05/05/2004

إبراهيم محمد عادل- مصر – 23 سنة 

1- موظــــف

اقتضت حكمة الله أن أستيقظ على صوت “أم الأولاد” -وهو لقب أدعو به “زوجتي” حتى لا أنساهم!!- ويا له من صوت!! حسنًا، مـا زالت ثيابي كما هي منذ أن تركتها بالأمس. لا بأس، سأرتديها مهما كانت الظروف؛ فالساعة الثامنة ولا بد من اللحاق بالأتوبيس.

ها هم أولادي الأعزاء ذهبوا إلى مدارسهم… يا لهم من رائعين!! يبدو أن أمهم قد انهمكت هي الأخرى في أعمال المطبخ بعد أن تأكدت تمامًا من استيقاظي، يا لها من وديعة!!

لا بأس إذن.. حذائي في مكانه، تعلوه بعض الأتربة.. جواربي لا زالت متقطعة أو شبه “مهترئة”.. وماذا في هذا يا رجل؟! المهم الصحة… أحمدك يا رب. ثم مَنْ هذا الفضولي الذي سيتلصص النظر إلى جواربي رغم أني أجيد إخفاءها داخل الحذاء العريق؟!! ومن ذا الفضولي “الغتيت” الذي يهتم بـ”لمعة” حذائي، أولا تكفيه “لمعة” رأسي؟!

عمي حسان.. تبا لذلك العجوز، كل شيء يكون على ما يرام إلا ذلك الكهل؛ يصر على ألا يسمع استغاثاتي.. يبدو أنه من أشد المعجبين بـفريد “الأطرش”!! ولكن على مَنْ؟! لقد ركضت حتى أدركته، صحيح أنني لا أعلم -حتى الآن على وجه الدقة- لماذا يكون الأتوبيس أسرع حين نركض وراءه مما لو كنا داخله، ولكنني أدركته تمامًا وكأني ألحق بأحد أتوبيسات النقل العام، ولكن بدون أن أدفع الربع جنيه، يبدو أنني أمتلك (أبونيه)!!

كل شيء على ما يرام؛ بدأ العاملون يتوافدون إلى المصلحة وكأنهم على موعد مع القدر!!

لا أدري -أيضًا- لماذا لا تقسم المصلحة موظفيها إلى 7 أقسام أو 5 (عشان العين)؛ بحيث يأتي بعضهم في الثامنة، وبعضهم في التاسعة، وبعضهم في العاشرة… وهكذا، وبعضهم “يمضي انصراف”؟!! أقول هذا لأنني أشعر كلما ولجت باب “المصلحة” أنني داخل إلى “ميدان التحرير” -وحينئذٍ قد أستشهد- أو ميدان “الجيزة” على الأقل، وما أدراك ما “ميدان الجيزة”. بل وحتى كلمة “ولجت = دخلت” هذه أعتبرها “مجازًا”، أو لعلها “مجاز مرسل” على رأي الولد “حسين” ابني!!

آه… تبدو لي حالة المكتب مطمئنة إلى حدٍ ما؛ حتى الآن لم يزد عدد “الدوسيهات = الملفات” عن الأمس. حسنا، فلأحاول أن أضاعف هذه النسبة وإلا ظل مكتبي شاغرًا، لا.. لا.. أنا لا أقبل هذا أبدًا.

لذا وعلى الفور -وكشأن جميع القرارات الدبلوماسية والإستراتيجية والسياسية الحاسمة- قررت أن ألغي من قاموسي عبارة “فوت علينا بكرة”، سآخذ من الناس كل شيء اليوم، أريد أن أحصل على الرقم القياسي في عدد الملفات المرصوصة على المكتب .. لا .. لا .. لن تطال السقف بحالٍ من الأحوال، ذلك أن مصلحتنا في مبنى من ذلك الطراز القديم الفريد ذي الأسقف المرتفعة جدا.

ها قد وصل كوب “الشاي”، يا لها من متعة!!

