تكتسب “الحضارة” قيمتها باعتبارها الهدف الأسمى في تطور المجتمعات الإنسانية، والمثير أن المفهوم ذاته ما زال مبهمًا، فما المقصود بالحضارة ؟ وما مقوماتها وعناصرها؟ وما علاقة الحضارة بالمدنية؟ وهل المصطلحان مترادفان أم أن هناك فارقًا بينهما؟..

حضارة “المدينة” الغربية

يعد لفظ “الحضارة” هو الترجمة الشائعة للفظة الإنجليزية “Civilization”، والتي يعود أصلها إلى عدة جذور في اللغة اللاتينية؛ “Civiltiess” بمعنى مدنية، و”Civis” أي ساكن المدينة، و”Cities” وهو ما يُعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري. ولم يُتداول الاشتقاق “Civilization” حتى القرن الثامن عشر، حين عرفه دي ميرابو في كتابه “مقال في الحضارة” باعتباره رقة طباع شعب ما وعمرانه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة.
ويبدو أن ما عناه غالبية من استخدموا الكلمة لأول مرة هو مزيج من الصفات الروحية والخلقية التي تحققت على الأقل بصورة جزئية في حياة البشر في المجتمع الأوربي.
وفي الواقع فإن اشتقاق لفظ “Civilization” من مفهوم “Cities” بمعنى مدينة قد طرح ظلاله على دلالات اللفظ الأول؛ فاستنادًا إلى تقسيم لامبادر مرت المدينة بثلاث مراحل في أوروبا:

مرحلة المدينة ما قبل الصناعية: ظهرت المدينة في أوروبا منذ عهد الإغريق، وكانت عبارة عن وحدة سياسية متكاملة لها حكومة مستقلة ونظام سياسي خاص، ومع دخول المسيحية في أوروبا تمركزت المدينة الأوروبية حول الكاتدرائية، خصوصًا في ظل تدهور وظيفة المدينة في الإدارة المدنية، ومع بداية الحروب الإسلامية المسيحية اتخذت المدن الأوروبية الطابع العسكري التجاري بجانب الطابع الديني، ولاحقًا تراجع دور المدينة وتدنى مستوى المعيشة بها لتدخل العصور المظلمة.
مرحلة المدينة الصناعية: كنتاج لظهور الثورة الصناعية اتسعت المدن الأوروبية، وتمركز حولها عدد كبير من العمال والمنظمين بعد انتقالهم من الريف، وتحولت المدينة إلى موطن لاقتصاد السوق والسلطة السياسية متجهة نحو بلورة تاريخ العالم في تاريخ المدينة.
مرحلة المتروبوليتان: هي مرحلة التطور للمدينة بعد التوسع الرأسمالي والتطور التكنولوجي وظهور شركات عابرة القارات والمنظمات الدولية، حيث ظهرت مراكز عالمية تمثل بؤرًا تتشابك حولها مدن مختلفة ومتباعدة المكان، غير أنها ترتبط “بالمدينة – الأم” برباط وثيق.

وقياسًا على ذلك تجيء التعريفات لمفهوم “Civilization”، فمثلا يعرفه وول ديورانت بأنه “نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، ويتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون”. ولم يمنع ذلك حدوث تداخل كبير في تناول الفكر الأوروبي لمفهوم “Civilization”، فهناك من جعل المفهوم مرادفًا لمفهوم الثقافة، وهناك من جعله قاصرًا على نواحي التقدم المادي مثل أصحاب الفكر الألماني، وهناك من جعله شاملاً لكل أبعاد التقدم مثل المفكرين الفرنسيين.
والملاحظ أن جوهر المفهوم اتجه نحو تلخيص تطور نمط الحياة الأوروبي بكل أبعاده باعتباره المجتمع الأكثر رقيًا أو هو قمة التطور البشري، وقد انعكس ذلك على التقسيمات المقترحة لمراحل التطور البشري التي غالبًا ما تسير في حركة أحادية للتاريخ متجهة نحو النموذج الأوروبي في التطور الصناعي.
الحضارة في القراءة العربية:
وفي بدايات القرن العشرين، ومع دخول الاستعمار الأوروبي إلى الدول العربية، انتقل لفظ “Civilization” إلى القاموس العربي، وقد حدث اضطراب واضح في المفاهيم لعدم وضوح تعريفات ألفاظ: “ثقافة” و”حضارة” و”مدنية” خاصة مع وجود المفاهيم الثلاثة في اللغة العربية على حين لا يوجد سوى مفهومين في اللغة الإنجليزية، مما أدى إلى انقسام اتجاهات ترجمة المصطلح إلى اتجاهين:

1 – اتجاه ترجمة مفهوم “Civilization” إلى اللفظ “مدنية”:

على الرغم من عدم شيوع هذه الترجمة لمفهوم “Civilization” إلا أنها أكثر دقة في اختيار اللفظ العربي، وقد بدأ هذا الاتجاه منذ أوائل القرن التاسع عشر، حيث تُرجم في عهد محمد علي باشا كتاب “إتحاف الملوك الألباب بسلوك التمدن في أوروبا”، كما استخدم رفاعة الطهطاوي في كتابه “مناهج الألباب المصرية” مفهوم التمدن في التعبير عن مضمون المفهوم الأوروبي ومشيرًا لوجود بُعد التمدن في الدين والشريعة.
وظل هذا الاستخدام لمفهوم المدنية سائدًا حتى وقت قريب وبالدلالات والمعاني نفسها التي تمثل بها مفهوم “Civilization”، فقد استخدم المفهوم عام 1936م على أنه “حالة من الثقافة الاجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير الملك”، وكذلك أطلق عام 1957م على الظواهر المادية في حياة المجتمع مقابل إطلاق لفظ الحضارة على “Culture”، قاصدًا الظواهر الثقافية والمعنوية في هذه الحياة، حيث المدنية تنقل وتورث، بينما الحضارة “Culture” إنتاج مستقل يصعب اقتباسها ونشرها.
ويختلف الباحثون حول تحديد الجذر اللغوي لكلمة “المدنية” فيرجعها البعض إلى “مدن” بمعنى أقام في المكان، ويرجعها آخرون إلى “دان” وهي جذر مفهوم الدين وتعني خضع وأطاع، وأيًّا كان مصدرها فقد اقترن اللفظ بتأسيس الدولة الإسلامية، وارتبط بمفهوم الدين بما يعنيه من دلالات الطاعة والخضوع والسياسة، ولقد ارتبطت المدينة في عهد الرسول -- بنظام مجتمعي حياتي وتنظيمي جديد في الجزيرة العربية ارتكز على القيم الإسلامية والمبادئ التنظيمية المنبثقة عنها.
وعلى خلاف التجربة الغربية، فالمدينة في الخبرة الإسلامية هي نتيجة لوجود قيم التهذيب والعلاقات الاجتماعية والسياسية في الدين الإسلامي، وليست سببًا فيها. ومن ناحية ثانية، فقد بدأت المدينة في الخبرة الإسلامية مما انتهت عليه المدينة في التجربة الأوروبية “مرحلة المتروبوليتان”، أي المدينة التي تتبعها مدن أخرى وترتبط بها) فقد كانت المدن الإسلامية جميعها حواضر راقية تتبعها مئات المدن الأخرى المنتشرة في الإمبراطورية الإسلامية، على سبيل المثال: كانت المدينة المنورة ثم الكوفة وقرطبة والآستانة مراكز للإمبراطورية الإسلامية على مر تاريخها.
ومن ناحية ثالثة، إذا كان تطور المدينة الأوروبية المعاصرة يعد دليلاً على الرقي الإنساني -طبقًا للفكر الغربي- فإن ابن خلدون اعتبر ذات الصورة من رفاهية العيش والاستهلاك طورًا تحدث فيه اختلالات في تطبيق منظومة القيم الإسلامية والضوابط التي تحدد حدود الإنسان، ومنهج تفاعله في الكون، وبالتالي تنافي مفهوم استخلاف الإنسان في الأرض، واعتبر أن مؤشر ذلك هو سكنى الحضر والمدن -مرحلة الحضارة-، وبالتالي فهي لديه نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير.

2 – اتجاه ترجمة “Civilization” إلى اللفظ العربي “حضارة”:

يُعد هذا الاتجاه هو الأكثر شيوعًا في الكتابات العربية ابتداء من الربع الثاني من القرن العشرين، وبملاحظة التعريفات المقدمة لمفهوم “الحضارة” نلحظ أنها هي نفسها التعريفات التي وضعت إزاء “المدنية”، فالخلاف لفظي والمحتوى واحد وهو المضمون الأوروبي. فعادة، يربط مفهوم الحضارة إما بالوسائل التكنولوجية الحديثة، أو بالعلوم والمعارف والفنون السائدة في أوروبا، أي خلاصة التطور الأوروبي الحالي. وينطلق هؤلاء من أن الحضارة هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني الموجود في المجتمع، وأنها تمثل المرحلة الراقية في التطور الإنساني.
بالنظر إلى تطور المفهوم في الكتابات العربية في العلوم الاجتماعية لوحظ أنها تخرج عن ذات الدلالات للمفهوم في الفكر الأوروبي؛ الذي يوحي بعالمية العلم والمنهج والمفاهيم وبالتالي الحضارة.
الحضارة…حضور وشهادة:
والواقع أن مفهوم الحضارة في الفكر واللغة العربية قد يبدو متوافقًا مع جذور المفهوم الأوروبي “Civilization” -خاصة استخدام ابن خلدون- حين تحدث عن “الحضارة” تلك المشتقة من الإقامة في الحضر بخلاف البادية، ويأتي اللبس من رجوع الباحثين إلى القواميس العربية-حاملين تحيزات مسبقة-لاستخدام الحضارة بمعنى الإقامة في الحضر دون باقي الاستخدامات الأخرى.
فلغويًّا، يذكر مفهوم الحضارة للدلالة أولاً على الحضور أو الشهادة التي هي نقيض المغيب، فمثلاً حضر في القرآن الكريم تعني شهد: “إذا حضر أحدكم الموت”[البقرة:180]، “وإذا حضر القسمة أولو القربى” [النساء:8].

وللشهادة أربعة معانٍ متكاملة تمثل جزءاً من بناء مفهوم الحضارة:

1 – الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله -عز وجل- وهي محور العقيدة الإسلامية وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الخالق -عز وجل- أو الخروج عنه.
2 – الشهادة بمعنى قول الحق وسلوك طريق العدل، وتعد مدخلاً من مداخل العلم ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة.
3 – الشهادة بمعنى التضحية والفداء في سبيل الله -سبحانه وتعالى- حفاظًا على العقيدة.
4 – الشهادة كوظيفة لهذه الأمة “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا [البقرة:143]، وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، حيث تكون أمة قوية تقوم على العدل وتعمل به وتدعو إلى عبادة الله وحده.

وطبقًا لذلك فإن “الحضارة” في الأصول الإسلامية ينتج عنها نموذج إسلامي يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها بعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق هذا الكون، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هو تحقيق الخلافة عن الخالق في تعمير أرضه وتحسينها، وبناء علاقة سلام مع المخلوقات الأخرى أساسها الدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة.
والواقع أن أي تجربة بشرية يمكن إطلاق لفظ حضارة عليها ما دامت تتوافر فيها الشروط التالية:

1 – وجود نسق عقدي يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب ومفهوم الإله سلبًا أو إيجابًا.
2 – وجود بناء فكري سلوكي في المجتمع يشكل نمط القيم السائدة وهي الأخلاقيات العامة والأعراف.
3 – وجود نمط مادي يشمل جميع الأبعاد المادية في الحياة.
4 – تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وعالم أشيائه.
5 – تحديد نمط العلاقة مع الآخر، أي المجتمعات الإنسانية الأخرى وأسلوب إقناعها بهذا النموذج والهدف من ذلك الإقناع.

وتأسيسًا على ذلك، فأن وحدة الأصل الإنساني لا تستلزم بالضرورة وحدة معارفه وعلومه ومناهجه، وبالتالي فتنافس الحضارات أمر منطقي تفرضه طبيعة الوجود البشري ومعطياته؛ لأن الاختلاف سُنة من سنن الله في الكون: “ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم” [الروم:22].
خلاصة القول إن مفهوم الحضارة أو المدنية قد تمحور في الفكر الإسلامي حول قيم العقيدة الإسلامية، والتي مثلت الشرعة والمنهاج للممارسة الإسلامية على العكس من النموذج الغربي الذي اشتق مفرداته من تطوره التاريخي وواقعه المعاشي.


د. نصر محمد عارف – أستاذ مشارك – جامعة جورج تاون