقة والمتخلفة بعد بزوغ شمس الطب الحديث، وأخيرًا بدأت تطل برأسها مرة أخرى على استحياء من خلال موضة ما يسمى بـ”الطب البديل”، وكذلك من خلال إعادة بعث ما يسمى بـ”الطب النبوي”. ولعل الصينيين وحدهم هم الذين ظلوا يحافظون على الحجامة منذ القدم وحتى الآن كعمود من أعمدة الطب الصيني الغامض، بالإضافة إلى الإبر الصينية وطب الأعشاب.

ولسنا هنا بصدد تقييم الطب الصيني، ولكننا باختصار نرى أن هذا الطب الذي بدأ قبل الميلاد بآلاف السنين واستمر حتى يومنا هذا كطب مستقل عن الطب الغربي أو الحديث، لم يحقق نجاحًا مرضيًا بالقدر الذي نستطيع أن نعتمد عليه لعلاج حالة مرضية معينة بنسبة نجاح محددة ودون الاستناد إلى وسائل طبية أخرى مساعدة، وذلك لأن هذا الطب لا يعتمد على أسس علمية وتجريبية بقدر ما يعتمد على أسس فلسفية وروحانية ونظريات افتراضية لم نتمكن حتى الآن من إثباتها بطريقة علمية ملموسة، وذلك مثل نظرية الطاقة الشهيرة، ونظرية السالب والموجب، وغيرها.

2-أنواع الحجامة:

هناك نوعان من الحجامة: الحجامة الجافة، والحجامة الرطبة. فأما الحجامة الجافة فهي عن طريق استخدام الكاسات المفرغة من الهواء والتي توضع على أجزاء معينة من الجسم فتؤدي إلى سحب الدم إلى المنطقة السطحية من الجسم، ولا تختلف نظرية الحجامة الجافة عن مجرد تدليك الجسم “المساج“، أو حتى الهرش لمنطقة الألم، حيث يؤدي ذلك إلى شعور المريض ببعض الراحة والاسترخاء وتقليل نسبي ووقتي للألم الموجود بالمنطقة المحجومة، دون أن يكون لهذا العمل أدنى تأثير في مسببات المرض الحقيقية والتي يكون “الألم” مجرد واحد من أعراضها.

وأما الحجامة الرطبة – وهي لب القصيد – فإنها لا تختلف عن الحجامة الجافة، إلا في تشريط الجلد بعد عمل الحجامة الجافة لإتاحة الفرصة لخروج كمية من الدم تتراوح ما بين 100 سم إلى 150 سم من الدم. وتتمحور فلسفة الحجامة الرطبة على هذين العملين: تشريط الجلد واستخراج كمية من الدم من موضع الحجامة، وهما العملان اللذان بُنيت على أساسهما كل نظريات الحجامة، وكل محاولات إيجاد أساس علمي لها.

3- نتائج الحجامة:

الحجامة – من وجهة نظر الحجامين – مدرسة طبية جامعة. فهي من الوسائل العلاجية الفذة التي تستخدم تقريبًا في علاج كل الأمراض ابتداءً بمرض الصداع وأمراض الروماتيزم، ومرورًا بالسكري والضغط، وانتهاءً بالسرطان والإيدز. أما أعجب استخدام للحجامة فهو استخدامها في علاج مرض سيولة الدم الذي لو أصيب فيه المريض بخدش فقد ينزف حتى يفارق الحياة، ولكن خدوش الحجامة شيء عجيب، فهي لا تسمح بحدوث النزيف، ولم لا وهي تسمح بمرور كرات الدم الحمراء إلى خارج الجسم دون الكرات البيضاء!!. والأعجب من هذا وتلك أن الحجامة تعالج الشيء وضده، فإذا استخدمت – على سبيل المثال – في علاج مرضى الضغط المرتفع فإن ضغطهم ينخفض، وإذا استخدمت في حالات الضغط المنخفض فإن الضغط يرتفع، وكذلك الحال في زيادة أو نقص الخضاب (الهيموجلوبين).. وهكذا.
النتائج في الحجامة – شأنها شأن كل مفردات الطب البديل – لا تخضع لمنهج علمي منضبط.
أما نتائج الحجامة الواردة على ألسنة الحجامين فحدّث ولا حرج، فلقد شفي جميع المحجومين تقريبًا من كل الأمراض التي ألمت بهم، أو على الأقل تحسنت أحوالهم الصحية والنفسية إلى حد بعيد بعد الحجامة!.

