لقد كانت مدينة القدس “شاهدة” على نموذجين حضاريين، يقفان على طرفي نقيض في التعامل مع أعدائهم حين الانتصار، وفي التعامل مع المدينة المقدسة حين الغزو أو الفتح.

فبينما أعمل الصليبيون السيف والقتل والتخريب في المدينة وأهلها، حتى استبشع بعضٌ منهم كثرة الدماء وأعداد القتلى ووحشية التدمير!.. تخبرنا القدس عن تسامح المسلمين، وعن رحمتهم بالمخالفين وعدلهم مع المعتدين.. في فارق شاسع بين حضارتين؛ تقوم إحداهما على القسوة والعنف وعدم الاعتراف بأية حقوق للأغيار، وترفع الثانية- على النقيض من ذلك- شعار الأخوة في الإنسانية والقوامة بالقسط حتى مع المخالفين.. وما أبعد الشقة بين النموذجين!

ولسنا في استنطاق مدينة القدس وفي استشهادها على هذين النموذجين الحضاريين، نقتبس من كتابات مؤرخي المسلمين.. إنما نورد شهادة مستشرق غربي لا يُتهم بالانحياز للرؤية الإسلامية، وهو “غوستاف لوبون”؛ الذي سجل في كتابه المهم (حضارة العرب) هذا الفارق الجوهري، وهو يصف حال مدينة القدس حين روَّعها الصليبيون؛ على النقيض تمامًا من سلوك المسلمين يوم فتحها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحين حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

يقول “لوبون”: “كان سلوك الصليبيين حين دخلوا مدينة القدس، غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون. قال كاهن مدينة لُوبوِي، رِيموند داجِيل: حدث ما هو عجيب بين العرب، عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها, فقد قُطعت رءوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم! وبُقرت بطون بعضهم، فكانوا يُضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحُرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل. وكان لا يُرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رءوس العرب وأيديهم وأرجلهم, فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا”([1]).

ثم ينقل “لوبون” شهادة مؤلمة للكاهن “روبرت”، وهو أحد الشهود على إبادة عشرة آلاف مسلم، ذبحًا، حيث قال “روبرت”: “لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها؛ فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يُعرف أصلها. وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة”([2]).

وفيما يتصل بكون القدس “حارسة” للضمير والوعي الإسلامي، يبين “لوبون” أثر تلك الفظائع على واقع المسلمين آنذاك، قائلاً: “هاج العالم الإسلامي من استيلاء الصليبيين على القدس.. وتناسى المسلمون جميع عوامل الانقسام الذي كان يَفت في عضدهم.. وأغْضَى سلطان القاهرة عن منافسته لخليفة بغداد؛ فتبادلا السفراء للبحث في عمل ما يجب لتلاقي تلك المصيبة”([3]). أي أن هذه الكارثة كانت سببًا في أن يلملم المسلمون جراحاتهم، ويتعالوا على خلافاتهم، ويتنبهوا للخطر المحدق بهم جميعًا.

أما فيما يخص “شهادة مدينة القدس” على سلوك القائد صلاح الدين فيها، حين دخلها محرِّرًا، فيقول “لوبون”: “تم طرد الصليبيين من القدس على يد صلاح الدين الأيوبي الشهير؛ وذلك أن صلاح الدين دخل سورية بعد أن أصبحت مصر وجزيرة العرب والعراق قبضته، وأنه غلب ملك القدس الأسيف “غِي دولوزينيان” وأسره، واسترد القدس في سنة 1187م. ولم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش، فيبيد النصارى على بكرة أبيهم؛ فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم، مانعًا سلب شيء منهم”([4]).

وبينما ارتكب الصليبيون عند احتلالهم القدس، جرائم يندى لهم جبين الإنسانية، واعتدوا على الحرمات والمقدسات والممتلكات، حتى ممتلكات المسيحيين المنتمين إلى الكنيسة الشرقية؛ كما حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، واستعملوا المسجد الأقصى لمصالحهم وجعلوا منه مستودعًا للذخائر، واتخذوا سراديبه إسطبلاً لحيواناتهم.. بينما كان هذا سلوك الصليبيين؛ فإن صلاح الدين أظهر من التسامح والعفو ما جعل المؤرخين يذكرونه بالثناء والتقدير؛ فنشر جنوده في شوارع المدينة وأحيائها يحفظون الأمن والنظام، وشرع في تنظيم الشئون؛ فأزال ما بمسجدي الصخرة والأقصى من آثار نصرانية، وعمرهما تعميرًا يتناسب والغاية التي أنشئا من أجلها.. كما أمر صلاح الدين بإغلاق كنيسة القيامة ريثما ينتهي القتال؛ ولما انتهى القتال أمر بفتحها، وأتاح للمسيحيين مجال التعبد فيها بحرية([5]).

إذن، مدينة القدس “شاهدة” على الاختلاف الجذري بين الحضارتين اللتين تناوبتا السيطرة عليها.. وعلى سلوك الفاتحين هنا وغطرسة الغزاة هناك.. و”شاهدة” أيضًا على من جعلها واحة للسلام بين الشعوب على اختلاف أديانهم وثقافاتهم، ومن جعلها ساحة حرب وإقصاء وتدمير واستعباد!

ولعل ما نراه كل يوم في مدينة القدس وما حولها من مدن وبلدات، يبين لنا إلى أي النموذجين ينتمي هذا الذي يحصل الآن.. ويكشف لنا عن ضرورة العمل الحثيث لتكون مدينة القدس، كما كانت في فترات كثيرة، مرفأ يأمن الناس فيه على عقائدهم ودمائهم وحقوقهم.. ولن يكون ذلك إلا تحت راية الإسلام، لا راية العنصرية والقهر والغطرسة.

 


([1]) “حضارة العرب”، ص: 326، ترجمة عادل زعيتر، طبعة مكتبة الأسرة 2000م.

([2]) المصدر نفسه، ص: 327.

([3]) المصدر نفسه، ص: 327.

([4]) المصدر نفسه، ص: 329.

([5]) “تاريخ القدس”، عارف باشا العارف، ص: 74، 78، 79، دار المعارف، ط4. باختصار وتصرف.