يقع متن كتاب “البينية في الأكاديميا العربية والإسلامية” للمؤلف علي صالح المولى وإصدار دار مؤمنون بلا حدود- بيروت- 2023 في 243 صفحة مقسمة على خمسة فصول، و11 مبحثا إضافة للمقدمة والخاتمة.

الفصل الأول : تقاطع الاختصاصات.. مقدمات ابستيمولوجية وإشكالية

يحدد مراحل المعرفة (الموسوعية والتخصصية ثم البينية)، وفي المبحث الأول إذ يتتبع تطور مصطلحات مثلا “التخصص، تقاطع التخصصات، عابر التخصصات… إلخ”، مشيرا إلى أن هذا التطور لم يكن بفعل قصدية لذلك، لكن لقاءات باحثين من ميادين مختلفة نبه لتداخل ميادين المعرفة، وكانت العلوم الطبيعية أكثر دفعا بهذا الاتجاه.

وأشار إلى مسارين في تاريخ البينية:

  • الأول يربط وحدة العلوم بوحدة الكون والإنسان (الأبعاد الأخلاقية)،
  • والثاني يربط تدفق المعرفة في جميع المجالات بكشف تداخلها،

ولعبت النزعة البراغماتية دورها في الدفع باتجاه توظيف “البينية” في تحقيق نتائج أفضل. ثم يستعرض التباس مفهوم البينية عند العرب بخاصة دلالتها الموسوعية وهو ما يتضح في مفهوم “الأدب”، ثم يربط بين نزعة البينية وبين ضرورات العلم الشرعي للاطلاع على معارف عديدة لضمان إصدار أحكام دقيقة (بينية أولية أو مساندة بين علوم المقاصد وعلوم الآلة)، ثم يبين أن تبحر العلماء المسلمين في ميادين مختلفة تنبه إلى نقطة التلاقي بين العلوم، لكن المرحلة التي عرفت انكفاء العلم الديني عن غيره شكل نقلة سلبية في تطور البينية.

ثم يستعرض ما أسماه (استنبات العلوم الوافدة، وأزمة تحيين العلوم الأصلية) مشيرا إلى أهمية تكامل العلوم بين الحضارات مثل تكاملها داخل الحضارة الواحدة، ويستعرض معوقات تحقيق ذلك في المجتمع العربي الإسلامي ومقدما أمثلة على كل معوق: الثقافية (التجربة العثمانية)، والمنهجية (يقدم مثال تونسي)، والسياسية (جامعة الزيتونة)، والابستيمية، (جامعة الأزهر)، والنفسية (كتاب قطب الريسوني).

الفصل الثاني : العلوم الدينية والعلوم الاجتماعية والإنسانية .. تأملات في البينية المهدورة

يتتبع الكاتب بواكير مشروع بيني يجمع العلوم الدينية والاجتماعية والإنسانية من خلال نماذج لمحاولات بينية ثلاث هي:

  1. المجامع الفقهية: هي مؤسسات رسمية تجمع العلماء المسلمين وتسعى لتحويل الاجتهاد من مستواه الفردي إلى مستواه الجماعي وهو ما يجعل النظرة ذات طابع بيني وتكامل معرفي نظرا لتعدد الاختصاصات، لكنها واجهت مشكلات في التحديد الدقيق لوظيفتها حيث لامست البينية برفق شديدا وفي إطار الحلال والحرام، إلى جانب مشكلات بنيوية فيها كما يتضح من استعراض عدد منها.
  2. المعهد العالمي للفكر الإسلامي كمؤسسة مستقلة لأسلمة العلوم، يستعرض البحث بعضا من الإنتاج الفكري للمعهد ليصل إلى أن المعهد لم يفارق منهجيات التأليف التقليدي في علوم الشرع وبقي في إطار التشكيك في أسس وأهداف الحداثة، ناهيك عن تدخل السياسة في بعض المؤسسات المماثلة للمعهد العالي.
  3. المقاصد (الاجتهاد لمقاصدي): وتعني اعتبار مصالح الإنسان من منظور فقهي مجالا بحثيا للبينية، وهو أمر بحاجة إلى استعداد نفسي وعلمي لدى علماء الدين بأن ما لديهم لا يكفي لفهم الحياة المعاصرة، وهو ما يتضح في رصيد خريجي كليات الشريعة من المعارف غير الشرعية، أو في أطروحات الدراسات العليا في الكليات الشرعية.