ماذا؟ المدير يريدني.. يا إلهي، لا بد أنها العلاوة، بل وربما تكون الترقية التي كنت أنتظرها منذ كان في رأسي شعر!! من المؤكد أنني سأنتقل من المرتبة الخامسة إلى الرابعة. ومن يدري ربما إلى الثالثة؟! وعلى الرغم من السعادة التي ارتسمت على وجهي، إلا أن زملائي بدوا متعجـبـين!! ما علينا ..

درجات السلالم التي كنت أصعدها يوميا بتثاقل غدت اليوم وكأنها بساط الريح، المساااافة من أول درجة سلم وحتى باب “سعادة” المدير قطعتها وكأنني أطير!! طرقات يدي على الباب بدت وكأنها “سيمفونية ” أو “موسيقى”، على أي حال…
هوا إنت ؟!!! مخصوم منك يومين يا سيد. لم أسأله (لماذا؟).. أدركت -ببساطة- أنه على المرء أن يكون أقل تفاؤلاً.

“تحت أمرك يا أفندم..”

طـــــرااااااااخ.

2/ مهندس ….

العودة إلى المنزل بعد يوم من الاحتراق بلهيب الشمس الحارقة، أشبه ما يكون بصب الماء الساخن “المغلي” على لوح من الثلج، أو هو تمامًـا- كوضع ذلك القالب من الثلج على سيخ محمي من النار… “تــشـــششششششش”

هذا هو ما كدت أنطق به وأنا أرتمي على الأريكة “المستطيلة” التي تتوسط غرفة المعيشة الـ”دائرية”. يكاد منزلي أن يكون قريب الشبه بـ”فرجـار”، ولا أدري كيف!!

ويبدو أن جريمة “النوم” التي شرعت فيها لم ترق للـمدام -“حرمنا المصون”- التي بدت وهي تنبهني إلى فظاعة ما ارتكبته؛ كَثَكْلى فقدت وليدها، وتطالب والده أن يوجده لها!!

: “إنت ها تنام يا باشمهندس؟”

وكأنها تعيرني بـ(باشمهندس) هذه!! على أي حال اكتشفت أنها لم تعد الطــعام بعد، وذلك طبعًا بسبب غبااااائي!!

حاولت جاهدا أن أوضح لها أنني لم “أشرع” في عمل “المشروع” المطلوب مني تقديمه خلال يومين فقط، ولكنها أقنعتني علميًّا – بسرعة- بأن “الطعام” قد نفد من البيت تماما، وأن الأمر “ليس بخاطرها” ولا “بخاطري” طبعًا.. ومع أنني امتثلت لأوامرها إلا أنني ظللت مستغربًا! وخاصة ليَقِيني أنني قد جلبت مؤخرًا كمية كبيرة من الجبنة “المثلثات”!!! على أية حال/أو صفة كان أملي كبيرا في إتمام “المشروع” بعد عودتي.

وعدت… كانت “تباشير الفرحة” بادية على محيَّاها…

– هوا إنت لازم تعمل “المشروع “ده النهارده؟!!

كان السؤال بمثابة “هرم” يتخلى عن أحجاره لينقض أمامي أو على رأسي، أو بمثابة تمزيق خريطة المشروع الجديد التي لم أشرع فيها بعد أمام وجهي!! لقد انفجرت صارخًا:

– المدير يريده بعد يومين يــا امرأة !!

ثم حاولت قدر استطاعتي أن “أمسك” أعصابي حتى لا أثور، ودخلت محراب عملي الصغير.

غالبا ما نستمع إلى “شقشقة” العصافير، و”زقزقة” الطيور، و”تغريد” البلابل قبيل شروق الشمس، أما أنا فلقد كنت في غمرة انهماكي بعد غروب الشمس بقليل، وإذ ذاك سمعت شبه شقشقة، مع شبه زقزقة هامسة رقيقة: يجب أن تقوم بإصلاح “البوتجـاز” يا عزيزي.

– تحت أمرك يــــااااا عزيزتي.

(ولربما يتهمني أحدكم بالاستهبال أو العبط !! ولكن أنسيتم أنها أقنعتني “علميًّـا” المرة الماضية؟! مما يعني أنها قد تقنعني “عمليًّـا” هذه المرة!! وهذا أخشى ما أخشاه)…

“وبعدين، أنا عايز أخلص”…

وبعد ساعتين، كان كل شيء “على ما يرام”، لدرجة: “أعملك كوباية شاي يا …”.

