بعد حياة مفعمة بالحيوية والعطاء، وعن عمر ناهز التسعين عامًا، رحل إلى رحاب الله المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان صاحب (الإسلام كبديل)..!

وهوفمان رجل غربي كان من الممكن أن تمضي حياته كأي إنسان آخر، له نصيب من الشهرة والنجاح، بسبب عمله كسفير، أو بسبب اهتمامه بفن الباليه.. لكنه قرر أن يجعل لحياته معنى فوق هذا!

ففي عام 1980 قرر الدخول في الإسلام، بعد أن لفت نظره إليه ثلاث حوادث أو تجارب؛ واحدة ذات طبيعة إنسانية، وأخرى جمالية فنية، وثالثة فلسفية.. وسنعود لتفصيل ذلك.

أما قبل هذا، فنشير إلى أنه- كما جاء في كتابه (الإسلام عام 2000)- ولد في 6 يوليو 1931 لأسرة كاثوليكية، في أشافينبرج بألمانيا؛ حيث أمضى سنوات الحرب العالمية، وخبر القصف والاحتلال العسكري.

بدأ دراسته الجامعية في عام 1950 بنيونيورك، وأنهى دراسته للقانون الألماني بحصوله على الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1957، ثم حصل على الماجستير في القانون الأمريكي من هارفارد عام 1960.

عمل في الإدارة الخارجية الألمانية من عام 1961 حتى 1994، وتخصص في مسائل الدفاع النووي. وكان آخر مناصبه: مدير استعلامات الناتو في بروكسل (1983- 1987)، وسفير ألمانيا في الجزائر (1987- 1990)، ثم سفير ألمانيا بالمغرب (1990- 1994).

اعتنق الإسلام عام 1980، وأدى العمرة عام 1982، ثم الحج في 1992. وفي 1985 كتب (يوميات ألماني مسلم)، الذي توالت طبعاته بلغات مختلفه ليصدر بالعربية عام 1993 بالقاهرة.

أثار كتابه (الإسلام كبديل)، الذي نشر بالألمانية عام 1992، اهتمام ألمانيا والعالم.. ثم صدر له (رحلة إلى مكة)، (الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود)، (الإسلام عام 2000)، (خواء الذات والأدمغة المستعمرة)، (الإسلام كما يراه ألماني مسلم)، إضافة إلى عشرات المقالات واللقاءات والمؤتمرات.

أما أسباب إسلامه، أو طرق دخوله عالم الإسلام، فجاءت كما أوضح في (رحلة إلى مكة)، عبر ثلاث حوادث أو تجارب: إنسانية، وجمالية فنية، وفلسفية.

التجربة الإنسانية: بدأت حين تعرف إلى الإسلام عن قرب أثناء عمله بالجزائر عام 61/ 1962، وعايش فترة حرب استمرت ثماني سنوات بين قوات الاحتلال الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ورأى كيف يُقتل الجزائريون رميًا بالرصاص على مؤخرة الرأس من مسافة صفر، فقط لكونهم عربًا أو لأنهم مع استقلال الجزائر.. ولاحظ مدى تحمل الجزائرين لآلامهم، والتزامهم الشديد في رمضان، ويقينهم بأنهم سينتصرون، وسلوكهم الإنساني وسط ما يعانون من آلام.. هذا السلوك الذي جعل سائقًا جزائريًّا يعرض على هوفمان أن يتبرع بالدم لزوجته، دون سابق معرفة، بمجرد أن سمعهما يتحدثان عن فصيلة دمها (O) ذات (RH) سالب، إثر تعرضها لنزيف الإجهاض تحت تأثير الأحداث آنذاك… “ها هو ذا العربي المسلم يتبرع بدمه، في أتون الحرب، لينقذ أجنبية على غير دينه”!!

