الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قنرى أن القول الذي يطمئن إليهالقلب، هو الذي يتمشى مع ظواهر النصوص التي ناطت كل الأحكام بالإرضاع والرضاع. كمايتمشى مع الحكمة في التحريم بالرضاع، وهو وجود أمومة تشابه أمومة النسب، وعنهاتتفرع البنوة والأخوة وسائر القرابات الأخرى. ومعلوم أن الرضاع في حالة “بنوكالحليب” غير موجود، إنما هو الوجور الذي ذكره الفقهاء.يقول فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي :
لا ريبأن الهدف الذي من أجله أنشئت “بنوك الحليب” كما عرضها السؤال هدف خير نبيل يؤيدهالإسلام. الذي يدعو إلى العناية بكل ضعيف أيًا كان سبب ضعفه وخصوصًا إذا كان طفلاًخديجًا لا حول له ولا قوة.
ولاريب أن أية امرأة مرضع تسهم بالتبرع ببعض لبنها لتغذية هذا الصنف من الأطفال،مأجورة عند الله، ومحمودة عند الناس، بل يجوز أن يشترى ذلك منها إذا لم تطب نفسهابالتبرع، كما جاز استئجارها للرضاع كما نص عليه القرآن، وعمل به المسلمون.
ولا ريب كذلك أن المؤسسة التي تقومبتجميع هذه “الألبان” وتعقيمها وحفظها لاستخدامها في تغذية هؤلاء الأطفال في صورةما سمى “بنك الحليب” مشكورة مأجورة أيضًا.
إذن ما المحذورالذي يخاف من وراء هذا العمل؟المحذور يتمثل في أن هذاالرضيع سيكبر بإذن الله، ويصبح شابًا في هذا المجتمع، ويريد أن يتزوج إحدى بناته،وهنا يخشى أن تكون هذه الفتاة أخته من الرضاع وهو لا يدرى، لأنه لا يعلم من رضع معهمن هذا اللبن المجموع، وأكثر من ذلك أنه لا يعلم مَن مِنْ النساء شاركت بلبنها فيذلك، مما يترتب عليه أن تكون أمه من الرضاع، وتحرم هي عليه ويحرم عليه بناتها منالنسب ومن الرضاع، كما يحرم عليه أخواتها لأنهن خالاته، ويحرم عليه بنات زوجها منغيرها على رأى جمهور الفقهاء لأنهن أخواته من جهة الأب إلى غير ذلك من فروع وأحكامالرضاع.
ولابد لنا هنا من وقفات،حتى يتبين الحكم جليًا.
1- وقفة لبيان معنى “الرضاع” الذيرتب عليه الشرع التحريم.
2-وقفة لبيان مقدار الرضاعالمحرم.
3- وقفة لبيان حكم الشك في الرضاع.
معنى الرضاع:
أما معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم. فهو عند جمهورالفقهاء ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي كل ما يصل إلى جوف الصبي عنطريق حلقه أو غيره، بالامتصاص أو غيره. مثل الوجور، وهو أن يصب اللبن في حلقه، بلألحقوا به السعوط وهو أن يصب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريقالدبر بالوجور والسعوط.
وخالف فيذلك كله الإمام الليث بن سعد، معاصر الإمام مالك ونظيره. ومثله الظاهرية، وهو إحدىالروايتين عن الإمام أحمد.
فقد ذكر العلامة ابن قدامة عنهروايتين في الوجور والسعوط:
الأولى: وهى أشهر الروايتينعنه والموافقة للجمهور ـ: أن التحريم يثبت بهما. أما الوجور فلأنه ينبت اللحم وينشزالعظم، فأشبه الارتضاع، وأما السعوط، فلأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلاً للتحريمبالرضاع كالفم.
الرواية الأخرى: أنه لا يثبت التحريم،لأنهما ليسا برضاع.
قال فيالمغنى: وهو اختيار أبى بكر ومذهب داود وقول عطاء الخرساني في السعوط، لأن هذا ليسبرضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله الرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع، فأشبه ما لودخل من جرح في بدنه.
ورجح صاحب المغنى الرواية الأولىبحديث ابن مسعود عند أبى داود: “لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم“.