الفصل الثالث : علم الكلام والهرمينوطيقا .. أي رهان ؟

بعد استعراض التوجس من رجال الدين من توظيف الهرمينوطيقا في فهم النصوص الدينية لأنها قد تنزع عن النص الديني قدسيته، يناقش مبررات دعوته للإقبال على الهرمينوطيقا لمواجهة انحباس النص في زمان ما وعقل ما ومتلق ما، وهو ما يؤسس لعلم كلام “جديد”. أي الدفاع عن الدين ببراهين وأدلة عقلية، لينتقل إلى مناقشة ما اصطلح على تسميته بعلم الكلام الجديد والذي وظف أصحابه الهرمينوطيقا لإعادة اكتشاف النصوص من خلال إعلاء دور متلقيها، وسياقها، وراهنية تأويلها، واستبعاد المنهج التفسيري وإحلال المنهج التأويلي، وهو ما يعني استحضار الهرمينوطيقا إلى ميدان النص المقدس والانتقال من قانون النزول (الله يأمر والفرد ينفذ- مركزية الله) إلى قانون الصعود (الإنسان يحاور السماء- مركزية الإنسان)…

الفصل الرابع : النسوية الإسلامية ومغامرة التأويل

وغرض الفصل هو محاكمة القراءة الذكورية للقرآن وأثرها في تحديد مكانة المرأة في المجتمع، وبعد مناقشة مفهوم وتطور النسوية كحقل معرفي ومنهجي (لا كحركة اجتماعية) واكتشاف دور تسلل الذكورية في ثنايا النصوص وبالتالي في بنية القيم، يتتبع الكاتب حركية النسوية في الجامعات والدراسات وصولا إلى ما أطلق عليه “اللاهوت النسوي”.

ثم ينتقل إلى تتبع ظهور منطلقات النسوية الإسلامية رغم محدوديتها مع الإشارة لبعض المنتميات لهذا التيار (آمنة ودود وكتابها المرأة والقرآن وفيه تقوم بتوظيف المنهج الشمولي في فهم القرآن ورفضها التفسير الذكوري الطاغي والقديم للقرآن وتمسكها بقاعدة نحن من ينشئ المعنى في إطار السياق القائم وهو زمن المساواة بين الرجل والمرأة).

الفصل الخامس : نحو إعادة بناء المجال الديني .. من البينية إلى الصهر

ويدور هذا الفصل حول توظيف المنتج الأكاديمي في مجال البينية في تكريس العقل الحداثي بين المسلمين. ويقسم العقل الإسلامي المعاصر إلى ثلاثة أنماط متصارعة:

  • الفقهي التقليدي
  • والاستلابي
  • والتركيبي.

ويطرح فكرة الانتقال من المجتهد المفتي إلى المجتهد المفكر، ويقدم مثال لتوضيح دعوته للبينية وهو موضوع” قطع يد السارق “موضحا دلالات احتكار الموضوع من طرف ثم معالجة ميادين معرفية متعددة لكل منها ببعد يخصها، وصول لما يسميه” المجموع المعرفي أو الاختصاص العابر للاختصاصات أو العقل الاعلى.

ينتهي الباحث إلى خاتمة تلخص أهم ما ورد في الدراسة وتأكيد على أهمية البينية.

منهجية الكتاب

قامت منهجية الباحث على خطوات متتابعة: التعريف بالبينية، عرض تجاربها المعاصرة في المجتمعات العربية والإسلامية، التأكيد على محدوديتها في العقل العربي والإسلامي، ثم يعرض تطبيقات للتدليل على قصور هذه التطبيقات عن مجاراة البينية في المجتمعات المتطورة محددا أسباب ذلك بخاصة حساسية التطرق للنص الديني وتأويله، والقلق من حراس هذا النص التاريخيين.

وإذا استثنينا دراسة آمنة ودود في مجال النسوية، وعرضه لأبرز توظيفاتها للنسوية في مجال تأويل النص من منظور المرأة، فإن الباحث لم يستعرض القدر الكافي من نماذج تطبيقية على البينية سواء ما كان منها غربي أو إسلامي، واكتفى بإشارات عابرة في تناوله لموضوع المجامع الفقهية ولمعهد واحد وللمقاصدية، وفي تقديري أن موضوع توظيف مناهج وتقنيات البحث بين الميادين يبدو وصفها سهلا، لكن تطبيقها ليس باليسر الذي بدا لي من قراءة الدراسة، ومال البحث إلى اعتبار الهرمينوطيقا كأنها مفتاح هذا الميدان، ورغم الإقرار بأهمية هذه المنهجية إلا أن الاطلاع على مسميات العلوم الحديثة يدل على أن الأمر أعقد مما يبدو، ويكفي النظر في التخصصات التالية لندرك معنى البينية بعمق:

  • الهندسة الطبية الحيوية (هندسة، وطب، وبيولوجي)
  • أو علم اجتماع الإحصاء الطبي
  • أو علم الاجتماع السياسي
  • أو الجغرافيا السياسية.

ولعل الدراسات المستقبلية تقدم مثالا على ميدان معرفي يتم فيه توظيف أكثر من عشرين تقنية تنتمي للإحصاء والمنطق والرياضيات والدراسات الحدسية والنظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية… الخ، ويكفي أن أشير إلى دراسة اطلعت عليها وهي دراسة العالم الروسي تشيجيفسكي الخاص بما اسماه (cliometric) والخاصة بمنهجية ربط السلوك البشري بشدة النشاط الشمسي في 1600 صفحة، استخدم فيها عددا كبيرا من تقنيات البحث العلمي المنتمية لميادين عديدة ومتباعدة.

قد نعذر الباحث لأن العالمين العربي والإسلامي ما زالا في بداية الدرب، وغرض دراسته هو الحث على اللحاق بالعالم في هذا الجانب، ونعتقد أن هذا أمر يستحق الثناء.

لقد طرح الباحث مشكلات البينية، وحاول تقديم بعض الاقتراحات للتغلب على ذلك، مركزا على ضرورة هدم الأسوار بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل خاص، وضرورة عدم التهيب في طرح ذلك بحجة مخاوف الحرس الفقهي القديم من أن ذلك يؤدي إلى “تدنيس النص المقدس”، وللخلاص من هذا المأزق، دعا الباحث إلى الانتقال من حقل “المجتهد- المفتي” إلى “حقل” المجتهد– المفكر “الذي من الضروري أن يتسلح بالمرجعيات المتعددة التي تنصهر على يديه في عقل كلي جامع يفتح السياجات الدوغمائية المغلقة، وينفتح على القيم الحديثة: الحرية، العدالة، الديمقراطية، الإنسية، الخير، الدولة، الحقوق.

ويراهن الباحث في دراسته على ضرورة لا تقاطع التخصصات فقط بل الانتقال إلى مرحلة بناء النسق من خلال مناهج معارف وتقنيات البحث المنصهرة في بعضها البعض.

مناقشة الكتاب

يمكن وصف هذه الدراسة بأنها تقع ضمن” مناهج البحث العلمي “، والبعد الذي تركز عليه هذه الدراسة هو” الدراسات البينية “(interdisciplinary)، أي كيف يمكن لمناهج المعرفة ومنظوماتها الفكرية في ميادين مختلفة أن تساهم معا في فهم ظاهرة معينة، وتتجه هذه الدراسات البينية إلى بعدين أولهما” أداتي “(Instrumental) والثاني” نقدي “(Critical)، والاول معني” بكيفية تكاتف المناهج لحل المشكلة في الميدان المعرفي المطروق، بينما الثاني ينشغل بمنظومة الوعي والقيم والدلالات التي سيفرزها التكاتف المذكور.

لكن الباحث يرى أن معوقات البينية في العالمين العربي والإسلامي المعاصر هو ندرة الاستعانة بهذه البينية من ناحية واحتكارها في بعض الميادين بيد من هو معزول عن هذه البينية كرجال الإفتاء عندما يكون الدين هو موضوع البحث، بل إن الإحساس بأن هذه البينية هي بينية “مفروضة” من مراكز الهيمنة المعاصرة يزيد من تعقيد توظيف هذه المنهجية، وعليه يحاول الكاتب تقديم دراسة تساهم في تأصيل هذا المنحى المنهجي والمعرفي في الأدبيات العربية المعاصرة.