والنتائج في الحجامة – شأنها شأن كل مفردات الطب البديل – لا تخضع لمنهج علمي منضبط يتم فيه علاج عدد محدد من المرضى بمرض معين عن طريق الحجامة، ويُعالج عدد مماثل من المرضى بنفس المرض بطرق أخرى من طرق الطب الحديث، ثم تُخضع النتائج لمنهج إحصائي منضبط وتنشر في مجلة طبية معتبرة. وهذا ما لا يحدث أبدًا، وفي حدود ظني أنه لن يحدث أبدًا. وبكل أسف فقد جنَّد بعض كبار الحجَّامين من غير الكادر الطبي عددًا من الأطباء، بل ومن أساتذة الطب، للدعاية للحجامة وكتابة التقارير وعمل التحاليل اللازمة قبل وبعد الحجامة، والتي تثبت أن الحجامة كان لها فعل السحر في علاج كل الأمراض بإقرار أساطين الطب، بل الأدهى والأمر أن عددًا من الأطباء قد انضموا إلى ركب الحجَّامين وتتلمذوا على أيديهم دون أي قناعة ودون أي سند علمي أو شرعي.

4- الحجامة في السنة النبوية:

والحجامة عمود أساسي من أعمدة الطب النبوي إن لم تكن ذروة سنامه، وهي من الوسائل الطبية التي امتدحها الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ورد في الحديث الصحيح: “خير ما تداويتم به الحجامة”. وهناك ما يزيد على سبعين حديثًا نبويًا في الحجامة تختلف اختلافًا متباينًا في صحتها وضعفها، كما أن بعضها يختلف مع بعضه في المعاني والمقاصد، لدرجة أن مثل هذه الأحاديث يقع تحت بند “مُختلف الحديث”. وبالرغم من هذا التباين في الصحة والضعف والمعاني والمقاصد، إلا أن الإخوة الحجَّامين لا يشغلهم ذلك ويتعاملون مع كل هذه الأحاديث على قدم المساواة، فيأخذون منها ما يتفق مع توجهاتهم ومصالحهم، ويتركون ما يتعارض مع هذه المصالح والتوجهات، بغض النظر عن الصحيح والضعيف والمختلف والمدسوس. وهذا ما سنأتي على تفصيله الآن.

5- مواعيد الحجامة الإسلامية:

هناك مواعيد للحجامة سنوية وفصلية وشهرية وأسبوعية، بل ويومية، وكل هذه المواعيد مدعومة بأحاديث نبوية شريفة. فهناك الأحاديث التي تُحبذ جعل الحجامة عادة سنوية، وهناك الأحاديث التي تحبذ إجراء الحجامة مع بداية الحر أي في فصل الربيع، كما أن هناك أحاديث تحدد أيامًا معينة في كل شهر قمري لإجراء الحجامة، وهناك الأحاديث التي تأمر بالحجامة على الريق، وإذا كانت هذه الأحاديث قد تباينت في صحتها وضعفها، إلا أن الأحاديث التي وردت بشأن أيام الأسبوع المحبذة وغير المُحبذة لإجراء الحجامة تتجاوز قضية “الصحيح والضعيف” لتدخل في منعطف “مختلف الحديث”، حيث إننا لو أخذنا بجملة الأحاديث الخاصة بأيام الأسبوع لوجدنا أن الحجامة منهي عنها تقريبًا في كل أيام الأسبوع، اللهم إلا يوم الاثنين، فعلى سبيل المثال هناك حديث جامع أخرجه ابن ماجه عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “الحجامة تزيد الحافظ حفظًا، والعاقل عقلاً، فاحتجموا على اسم الله تعالى، ولا تحتجموا الخميس والجمعة والسبت والأحد، واحتجموا الاثنين، وما كان من جذام ولا برص إلا نزل يوم الأربعاء”.

وبالإضافة إلى اختلاف الأحاديث في شأن الأيام فإن الأمر يتعدى ذلك ويصل إلى مرحلة وجود أحاديث تختلف في أمر اليوم الواحد ما بين تحبيذ وعدم تحبيذ الحجامة في يوم معين، وذلك مثل يوم الخميس والثلاثاء.

وفي الحديث الشريف: “احتجموا يوم الاثنين والثلاثاء ولا تحتجموا يوم الأربعاء”. وفي المقابل فقد روى أبو داود في سننه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كره الحجامة يوم الثلاثاء فقال: “يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرفأ فيها الدم”.

ولقد أراح بعض كبار الحجامين المعاصرين أنفسهم وقالوا: إن الأحاديث الواردة بشأن أيام الأسبوع كلها مدسوسة ولا يؤخذ بها.

وبغض النظر عن قضية “أيام الحجامة”؛ فلقد اطلعنا في بعض كتب الحجامة الإسلامية على محاولات لإضفاء صفة “الشرعية العلمية” على الأحاديث التي تحدد مواعيد سنوية وفصلية وشهرية للحجامة، فأشاروا إلى أن ركود الدم وهيجانه وكثرة الشوائب والأخلاط بالدم إنما تحدث في أوقات محددة، وأنها ترتبط بدرجة حرارة الجو ودرجة نشاط الإنسان، بل إنهم ربطوا بين هذه المسائل وبين حركة القمر الشهرية، وفي حدود علمنا فإن حركة القمر لها علاقة بالمد والجزر في البحار، ولكننا لا نعرف مدى صحة علاقة هذه الحركة بركود الدم وهيجانه وبكمية الشوائب والأخلاط في الدم، ولقد سبق أن نقضنا هذه النظريات من حيث المبدأ.

6-أماكن الحجامة الإسلامية:

الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم في أماكن محددة ذكر منها ابن القيم: الكاهل والأخدعين، والرأس، والورك، وظهر القدم. أما نقرة الرأس أو نقرة القفا ففيها خلاف؛ ففي حديث: “إن فيها شفاء من اثنين وسبعين داء”. وفي حديث آخر أنها تورث النسيان.

7-تقييم الحجامة الإسلامية:

لم تكن الحجامة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرشحة لعلاج كل الأمراض كما هو واقع الحال الآن، فالتطبيق العملي للحجامة في هذا العهد كان يتمثل في أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم أو أمر بالحجامة في الأحوال المرضية الآتية:

1- نبيغ الدم أو هيجانه وهو ما يعرف الآن بارتفاع ضغط الدم.

2- تسكين الألم في أجزاء الجسم المختلفة. فالثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم على الرأس من صداع في رأسه، واحتجم على الكاهل والأخدعين والورك وسطح القدم لتهدئة الألم في هذه الأماكن، وذلك بالطبع بغض النظر عن السبب الحقيقي لهذه الآلام والذي لم يكن معروفًا في ذلك الزمان.

3- إخراج السموم من الجسم، فلقد احتجم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالاحتجام بعد أن أكل من الشاة المسمومة في خيبر هو وأصحابه.

4- الاحتجام على سبيل الوقاية، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “هي من العام إلى العام شفاء”. وقال: “نعم العادة الحجامة”.

والشيء المدهش – حقًّا – أن استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم للحجامة لم يخرج أبدًا عن الإطار الذي وضعها فيه الطب الحديث، فنحن نقر أن استنزاف الدم وسيلة من وسائل تخفيض الضغط المرتفع، ونقر أن الأثر الذي تتركه الحجامة هو مثل أثر التدليك أو المساج، وهو وسيلة من وسائل تخفيف الإحساس بالألم في أماكن الحجامة، ونقر أيضًا بأن استخراج الدم بعد التسمم هو طريقة مفيدة، بل ما تزال تستخدم حتى الآن بعد لدغات العقارب والثعابين السامة.

وأخيرًا فإنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حبب في اعتياد الحجامة حتى دون مرض، فإننا نشير إلى أن الطب الحديث يؤكد على هذه العادة وينصح بها، ولكن في صورة عصرية – لا تفيد الشخص نفسه فحسب بل تفيد المجتمع كله – ألا وهي التبرع بالدم.

إذًا هذا هو الحجم الحقيقي للحجامة الآن، وهو تقريبًا نفس الحجم الذي وضعها فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من 1400 سنة. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر مثلاً بالحجامة في الأمراض المعدية أو النزيف أو كعلاج للمفؤود أو المبطون أو في ذات الجنب، وغير ذلك من الأمراض التي كانت معروفة على عهده، ناهيك عن الأمراض التي لم تكن معروفة في ذلك الزمان.
الطب الحديث يؤكد على الحجامة وينصح بها، لكن في صورة عصرية – لا تفيد الشخص نفسه فحسب بل تفيد المجتمع كله – ألا وهي التبرع بالدم.
أما حجامو هذا الزمان فإنهم لم يلزموا أنفسهم بشيء من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الحجامة إلا اسمها، فهم يمارسون الحجامة في كل وقت وزمان دون التقيد بالمواعيد الواردة في السنة، ويحجمون في كل مكان بالجسم دون التقيد بالأماكن الواردة في السنة، ويحجمون في كل الأمراض دون التقيد بالإطار الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم للحجامة، وهو نفس الإطار في مفهوم العلم الحديث. فهم يحجمون تحت شعار السنة ولكن داخل عباءة الطب الصيني والشعبي.

إن الحجامة هي أخطر الممارسات التي تمارس تحت شعار “الطب النبوي”، فالحجامة وهي عمل “شبه جراحي” يقوم به في الغالب أشخاص غير مؤهلين للعمل الطبي مثل المشايخ والدعاة وأنصافهم والحلاقين والعشابين وغيرهم، ويتم ذلك في أمكان غير مخصصة للعمل الطبي مثل المنازل والمساجد ودكاكين الحلاقة ومحلات العطارة وغيرها.

