كيف نربي أولادنا؟ حتى يشبوا واثقين من أنفسهم متصفين بالإقدام والشجاعة، وروح المبادرة والإيجابية؟ كم هو سؤال هام وضروري. وهل يمكن تربية طفل مقدام؟

لهذا الأمر قواعده وفنونه التي تربى عليها الرعيل الأول من الصحابة الكرام (رضي الله عنهم جميعًا)، فعرف عن أولادهم الإقدام والشجاعة والثقة بالنفس، فكَمْ كان عبد الله بن الزبير (رضي الله عنه) واثقًا من نفسه حينما مرّ سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فلم يَجْرِ من أمامه كما فعل باقي الصبيان.

كَمْ كان سمرة بن جندب واثقًا من نفسه عندما ألحَّ على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أن يجيز مشاركته بجيش المسلمين، فقد قال: “أجاز (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم) رافعًا وردَّني مع أني أصرعه. فأمرهما (صلى الله عليه وسلم) أن يتصارعا فغلب سمرة رافعًا، فضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأجازهما معًا.

و ما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو المطلوب لتربية النشء على الشجاعة والإقدام والثقة بالنفس، و هو:

– الاعتراف بالقدرات الذاتية للطفل، وإتاحة الفرصة للطفل للتعبير عن هذه القدرات والمهارات، ماذا كان سيحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض إجازة سمرة بن جندب متحججًا بصغر سنه، كان سمرة سيعتبر ذلك استهزاء واستخفافًا بقدراته الحقيقية، وستقوّض عنده صفة المبادرة والإقدام والثقة بالنفس.

وللأسف هذا ما يفعله اليوم كثير من الآباء والأمهات:

“إنك صغير”، “إنك لا تصلح لشيء”، “كم أنت غبي”، ألا نسمع هذه التعبيرات ليل نهار، ولا يدري الأهل أنهم بذلك يغرقون أبناءهم في بحر من الإحباط، ويزيد الطين بلَّة إذا أفرط الأهل في توقعاتهم من صغارهم، أو اهتموا بصورة مفرطة بنظرة الآخرين إلى أطفالهم ورغبتهم في أن يظهر الأولاد دومًا بمظهر حسن، فينشأ الفتى/ الفتاة مفرطًا في حساسيته من تعليقات ونقد الآخرين.

ومن ناحية أخرى في إطار تربية طفل مقدام، قد يفرط الأهل في حمايتهم وقلقهم فتقوض في أعماق الطفل ثقته بنفسه، فكلما صنعنا بأنفسنا ما يمكن للطفل أن يقوم به بنفسه (ربطنا له رباط الحذاء) أرسلنا له رسالة خاطئة مفادها: “نحن أكبر منك، وأكثر اقتدارًا، وأغنى خبرة، وأكثر أهمية، أما أنت فصغير غير قادر لا نثق بك”.

أما بالنسبة للخطوات العملية اليومية التي لا بد من مراعاتها (بصفة خاصة مع أطفال في سن 4 سنوات ) ، فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:

(1) إشعار الطفل دومًا بأنه مرغوب فيه، بل إنه من أسباب السعادة لك ولوالده، ولا يحتاج ذلك لكثير من الكلام، فالابتسامة والاحتضان دون إفراط واللعب مع الابن/ الابنة باستمتاع دون ضجر أو أوامر ضمان لوصول هذه الرسالة: “نحن نحبك وأنت تعني بالنسبة لنا الكثير.

(2) الاعتراف باستقلال الولد الذاتي، وذلك بعدم فرط رقابة ساحقة مفرطة على كل حركة وكلمة و سكنة؛ فإن ذلك يعمل على إهداء الطفل في هذه السن أثمن هدية يمكن تقديمها له ألا وهي: “حرية الاكتشاف لما حوله، ومجابهة بعض الأمور بمساعدة ورعاية وتشجيع من الأهل”. فلا مانع من أن يسمح لطفل الرابعة بلبس قميصه وحده، وتركه ليتعلم غسيل الأسنان ليقوم بها مع نهاية سن الرابعة وحده، لا مانع من إعطائه الحرية للتجول بمفرده في الحديقة (تحت مراقبة عن بُعْد) ،و كذلك لا مانع من إعطائه مبلغًا بسيطًا من المال مثلاً ليعطيها للبائع ويبدأ تعلم الشراء.

(3) تشجيع محاولات الطفل لتنمية مهاراته الذاتية، بل وتهيئة البيئة المنزلية لتقبل الأخطاء المتكررة، هناك قول لعالِم نفسي فرنسي أفادني شخصيًّا في تربيتي لأبنائي: “إن تنظيف الطفل (بخاصة عند محاولاته للاستقلال في أثناء الأكل) أسهل بكثير من أن نعيد إليه الإقدام الذي فقده”، فلنترك للصغير فرصة ليثبت لنفسه ولنا أنه كائن مستقل صاحب قدرات ذاتية (صحيح أنها ما زالت في طور النمو، ولكنها موجودة؛ ولذلك لا بد أن تحترم).