ونشارك الكاتب في تأكيده على محدودية تطبيق هذه المنهجية في الدراسات العربية، بل وعند التطبيق تبقى الجوانب الشكلية هي الطاغية في التطبيق، إذ ما زالت أغلب الدراسات العربية تقوم على قدر غير هين من الانغلاق في تخصص محدد وعدم الاستفادة من التخصصات الاخرى، ويقدم الكتاب قدرا كافيا من الأدلة على هذه الإشكالية، ثم يحاول الإشارة لبعض المحاولات للخروج عن هذا السائد في الدراسات العربية مثل دراسة آمنة ودود في موضوع النسوية “أو محاولة تقديم” علم كلام إسلامي جديد متكئا في بعضه على بعض عصي الهرمينوطيقا.

لا شك أن الدراسة مهمة من زاوية تكريس الضغوط على القاعدين عند اطلال المناهج التقليدية، وفيها محاولة لتعزيز محاولات الانتقال من التحليل التجزيئي (Reductionism) إلى التحليل الكلاني أو الشمولي (Holism)، أي من استقلالية الميدان العلمي الواحد إلى عبور الميادين الجغرافية بعضها بعضا، إذ يكون الكل أكبر من مجموع أجزائه كما يقول المنهج الكلاني.

لا شك أن التأكيد على هذه الفكرة سيساهم في توظيف مناهج العلوم غير الدينية الاجتماعية والإنسانية (بل والطبيعية) في إعادة التعامل مع الظاهرة الدينية في بعدها الميتافيزيقي والدنيوي من منطلق يجاري الثورات المتلاحقة في علوم اللغة وعلم النفس والاجتماع و… االخ، ناهيك عن العلم التقني الذي يفتح المجال لإجابات جديدة وأسئلة جديدة، وهو ما يشكل قاطرة التطور. ومع أن موضوع البينية يطال كل فروع المعرفة النظرية والتطبيقية، الا أن الباحث أحسن صنعا في دراسته هذه في حصر البينية بين الظاهرة الدينية وبين العلوم الاجتماعية والإنسانية (وإن كان أحيانا يشير على عجل لبعض علوم الطب أو البيئة او غيرها)، لكني أعتقد أن للدراسة هدفين هما :

  1. تكريس هذه المنهجية لدى الباحثين العرب، والتركيز على الأسس التي يجب اتباعها في تطبيقها.
  2. تحرير فهم النص الديني من مرجعية الفتوى الفقهية والدعوة إلى إدخال البينية في كليات الشريعة الإسلامية لتتكاتف مناهج التفسير التقليدية مع مناهج التأويل العصرية، وهي الطريق الأنسب لمجاراة حركية المجتمعات المتطورة.

ومن مزايا هذه الدراسة أن الباحث استعان بكتابات غير عربية (إلى جانب العربية)، وإلى معاهد أو تجارب مؤسسية إسلامية غير عربية في مجال محاولة تحقيق البينية، ووصل إلى تشابه إلى حد ما في أن كلا الجانبين بقيا في حدود التلامس البسيط بين مناهج الفهم الديني ومناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية ولم يصلا إلى مرحلة التخصصات العابرة.

ولعل الادعاء بأن البحث جديد ينطوي على قدر من المبالغة، ويكفي النظر في قائمة مراجع الباحث المثبتة في نهاية الكتاب لنجد أن هناك حوالي 15 مرجعا يتناول الموضوع (ناهيك عن دراسات لم تتم الإشارة لها)، لكن ذلك لا يعني عدم أهمية الدراسة بخاصة أن الاتجاه في أغلب جامعات العالم ومراكز الدراسات هو نحو تعدد الباحثين المنتمين لتخصصات مختلفة لدراسة ظاهرة واحدة، بل إن أغلب الكتب الجديدة تحمل أسماء أكثر من مؤلف، لأن ما يبدو أنه ظاهر بسيطة تبين أنها ظواهر في غاية التعقيد بخاصة مع الثورة الرقمية وتزايد الترابط بين المجتمعات بقدر متسارع ومتشابك.


كتاب “البينية في الأكاديميا العربية والإسلامية”

المؤلف: علي الصالح مولى

دار النشر: دار مؤمنون بلا حدود- بيروت- 2023