– يبدو أنها “أفحمتكم”، وهكذا بدأت “الخطوط” و”السطور” و”الأشكال الهندسية” تأخذ طريقها إلى تلك الورقة “الشفافة”، وتلك الطاولة المائلة بطبيعتها.

ويظهر إن (الحلو ما يكملش!!) -على حد تعبير السادة الشعبيين- لقد شاءت إرادة الله ألا يسقط منها “كوب الشاااي” إلا على… على تلك الوريقة “المسكينة”!!

– ماذا أفعل؟ أزعل! …لأ .. أتضايق؟ لأ … أعمل إيه؟ لقد أقمت الدنيا وأقعدتها فوق رأسها…

تررررن….. تررررررن… (وكان صوت سعادة المدير عبر الأثير)

آآآه… يبدو أن قرار فصلي جاء بأسرع مما أتوقع…… الحزم مهم !!

3/ مدرس

المشهد المعتاد… الانزعاج على صوت جرس المنبه تجعل اليد اليمنى تمتد نحوه لتغلقه … آآآهـ

التثاؤب … “مـا أسرع أن يأتي النهار”، “إنه الصباح يا خويا!!”

كان تعليقي “الهاديء”، وكان ردها “الذكي”!!

القيام من السرير في ذلك الحر القائظ أشبه مـا يكون بـ “حركة سريعة للقيام من النوم!!”. ومن لوازم اكتمال هذا المشهد ذلك “البنطلون” الـ “مخـطـط” وفوقه بدت “الفانلة” وفوقها رأسي!! الـ”حَمَّام”… حسنًا لقد سبقتهم إليه اليوم. شكلي في الـ”مرآة” مألوف، ولكن ذقني … آآهـ … حسنا.. لا بد أن “آخذها”.. “معجون الحلاقة”… “ياللرجال” لقد نسيت أنني قضيت عليه منذ الأسبوع الماضي، لا بأس، لا بد أن يرى التلاميذ أثر التعب والإرهاق على “ذقني” !! خرجت من الحمام مسرعا.

“عبد الحفيظ” و”حسين” و”حسنية” كانوا بالخارج، وكأنهم ينتظرون أمام جمعية مـا !!

– أنا “الأول” .. لأ “أنــا الأول” .. لأ “أنا اللي جيت الأول”.

يا لفرحتي… أولادي هم “الأوائل”!!

الدفاتر لم تتحرك من مكانها، لا أدري لماذا لا أتركها في المدرسة، لعل ذلك يكون توفيرًا لجهدي الذي أود استثماره في حصص “المجموعـات”.

حقيبتي… آآه، حسنًا، ها هي، كثيرًا ما تذكرني بأيام طفولتي!! يبدو أنني لن أنسى هذه الأيام، سحبتها بعنف، وأضفت إليها الدفاتر والكراريس والكشاكيل
(مـا الفرق؟) ووضعت بعض النقود على طاولة الطعام، وكأنني أدفع حسابًا للمطعم، وانصرفت.

– هيا يـا أولاد … تفاديت –بالطبع- بنزولي المبكر متعة الاستماع إلى “الموشحات التلاميذية” لأبنائي الأعزاء؛ من قبيل:

“أين حذائي؟”، “من الذي استولى على مسطرتي؟!” “لقد كان شرابي هنا بالأمس”، “تبا للجميع”، “حتى أنت يا بروطس!!”

ولكن يبدو أن السيارة قد أصابها الكثير من الإرهـاق، أو قد قررت أن تأخذ إجـازة بدون مرتب… كم هي مسكينة!! وما إن اكتشفت ذلك حتى كـان الطابور الثلاثي قد “شـرَّف”.