بل إنه لمن المحزن حقًا أن كثيرًا من الأطباء الذين امتهنوا هذه المهنة لا يتوخون الإجراءات الطبية السليمة..

الخــلاصـة

ولعلنا نخلص من هذا البحث بالآتي:

1- أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بدين وشريعة، ولم يرسله بعلوم دنيوية وخبرات حياتية.

2- إن الطب المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا طبّ كان سائدًا في جزيرة العرب قبل البعثة وأثناءها تعامل معه فأخذ منه وترك، وكانت له فيه آراء واجتهادات وأحاديث مثل غيره من أمور الدنيا.

3- لا يمكن مقارنة هذا الطب البدائي بالطب الحديث؛ فأين وسائل التشخيص الحديثة من مختبرات ومعامل وأشعة من تشخيص المريض لمرضه بنفسه؟! وأين علم مسببات
ما يسمى بـ “الطب النبوي” لا مكان له الآن على خريطة الطب الحديث، ولكن مكانه الطبيعي يقع داخل إطار ما يسمى بـ”الطب الشعبي” أو “الطب البديل” أو “طب البركة“.
الأمراض من قصة السموم والأخلاط؟! وأين أفرع الطب المختلفة من التقسيمات الساذجة؟! وأين علم أمراض القلب من المفؤود؟! وأين علم الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي من المبطون؟! وأين علم أمراض الكلى والمسالك البولية من ذات الجنب؟! وأين علم الأمراض النفسية والعصبية من المس والسحر؟! وأين وسائل العلاج الحديثة مثل الجراحة والليزر والأقربازين (علم الأدوية) من الحجامة والكي والسنا والسنوت والقسط الهندي؟!… إلى غير ذلك.

إن محاولة تسويق هذا الطب على أساس أنه “طب معجزة” بغض النظر عن ثقله العلمي والتقني، لهي محاولة محكوم عليها بالفشل؛ فالله سبحانه وتعالى لم يرد للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة حسية – سواء كانت طبية أم غير طبية – كتلك المعجزات التي سيرها على يد غيره من الرسل مثل عيسى – عليه السلام – الذي أنزل عليه مائدة من السماء، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل موسى – عليه السلام – الذي كلمه الله، والذي ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى. وإنما شاءت إرادة الله أن تكون معجزة هذا النبي صلى الله عليه وسلم – التي تحدى بها قومه – معجزة لفظية بيانية متمثلة في “القرآن الكريم“. (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)[الإسراء:90- 93].

4- إن ما يسمى بـ “الطب النبوي” لا مكان له الآن على خريطة الطب الحديث، ولكن مكانه الطبيعي يقع داخل إطار ما يسمى بـ”الطب الشعبي” أو “الطب البديل” أو “طب البركة”. إذ إن أهم سمات هذه الأنواع من الطب هي مخاصمة الأصول والقواعد العلمية، والاعتماد على الخبرات الشخصية والوصفات الشعبية والطب التاريخي والتراثي، ويستطيع أي إنسان – طبيبًا كان أو غير طبيب – أن يجعل من نفسه طبيبًا بديلاً أو شعبيًا أو نبويًا دون سند علمي أو شرعي أو قانوني، كما أنه يستطيع أن يمارس علوم هذا الطب أو يتخصص في علم من علومه كأن يكون حجَّامًا أو عشَّابًا أو عسَّالاً أو صاحب رقية أو طبيب جنّ وعفاريت.

5- إن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الطب فيها الصحيح والضعيف، ومنها المكذوب. ولقد أشار بحث د. سليمان الأشقر إلى أنه حتى إذا ثبت صحة نسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذا الحديث الصحيح قد يكون غير صحيح من الناحية العلمية المجردة.

ولقد أثبتنا – بالفعل – أن بعض الأحاديث الصحيحة لا تتفق مع ما يقره العلم الحديث، وذلك مثل حديث “الذبابة”، وحديث “لا عدوى”. وفي المقابل فإن هناك أحاديث تتفق مع العلم الحديث، بل سبقت العلم الحديث في الإشارة إلى بعض الحقائق العلمية مثل حديث “الحمى”، وحديث “الطاعون”. كل ذلك يؤكد على بشرية هذه الأحاديث وأنها اجتهاد شخصي من الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست وحيًا.

6- إننا نرى أن أدعياء الطب النبوي والمتاجرين به، أخذوا من هذا الطب اسمه، ثم أفرغوه من محتواه، وكانوا أشد الناس انقلابًا عليه، وفصلوه بما يتفق مع أهوائهم ومصالحهم.