أقصد بكلمة “الزوج” الناشز أحد الزوجين؛ لأنه قد ينشز الرجل وقد تنشز المرأة. واللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي ينطبق فيها هذا اللفظ على الرجل والمرأة، فيما يُعرف؛ وبحسب آية القوامة فإن للزوج حق تأديب زوجته إذا كانت ناشزا، والتفسير المعتاد لهذا النشوز هو إذنها في بيت زوجها، لمن تكره، أو امتناعها عن فراشه أو شيء من هذا القبيل.

ويبدأ التأديب بالوعظ ثم الهجر في المضاجع ثم الضرب حسب الآية الكريمة في سورة النساء: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً).

أحاديث ضد الضرب

وتدل الأحاديث الصحيحة على الكراهية الشديدة لهذا الفعل مثل: (وأطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تلبسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن)[1]، ومثل: (تطعمها إن طعمت، وتكسوها إن اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت).

وعندما قال رسول الله: (لا تضربوا إيماء الله) جاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: ذئرن النساء -أي اجترأن على أزواجهن- فرخّص في ضربهن، فأطاف بآل محمد نساء كثيرات تشكو أزواجهن، فقال رسول الله: (لقد أطاف بآل بيت محمد نساء كثير يشتكين أزواجهن ليس أولئك بخياركم)[2].

وأما حديث: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم)[3]، فيتفق مع ما أكده علم النفس من أن الانفعال العاطفي لدى المرأة هو الجزء الأهم في تقبلها لزوجها ورغبتها فيه، لذلك فإن من لا ينطق عن الهوى يشير إلى أمر مهم هنا وهو أن الحوار الهادئ للعقول والتقارب المريح للنفوس بين الزوجين يجب أن يبدأ خارج غرفة النوم ليكون تمهيدا لفعالية سليمة داخلها.

وبما أن بعض الناس -من المسلمين وغيرهم- ينتقد حق ضرب الرجل لزوجته الناشز، حتى لو جاء مرتّبا في الدرجة الثالثة أي بعد الوعظ ثم الهجر في المضجع، فإن الدكتور البوطي في كتابه “المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني” يرد عليهم قائلا: (إن الذي يصرّ على أن يطيل لسانه بالنقد على هذه المراحل المتدرجة في معالجة النشوز أو الشذوذ الأخلاقي الذي قد تتورط فيه امرأة ما، كما يمكن أن يتورط فيه رجل ما، يجب عليه أن يتصور الوضعية التي يعالجها القرآن بأكملها، قبل أن يجعل منها هدفا لنقده الكيفي الأهوج.

والوضعية التي يرسم القرآن هذه المراحل لعلاجها:

أولها- زوجة تمردت على منهج التعاون الإنساني الذي لا بد منه مع زوجها.

وثانيها- زوجة أضافت إلى عسف تمردها أن ركلت منهج الحوار والتناصح.

وثالثها- زوجة ظلت متشبثة بتمردها على مبدأ التعاون والتراضي، حتى بعد أن لجأ الزوج إلى الزخم العاطفي واستعان بالتيار الغريزي، فواصلها زوجا ودودا في النهار وانفصل عن مضجعها في الليل).

شخصيا لم أقرأ رأيا لعالم في الدين محترم ينفي معنى الضرب المعروف عن الآية المذكورة سوى رأي الدكتور “عبد الحميد أبو سليمان”؛ إذ فسره بالترك والمفارقة والاعتزال، واستشهد بعمل النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه عندما أردن معيشة أفضل فاعتزلهن شهرا كاملا. ولكن لا يغيب عن البال أن هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه.

والهدي يقصد به السنة الخُلُقية، وهي فعل الكمال البشري والاقتداء به مطلوب ولكن هذا لا يحسنه كل أحد، والدليل على ذلك هذه الأحاديث الواردة أعلاه، خاصة حديث “عمر بن الخطاب” الذي يشير إلى أن النبي منع الضرب ثم أجازه ثم حذّر منه دون أن يحرّمه؛ إذن فمقصود الآية بالضرب هو المعنى اللغوي المعروف، ومع احترامي الشديد للدكتور أبو سليمان كمفكر إسلامي وأكاديمي جليل، فإن الحديث الصحيح يعلو كل رأي، وهذا واضح من قول الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).

الزوجة الناشز

ولكي يتضح اللبس أكثر لا مانع من بعض التساؤلات:

السؤال الأول- من هي هذه المرأة الناشز وما صفاتها؟

والجواب- أنها نوع نادر من النساء سليطة اللسان معاندة لزوجها غير مكرمة لنفسها لا تحفظ ما بينهما من أسرار وعشرة. وهي غالبا ما تكون امرأة مضطربة نفسيا لا تخضع لزوجها بالوعظ والنصح ولا حتى بالهجر والبعد؛ لأن المرأة السوية تكفيها الكلمة بل الإشارة، واللبيب من الإشارة يفهم.

بل إنها تفهم زوجها حتى بدون أن يتكلم لأنها منه كما قال الله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، ويكفي أن نتأمل روعة هذه الكلمات القرآنية: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) لنعلم أنها ليست بالمرأة الكريمة تلك التي تضطر زوجها إلى تأديبها أيا كان نوعه، كما أنه ليس بالرجل السوي ذلك الذي تمتد يده على زوجته لأدنى سبب، خاصة إذا ما علمنا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يضرب بيده شيئا قط إلا في سبيل الله.