نظرات أعينهم البريئة تلاقت مع نظرات عيني المعذبة…

– حسنًا، يبدو أنهم لم يخترعوا كـافة وسائل المواصلات لكي يقوم الوالد (المسكين) بتوصيلكم يوميا…

أما أنا فقد استعنت بقدمي على هذا المشوار الـشـاق…

تـأخرت على الطابور المدرسي، لا بأس أنا مدرس ولست طالبًا، كما أنني ليس لدي “حصة أولى” اليوم…

أخذت مكاني داخل غرفة المدرسين، يبدو أن “نوم الليل” مدهون هو الآخر بـ”زبدة”!! لم أتمالك نفسي من الرغبـة الأكيدة في “النوم”…

(حصتك يــااااا أستــاااذ)، بهذا النغم “الحـاني” أيقظني/أفزعني أحد زملائي …

دخلت على أبنـائي “التلاميذ” وأنا في غاية الـ”روقان”؛ فقد أخذت “تعسيلة معتبرة”!!

ـ حصة النهارده عن … (يبدو أنه لم يعد من حقوق المدرس أن يفرض على طلبته شيئًا)

– عـــاوزيييين مرااااااااجعة النهـــاااااارده يـــا أستاذ.

وما إن أجرمت بالموافقة حتى تعالت صيحاتهم بالهتاف والصفيييير المتواصل، وكأنني أحرزت هدفًا لصالح “الأهلي”!! أو كأنني أعلنت على مسامعهم أن اليوم إجازة رسمية. وقبل أن أستفيق من هول الصدمة (ولأنه يبدو أن الإنسان أحيانا يكون سائرًا في طريقه وفجــأة -وبدون سابق إنذار- يرتطم بسيارة؛ لأنه -ببساطة- كان “سرحان”!!).

ويبدو -أيضًا- أن حضرة “الناظر” يمر أحيانًا بالمدرسة كمن يتفقد رعيته!! شـاهد بالطبع ما رويته لكم، وبهدوء الأب:

– يـا أستاذ .. لو سمحت عدي عليَّ بعد مـا تخلص حصتك.

هدوووووووووووووووء

يا من تريد الانتحار وجدته                    إن المعلم لا يعيش طويلاً

(إبراهيم طوقان)


النقد والتعليق:

الناقد والسيناريست عماد مطاوع:

بداية أسجل إعجابي الشديد بالطابع الساخر الذي لف هذا النص المقسم إلى ثلاث قصص متصلة/منفصلة؛ حيث يمتلك الكاتب عينا راصدة تحليلية مكنته من النفاذ للجانب الداخلي من حياة إنسان هذا العصر، الموزع بين متطلبات حياتية ومقومات لا تمكنه من القيام بما يجب عليه. ولقد تخير الكاتب نماذج من شرائح مختلفة تنتمي للطبقة الوسطي التي تتآكل أو ربما تآكلت بالفعل.

والكاتب لديه مقدرة على التصوير والوصف وعمل حبكة درامية عالية (ولعله يقترب من خصائص كتابة السيناريو)، ونجد الحوار متناسقًا تماما مع الحالة الوصفية أو المساحة البصرية للموقف القصصي، بالإضافة لتمكن الكاتب وامتلاكه أدوات القص، فهو يمتلك روحا ساخرة، اتضحت في النص وتجلت في نهاية كل جزء من أجزاء العمل.

وهذه القصة تنتمي للشكل التقليدي للكتابة، ولا ضير من الكتابة بهذا الشكل ما دام الكاتب يمتلك الوعي الكافي بطبيعة ما يكتب، وأيضا يمتلك الرغبة في تطوير أدواته والعمل على القفز بموهبته للأمام، ولكن الكاتب لم يكن موفقا في خلق تباين قوي لدى نماذجه المنتقاة؛ إذ تخير نفس الظرف النفسي ونفس الآلية في إدارة علاقته بالزوجة والأولاد والمجتمع رغم اختلاف النماذج (موظف – مهندس – مدرس) وربما يكون هذا التطابق وعدم التباين يرجع إلى تشابه الظروف الخارجية المحيطة التي تشكل جانبا مهما من العلاقات الداخلية الخاصة.

والكاتب إبراهيم محمد عادل يبشر بكاتب ساخر يمتلك وعيا نقديا، وموهبة عليه أن يسهر عليها، ويضيف إليها المزيد من التجريب في أشكال وأساليب الكتابة.