هذا مثال على السلوك الصحيح في مواجهة أخطاء الصغار ذوي السنوات الأربع:

يطلب من “عمر” إحضار كيس التفاح من الثلاجة، فيفتحها ويخرج الكيس، ولكنه يوقع صحن الطعام المجاور للكيس على الأرض، يبكي عمر، فبدلاً من أن تثبِّط الأم (الحانقة داخليًّا بلا شك لاتساخ السجاد، ولكن المتذكّرة لمقولة العالم الفرنسي) عزيمة الطفل عمر بإبرازها مدى خطئه وفداحة عمله تقول: “لا بأس.. يقينًا لم تكن تقصد.. يحدث ذلك في أحسن العائلات”.

فلنحاول أن نعرف سويًّا أين كان الخطأ، “لعله خطئي لأنني لم أحذرك من صحن الطعام” ، و “لكن كان عليك الحذر قليلاً” ،  لا بأس : “من منا أسرع في إحضار أدوات التنظيف؟”.

(4) فهم قدرات الطفل في هذه المرحلة السنية وعدم الإفراط في التوقعات، وهذا التحذير هام بصفة خاصة مع دخول الصغير إلى الروضة، فلا نتوقع منه الخط الجميل والرسم الرائع أو حتى الأدب الجم في السنة الأولى؛ لأن كل هذه الأمور تأتي بالتدريب والتمرين، ويحتاج إلى وقت، فلا حاجة للمبالغة في التذكير بهذه الأمور والتركيز عليها، ولكن ليكن دور الأهل هو تعويد الطفل في هذه السن على “العادات المدرسية”، كالجلوس الصحيح، وترتيب الحقيبة، والنظام في ترتيب حاجيات المدرسة… إلخ.

(5) إغفال تعليقات الناس السلبية وتعليم الطفل كيف يجابِه هذه التعليقات بأدب وبدون وجل، فإذا كان هناك نقد معين لعيب خلقي فيه كالقصر أو الطول، أو سَمَار البشرة مثلاً، فليتعلم الطفل كيف لا يأبه لمثل هذه التعليقات وكيف يرد عليها، بل ويشجع الطفل المتسم بعيب خلقي معين على فرض نجاحاته أمام الجميع، ويقرأ أمامه بصوت مسموع وبنبرة كلها إعجاب والافتخار أخبار المعاقين الحائزين على المراكز الأولى في المسابقات العالمية.

(6) فمهما كثرت مشاغلنا، يبقى الحديث الحر والحوار الهادئ واللعب من الأمور التي تعظّم لدى الصغير حبنا له واهتمامنا به، قد يكون الوقت محدودًا جدًّا، ولكن المهم دومًا أن يوجد هذا الوقت، وأن يتكرر بانتظام، وأن نعوّض في هذه الحال، بكثافة حضورنا ونوعيته نقصه الكمي، وصدق الكاتب اللبناني “كوستي بندلي” حينما قال: “هكذا يشعر ولدنا أنه مهم بنظرنا بحد ذاته، وليس فقط كموضوع عناية جسدية أو تدريس أو تهذيب.. كإنسان مثلنا وليس فقط كولد أو تلميذ، وأنه يستطيع أن تكون علاقته بنا فاعلاً وليس مفعولاً به أو منفعلاً، مسموعًا وليس فقط مستمعًا، فتنمو من جرّاء ذلك ثقته بنفسه، أما نحن فسنجد متعة خاصة في هذه الأوقات التي يُتاح لنا فيها أن نعايش أولادنا ونتعرف عليهم من كَثَب ؛لأنهم حينئذ سينطلقون على سجيتهم ولن يكتفون برسم الدور الذي نرسمه لهم ونلبسهم إياه”.

ولم يكن مخطئًا ذلك العالم النفسي “دودسون” حينما سأل الآباء: “أليس صحيحًا أنكم تقضون 99% من أوقاتكم مع أبنائكم في إصدار الأوامر؟”، إنها حقيقة مرعبة إذا ما كُتِبت وكتبت بعدها هذه الإحصائية: “80% من حالات التمرد المرضية التي تلاحظ عند المراهقين كان بالإمكان تلافيها لو أن الأهل أعطوا لأنفسهم الوقت الكافي لبناء العلاقة الحميمة العميقة مع الطفل في أعوامه الأولى”.

(7) أما الخطوة الأخيرة وهي الأكثر عملية، اغلاق جهاز الإنترنت الآن، والامساك بكتاب، ورواية لابنك قصة أو التنزه سويًّا أو اللعب معه بالمكعبات.


أ/مني يونس