والحديث الذي احتج به صاحب المغنى لاحجة فيه، بل هو عند التأمل حجة عليهم، لأنه يتحدث عن الرضاع المحرم، وهو ما كان لهتأثير في تكوين الطفل بإنشاز عظمه وإنبات لحمه، فهو ينفى الرضاع القليل، غير المؤثرفي التكوين، مثل الإملاجة والإملاجتين، فمثل هذا لا ينشز عظمًا ولا ينبت لحمًا.فالحديث إنما يثبت التحريم لرضاع ينشز وينبت، فلابد من وجود الرضاع أولا وقبل كلشيء.
ثم قال صاحب المغنى: ولأنهذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم مايحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم، ولأنه سبيل الفطر للصائم، فكانسبيلاً للتحريم كالرضاع بالفم.
ونقول لصاحب المغنى رحمه الله: لو كانت العلة هي إنشاز العظموإنبات اللحم بأي شيء كان، لوجب أن نقول اليوم بأن نقل دم امرأة إلى طفل يحرمهاعليه، بل التغذية بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيرًا من اللبن. ولكن أحكام الدينلا تفرض بالظنون، فإن الظن أكذب الحديث، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئًا.
والذي أراه أن الشارع جعل أساس التحريم هو “الأمومة المرضعةكما في قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) ( النساء: 23) . وهذه الأمومة التي صرح بها القرآن لا تتكون منمجرد أخذ اللبن. بل من الامتصاص والالتصاق الذي يتجلى فيه حنان الأمومة، وتعلقالبنوة، وعن هذه الأمومة تتفرع الأخوة من الرضاع، فهي الأصل، والباقي تبع لها.
فالواجب الوقوف عند ألفاظ الشارع هنا،وألفاظه كلها تتحدث عن الإرضاع والرضاعة، ومعنى هذه الألفاظ في اللغة التي نزل بهاالقرآن وجاءت بهما السنة واضح صريح، لأنها تعنى إلقام الثدي والتقامه، وامتصاصه، لامجرد الاغتذاء باللبن بأي وسيلة.
ويعجبني موقف الإمام ابن حزم هنا، فقد وقف عند مدلول النصوص،ولم يتعد حدودها، فأصاب المحز، ووفق فيما أرى للصواب.
ويحسن بي أن أنقل هنا فقرات من كلامه لما فيها من قوة الإقناعووضوح الدليل.
قال: (وأما صفةالرضاع المحرم، فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط، فأما من سقى لبنامرأة فشربه من إناء أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام أو صب في فمه أوفي أنفه أو في أذنه، أو حقن به، فكل ذلك لا يحرم شيئًا ولو كان ذلك غذاءه دهره كله.
برهان ذلك قول الله عز وجل:(وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) (النساء: 23) . وقال رسول الله -صلىالله عليه وسلم-: “يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب” فلم يحرم الله تعالى ولا رسولهصلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى نكاحًا إلا بالإرضاع، والرضاعة والرضاع فقط،ولا يسمى إرضاعًا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال: أرضعتهترضعه إرضاعًا. ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعًا إلا أخذ المرضع أو الرضيع بفيه الثديوامتصاصه إياه. تقول: رضع يرضع رضاعًا ورضاعة، وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلايسمى شيء منه إرضاعًا ولا رضاعة ولا رضاعًا، إنما هو حلب وطعام وسقاء وشرب وأكلوبلع وحقن وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئًا.
قال أبو محمد:وقد اختلف الناس في هذافقال الليث بن سعد: لا يحرم السعوط بلبن المرأة، ولا يحرم أن يسقى الصبي لبن المرأةفي الدواء، لأنه ليس برضاع، إنما الرضاع ما مص من الثدي، هذا نص قول الليث وهذاقولنا وهو قول أبى سليمان يعنى داود إمام أهل الظاهر وأصحابنا، يعنى الظاهرية.
ورد على الذين احتجوا بحديث: “إنماالرضاعة من المجاعة” فكان مما قاله:
أن هذا الخبر حجة لنا،لأنه عليه الصلاة والسلام إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة، ولم يحرمبغيرها شيئًا، فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل، أو شرب، أو وجور، أو غيرذلك، إلا أن يكون رضاعة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) البقرة 229 (المحلى لابن حزم 10 / 9 – 11). اهـ.