من خبرتي في الحياة -وهي بفضل الله ليست متواضعة- فإن هناك صنفا من النساء تأخذ الضرب أو التهديد على أنه من صفات الرجولة في زوجها، وقد يقترن إظهار غضبه منها بشيء من الرضا النفسي الخفي، وهي حالات نادرة لكنها موجودة.

والضرب المباح في الشريعة إنما يباح لهذا النوع من النساء؛ بل إن من لديه بعض الاطلاع على علم النفس يعلم أن من النساء من هي مصابة بعقدة المازوشية -أو المازوخية- وهذه المرأة غالبا ما تكون قد تعرضت في طفولتها إلى خبرات خاطئة ترسبت في لاشعورها فاقترنت في عقلها الباطن صورة الرجل بشيء من السطوة والعنف، بحيث لا تمكِّن زوجها من نفسها إلا إذا ضربها أو أهانها.

وقد يكون من المفيد مساعدتها بجلسات التحليل النفسي لإخراج هذه التجارب اللاشعورية ووضعها في مستوى الشعور سواء كان ذلك بالمعالجة السلوكية أو العلاج المعرفي، لذلك فمن المستحسن أن يقوم الزوج بعرض زوجته على طبيب نفسي إذا كان لا يعرف مبررا لنشوزها.

الشرط لتحقق هذه الصورة -غير ما ذكرناه عن المرأة – أن يكون الرجل قائما بما تفرضه عليه القوامة من مسئولية وتكليف وإنفاق، لا أن تكون زوجته ندّا له بالعمل والإنفاق ثم يتأبى عليها ويترفع، ولا أن يكون هو المريض النفسي الذي لا يتقن إلا العنف لغة للحوار، ولا أن يكون هو سبب مرضها النفسي.

ومما أذكره كمثال حالة زوجة أتى بها زوجها إلى عيادتي لأنها بحاجة إلى علاج نفسي حيث إنها تزعجه ولا تنصاع له، فطلبت من زوجته الكلام فأبت إلا أن يخرج، فطلبت منه الخروج فخرج، ولما تكلمتْ أخبرتني أنه يريد الزواج عليها وأنه يكلم امرأة أخرى ويغازلها على الهاتف.. وأنه.. وأنه.. فاستدعيته ولم ينكر الرجل ذلك قائلا: إن الشرع يسمح له بالتعدد.

فقلت له: نعم هو حقك الشرعي لكنها ليست مريضة -فالغيرة ماركة نسائية بامتياز- وأنتما الاثنان بحاجة إلى مشورة اجتماعية، وأما العلاج النفسي فليس مكانه عندي.

الزوج الناشز

بعيدا عن حق الرجل في التعدد، نطرح السؤال الثاني: ما هو علاج الرجل الناشز؟

قد يخرج الرجل في معاملته لزوجته عن ضوابط الشريعة الإسلامية وآدابها، غير أن الزوجة لا تملك في هذه الحالة إلا الوسيلة الأولى وهي النصح والموعظة وليس لها أن تلجأ إلى الوسيلة الثانية أو الثالثة.

قد يبدو في هذا عدم مساواة ظاهريا، أما الحقيقة فهي أن المرأة لا يمكن أن تضرب الرجل ثم تشعر باحترامها له بعد تسوية الأمور بينهما، هذا من ناحية المرأة أما من ناحية الرجل فإن الرجل الذي جُبل بفطرته على عنف الذكورة -والسادية كاضطراب نفسي بين الرجال موجودة أكثر من المازوشية- لا يحتمل أن تضربه من هي أضعف منه جسديا، وقد يطيش صوابه لهذه الفعلة فينقض على زوجته ضربا وركلا ثم قد لا يفلتها إلا وهي محطمة أو مشوهة.

لذلك فإن الزوج الناشز أو المسيء يجب أن يلقى عقابه لكن دون أن تعرّض الزوجة نفسها إلى خطر محدق، ولا يكون ذلك إلا بشكواه إلى القاضي كي ينتصر لها وينزل بزوجها الناشز العقوبة المناسبة، وقد لا تقف العقوبة عند الضرب بل قد تتعداها إلى السجن وغيره؛ وهذا هو منهج الشريعة الإسلامية في إنزال العقوبات على مستحقيها، فهي تكلّف بذلك السلطة القضائية وما يستتبعها من السلطة التنفيذية -كما يقول البوطي- كلما غلب على الظن أن الطرف المظلوم لا يستطيع أن يستقل بالانتصار لنفسه أو يستطيع في الظاهر ولكنها استطاعة من شأنها أن تجر وراءها ذيولا من الفتن قد يكون هذا المظلوم ذاته هو أول من يحترق بنارها.

إذن فحق تأديب الزوج لزوجته يقابله حق الزوجة في تأديب زوجها، بأن تطلب من القاضي ذلك إذا لم يعاملها زوجها بالمعروف وحسب مذهب مالك رحمه الله فإن على القاضي أن يعظه، فإذا لم ينفع الوعظ حكم القاضي للزوجة بالنفقة، ولا يأمر له بالطاعة وقتا مناسبا، وذلك لتأديبه، وهو مقابل الهجر في المضاجع. فإذا لم يُجدِ ذلك في الزوج حكم عليه بالضرب بالعصا.

ويرى بعض الفقهاء أن يؤخذ برأي مالك في قوانين الأحوال الشخصية في الدول الإسلامية منعاً لشطط الرجال في إساءة معاملة الزوجات.

والسؤال الأخير: هل هذا ممكن لدينا أم علينا أن ننتظر الألفية الرابعة؟

د. ليلى أحمد الأحدب