وأما التجربة ذات الطبيعة الجمالية: فهي أنه كان مولعًا بالجمال، وكان منذ صباه معجبًا بالجانب الشكلي للجمال، ويرغب في الغوص في أعماقه. وفي عام 1951 تلقى الدفعة الأولى من منحة التفوق، فدفعها بأكملها ثمنًا لشراء نسخة مطبوعة على قطعة من الجوت من لوحة بول جرجان (الفتاة وثمار المانجو)، ثم أخذ يتأملها ويحللها.. “ولم ألبث أن اقتنعت بأن الفن الساكن (غير المتحرك)- الرسم، والنحت، والعمارة، والخط، والأعمال الفنية الصغيرة- مدين بالفضل في تأثيره الجمالي للحركة المجمدة؛ ومن ثم، فإنه مشتق من الرقص. ولذلك يزداد إحساسنا بجمال الفن التشكيلي كلما ازدادت قدرته على الإيحاء بالحركة؛ وهو ما يفسر انبهاري الشديد بالرقص الذي دفعني إلى مشاهدة عروض الباليه كافة”. ثم تخصص في (الباليه) وعشقه حتى عمل محاضرًا لمادتي تاريخ وعلم جمال الباليه بمعهد كولونيا للباليه فيما بين عامي 1971- 1973م.

وعبر هذا الطريق، صار الفن الإسلامي بالنسبة له “تجربة مهمة ومثيرة؛ إذ إن هذا الفن لا يماثل في سكونه تمامًا ما أسعدني في حركات الباليه؛ أي: التجريدية، القدرة على الإنسانية، الحركة الداخلية، الامتداد فيما لا نهاية؛ وذلك كله في إطار من الروحانية التي يتسم بها الإسلام؟!”. ثم ألهمته أعمال معمارية، مثل الحمراء في غرناطة، والمسجد الكبير في قرطبة، “اليقين بأنها إفراز حضارة رفيعة راقية”.

أما في التجربة الفلسفية: فقد دفعته درايته بالديانة الكاثوليكية وبأدق شئونها من الداخل، إلى “يقيني بإمكانية، بل بضرروة الوحي والدين. ولكن أي دين؟ وأي عقيدة؟ هل هي اليهودية أو المسيحية، أو الإسلام؟ وجاءتني الإجابة من خلال تجربتي الثالثة، التي تتلخص في قراءتي المتكررة للآية 38 من سورة النجم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}. ولا بد من أن تصيب هذه الآية بصدمة شديدة كل من يأخذ مبدأ حب الآخر الوارد في المسيحية مأخذ الجد؛ لأنه يدعو في ظاهر الأمر إلى النقيض. ولكن هذه الآية لا تعبر عن مبدأ أخلاقي، وإنما تتضمن مقولتين دينيتين تمثلان أساسًا وجوهرًا لفكر ديني، هما:

– أنها تنفي وتنكر وراثة الخطيئة.

– أنها تستبعد، بل وتلغي تمامًا، إمكانية تدخل فرد بين الإنسان وربه، وتحمل الوزر عنه.

والمقولة الثانية هذه تهدد، بل وتنسف، مكانة القساوسة، وتحرمهم من نفوذهم وسلطانهم الذي يرتكز على وساطتهم بين الإنسان وربه وتطهيرهم الناس من ذنوبهم. والمسلم بذلك هو المؤمن المتحرر من جميع قيود وأشكال السلطة الدينية. أما نفي وراثة الخطيئة وذنوب البشر، فقد شكّل لي أهمية قصوى؛ لأنه يفرغ التعاليم المسيحية من عدة عناصر جوهرية، مثل: ضرورة الخلاص، والتجسيد، والثالوث، والموت على سبيل التضحية… لقد وجدت في الإسلام أصفى وأبسط تصور لله”.

وعبر الأربعة عقود الأخيرة في حياته التسعينية- أي من لحظة إعلان إسلامه عام 1980، حتى وفاته في يوم الاثنين 13 يناير 2020م- قرر مراد هوفمان، بعد أن كان سفيرًا لبلاده بعدة دول، أن يكون أيضًا سفيرًا للإسلام في الغرب، بل وفي العالم أجمع.. بما ترك من ثروة فكرية وآراء مهمة، خاصة في قراءة الإسلام بعين غربية، وفي نقد الغرب بذهنية إسلامية؛ مما لخصه بمقولته الجامعة: “ليس الإسلام بديلاً من البدائل، لنظام ما بعد التصنيع الغربي؛ بل هو البديل”.

رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الصالحين..