وبهذا نرى أن القول الذي يطمئن إليهالقلب، هو الذي يتمشى مع ظواهر النصوص التي ناطت كل الأحكام بالإرضاع والرضاع. كمايتمشى مع الحكمة في التحريم بالرضاع، وهو وجود أمومة تشابه أمومة النسب، وعنهاتتفرع البنوة والأخوة وسائر القرابات الأخرى. ومعلوم أن الرضاع في حالة “بنوكالحليب” غير موجود، إنما هو الوجور الذي ذكره الفقهاء.علىأننا لو سلمنا برأي الجمهور في عدم اشتراط الرضاع والامتصاص لكان هنا مانع آخر منالتحريم.
وهو أننا لا نعرف منالتي رضع منها الطفل؟ وما مقدار ما رضع من لبنها؟ هل أخذ من لبنها ما يساوى خمسرضعات مشبعات؟ على ما هو القول المختار الذي دل عليه الأثر، ورجحه النظر، وبه ينبتاللحم، وينشز العظم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وهل للبن المشوب المختلط حكم اللبن المحض الخالص؟ ففي مذهبالحنفية من قول أبى يوسف أن لبن المرأة إذا اختلطبلبن أخرى، فالحكم للغالب منهما،لأن منفعة المغلوب لا تظهر في مقابلة الغالب.
والمعروف أنالشك في الرضاع لا يترتب عليه التحريم.
قال العلامة ابن قدامة في “المغنى“:
(وإذا أوقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرم، هلكملا أو لا؟لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عناليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدده) (المغنى مع الشرح الكبير 9 / 194)وفى “الاختيار” من كتب الحنفية:
(امرأة أدخلت حلمة ثديهافي فم رضيع، ولا يدرى: أدخل اللبن في حلقه أم لا؟لا يحرمالنكاح.
وكذا صبية أرضعها بعضأهالي القرية، ولا يدرى من هو، فتزوجها رجل من أهل تلك القرية، يجوز، لأن إباحةالنكاح أصل، فلا يزول بالشك.
قال: ويجب على النساء ألايرضعن كل صبي من غير ضرورة، فإن فعلن فليحفظنه، أو يكتبنه احتياطًا) (الاختيار لابنمودود الحنفي 3 / 120، وانظر كذلك: شرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية 3 / 2، 3) .اهــ.
ولا يخفى أن ما حدث في قضيتنا ليس إرضاعًا فيالحقيقة، ولو سلمنا بأنه إرضاع فهو لضرورة قائمة وحفظه وكتابته غير ممكن، لأنه لغيرمعين، وهو مختلط بغيره.
والاتجاه المرجح عندي في أمورالرضاع هو التضييق في التحريم كالتضييق في إيقاع الطلاق، وللتوسيع في كليهما أنصار.
الخلاصة:
أننا لا نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع من “بنوك الحليب،مادام يحقق مصلحة شرعية معتبرة، ويدفع حاجة يجب دفعها. آخذين بقول من ذكرنا منالفقهاء، مؤيدًا بما ذكرنا من أدلة وترجيحات.
وقد يقول بعض الناس: ولماذا لا نأخذ بالأحوط، ونخرج عن الخلاف،والآخذ بالأحوط هو الأورع والأبعد عن الشبهات.
وأقول:
عندما يعمل المرء في خاصة نفسه، فلا بأس أن يأخذ بالأحوطوالأورع، بل قد يرتقى فيدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالعموم، وبمصلحة اجتماعية معتبرة،فالأولى بأهل الفتوى أن ييسروا ولا يعسروا، دون تجاوز للنصوص المحكمة، أو القواعدالثابتة.
ولهذا جعل الفقهاء من موجبات التخفيف: عمومالبلوى بالشيء مراعاة لحال الناس ورفقًا بهم، هذا بالإضافة إلى أن عصرنا الحاضرخاصة أحوج ما يكون إلى التيسير والرفق بأهله.
على أن مماينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الاتجاه في كل أمر إلى الأخذ بالأحوط دون الأيسر أوالأرفق أو الأعدل، قد ينتهي بنا إلى جعل أحكام الدين مجموعة “أحوطيات” تجافي روحاليسر والسماحة التي قام عليها هذا الدين. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “بعثت بحنيفية سمحة”، “إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين“.
والمنهج الذي نختاره في هذه الأمور هوالتوسط والاعتدال بين المتزمتين والمتهاونين (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا). (البقرة: 143).
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل هذا رأي فضيلة لشيخ وهناك رأي آخر لمجمع الفقه يمكنك مطالعته من خلال هذا الرابط.
بنوك الحليب وحرمة الرضاع
والله أعلم

العلامة الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي