قبل التعرف الخطيب البغدادي نعلم أن الكتابة التاريخية عند المسلمين تطورت تطورًا هائلاً، وشملت مناحي الحياة المختلفة وسجلت دقائقها، وترجمت لأعلامها، وكان من بين صور التأليف التاريخي التي شاعت منذ منتصف القرن الثالث الهجري ما يُعرف بالتاريخ المحلي؛ حيث يعمد المؤرخ إلى الكتابة عن مدينته، ويؤرخ لها دون غيرها من المدن؛ اعتزازًا بها، وتسجيلا لحركتها الفكرية، وبدأت تظهر سلسلة من تواريخ المدن توفر على كتابتها عدد من أبنائها، حتى أضحت كتابة هذه التواريخ البلدانية تقليدًا لدى العلماء تتوارثه الأجيال.

وتوالت الكتب التي تتناول المدن الكبيرة وحواضر الدول؛ مثل: بغداد، ودمشق، والقاهرة، ومكة، وحلب، وهي كتب تتناول تاريخ هذه المدن –لا على أساس أحداثها السياسية وخلفائها ووزرائها وولاتها-، ولكن على أساس رجالها وعلمائها الذي ملئوا مساجدها ومدارسها درسًا وتأليفًا، وصار الإطار المكاني هو الذي يربط بين علمائها، وجرى تنظيم هذه المؤلفات على أساس الترتيب الألفبائي، وكان من شأن هذه الكتب أنها حفظت لنا الحركة الحضارية وفاعلياتها داخل تلك المدن، ولم تشغل نفسها بالأحداث السياسية وأدوار رجالها.

وكان الخطيب البغدادي ممن أسهموا في هذا الجانب التاريخي بكتابه الكبير “تاريخ بغداد” الذي جمع فيه خلاصة ترجمة العلماء الذين عرفتهم بغداد حتى أواسط القرن الخامس الهجري، وأصبح مثالا احتذى به كل من تطرق إلى التاريخ للمدن مثل ابن عساكر في كتابه “تاريخ دمشق”، وابن العديم في كتابه “بغية الطلب في تاريخ حلب.

المولد والنشأة

في” غزية” من قرى الحجاز ولد أحمد بن علي بن ثابت في يوم الخميس الموافق (24 من جمادى الآخرة 392هـ = 1 من ديسمبر 1534م)، ونشأ في “درزيجان”، وهي قرية تقع جنوب غرب بغداد؛ حيث كان أبوه يتولى الخطابة والإمامة في جامعها لمدة عشرين عامًا، وعُني به أبوه عناية فائقة، فدفع به إلى من أدَّبه وحفظه القرآن، ولما اشتد عوده بدأ يتردد على حلقات العلم في بغداد، وكانت آنذاك تموج حركة ونشاطًا بعلمائها وفقهائها، فالتزم حلقة “أبي الحس بن رزقوية”، وكان محدثًا عظيمًا، له حلقة في جامع المدينة ببغداد، وتردد على حلقة أبي بكر البرقاني، وكان مبرزًا في علم الحديث، فسمع منه وأجازه، واتصل بالفقيه الشافعي الكبير “أبي حامد الإسفرائيني”، وتتلمذ على يديْه، كما التقى بالعلماء الواردين على بغداد، وأخذ عنهم.

الرحلة في طلب العلم

كانت الرحلة في طلب العلم من التقاليد عند علماء المسلمين؛ فبعد أن ينهل الطالب من علماء بلدته والبلدان المحيطة يبدأ في الاستعداد للرحلة إلى الحواضر الكبرى، وقد ألف الخطيب البغدادي رسالة في هذا الموضوع باسم “كتاب الرحلة في طلب الحديث”، أورد فيه الأحاديث والآثار التي جاءت في فضل الرحلة، وسجل رحلات الصحابة والتابعيين ومن جاء بعدهم، وبيَّن الغرض من الرحلة وهو تحصيل علو الإسناد، ولقاء الحفاظ والمذاكرة معهم.

كانت البصرة هي المدينة التي قصدها، وهو في العشرين من عمره في سنة (412 هـ= 1021م) والتقى بعلمائها الكبار وأخذ عنهم، ثم عاد إلى بغداد في السنة نفسها، وبدأ اسمه في الذيوع والانتشار، ثم عاود الرحلة بعد مضي ثلاث سنوات على رحلته الأولى، واتجه إلى نيسان بمشورة شيخه أبي بكر البرقاني سنة (415هـ=1024م)، وفي طريقه إليها مر بمدن كثيرة كانت من مراكز الثقافة وحواضر العلم، فنزل بها وأخذ عن شيوخها، حتى إذا استقر بنيسابور بدأ في الاتصال بعلمائها وشيوخها، فأخذ عن أبي حازم عمر بن أحمد العبدوي، وأبي سعيد بن محمد بن موسى بن الفضل بن ساذان، وأبي بكر أحمد بن الحسن الحرشي، وصاعد بن محمد الاستوائي وغيرهم، ثم عاد إلى بغداد.

ثم عاود الرحلة إلى أصبهان سنة (421 هـ=1030م)، واتصل بأبي نعيم الأصبهاني صاحب “حلية الأولياء”، فلازمه وروى عنه، كما روى عن عدد من العلماء والمحدثين، وأخذ عنهم رواياتهم، وكر راجعًا إلى بغداد، واستقر بها مدة طويلة.

أصبح الخطيب البغدادي معقد الآمال في بغداد، ومقصد الطلاب من كل مكان، وموضع احترام الناس وتقديرهم، يلجئون إليه في الملمات، وحدث أن أظهر بعض اليهود في سنة (447هـ=1055م) كتابًا ادعوا فيه أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وذكروا أن خط علي فيه، فلما أُرسل الكتاب إلى وزير الخليفة القائم بأمر الله عرضه على الخطيب البغدادي، فتأمله ثم قال: هذا مزوَّر؛ فلما قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: من شهادة معاوية؛ فهو أسلم عام الفتح سنة (8 هـ= 629م)، وفُتحت خيبر في سنة (7هـ= 628م)، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين، فاستحسن الوزير ذلك من الخطيب، ولم يُجزهم الوزير على ما جاء في الكتاب، وأخذ منهم الجزية.

وما قام به الخطيب دليل على سعة علمه وتبحره في التاريخ، ومعرفته الدقيقة بالرجال والنقد التاريخي، والبصر الدقيق بالسند والمتن، وقد رفعت هذه الحادثة مكانته عند وزير الخليفة؛ فجعله مرجع الخطباء والوعاظ في الحديث؛ فلا يروون حديثًا حتى يعرضوه عليه؛ ليرى درجته ومبلغ صحته وضعفه؛ فإن كان صحيحًا أذاعوه، وإن كان ضعيفًا ردوه.

معاودة الرحلة

ظل الخطيب في بغداد حتى سنة (451هـ= 1059م) عاكفًا على التأليف، مشتغلا بتدريس الحديث وإملائه بمسجد المنصور، ثم غادرها إلى “دمشق” تسبقه شهرته الواسعة، وكان قد سبق له أن زارها كثيرًا قبل هذه الرحلة، لكنه في هذه المرة طالت به فترة إقامته، وكان يعقد مجلسه في الجامع الأموي؛ يحدث بمصنفاته ومروياته وسط حشد هائل من تلاميذه وطلبة العلم ومحبيه، وكانت دمشق آنذاك تابعة للدولة الفاطمية، فسعى الوشاة إلى إحداث وقيعة بينه وبين الفاطميين، واستندوا إلى أنه يحدث بكتاب “فضائل الصحابة الأربعة” للإمام أحمد بن حنبل وفضائل العباس لأبي الحسن بن رزقويه، وكادت الوشاية تؤدي إلى قتله لولا تدخل بعض العارفين لقدر الإمام، فعملوا على إخراجه من دمشق، وتوجه إلى صور سنة (459هـ=1066م) وكان يحدث بجامعها، ويزور القدس ويعود ثانية، ثم غادر “صور” بعد أن مكث بها فترة طويلة، وقصد “طرابلس” سنة (462هـ= 1069م)، ثم اتجه إلى حلب، ثم عاد في السنة نفسها إلى بغداد بعد غياب طويل عنها دام نحو أحد عشر عامًا، فوصلها في (ذي الحجة 462هـ=1069م)، واستأنف سيرته العلمية.

أستاذ لشيوخه

اشتهر الخطيب بكثرة مروياته وسعة علمه؛ فروى عنه كثيرون، بعضهم كان من شيوخه، مثل شيخه أحمد بن محمد البرقاني، وأبي القاسم الأزهري، وبعضهم من زملائه وأقرانه مثل أبي إسحاق الشيرازي، والحافظ ابن ماكولا، وأبي عبد الله الحميدي الأندلسي. أما طلابه وتلاميذه فكثيرون، منهم: عبد الكريم بن حمزة مسند الشام، وأبي بكر المرزقي، وهبة الله الأكفاني، وأبي زكريا يحيى بن علي المعروف بالخطيب التبريزي، وأبي الوفاء علي بن عقيل الفقيه المعروف.

مؤلفاته

قضى الخطيب عمره في طلب العلم، والرحلة إلى شيوخه، يأخذ عنهم مصنفاتهم ومروياتهم، وعني بالحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والأدب والتاريخ والأخبار، وإن كانت شهرته باعتباره حافظًا قد غلبت عليه؛ لأن عنايته بالحديث وعلومه قد استأثرت بمعظم جهوده، ويتضح ذلك من قائمة مؤلفاته؛ حيث تحتل كتب الحديث وعلومه المرتبة الأولى من بينها.

ويبلغ مجموع مؤلفاته ستة وثمانين كتابًا، يأتي في مقدمتها:

“الكفاية في علم الرواية”، وهو من أهم الكتب التي أُلفت في علم مصطلح الحديث؛ حيث اشتمل على فنون هذا العلم ومصطلحاته المستعملة في كتب الحديث وتحديد معانيها بدقة، وقد استفاد بالكتاب كل من تعرض لهذا العلم الجليل مثل القاضي عياض، وابن الصلاح. “الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع” تناول فيه آداب طالب علم الحديث، وهيئته وكيفية تعامله مع شيخه، وسلوكه في حضرة مجلسه، وتعرض لمظهره وكلامه ومشيه ومجلسه، وبيَّن آداب معاملة الشيخ لتلاميذه وتوقيره لهم، وتعرض لمظهره وكلامه ومشيه ومجلسه، وتحرِّيه الصدق، واختياره الرواية من أصل مكتوب، وما يلزمه معرفته من النحو والصرف؛ وذكر صفة مجلس المحدث ووقته وموضعه، وغير ذلك من مباحث الكتاب.

وله أيضًا “شرف أصحاب الحديث”، و”نصيحة أهل الحديث”، و”تقييد العلم”، و”الرحلة في طلب الحديث”، و”موضع أوهام الجمع والتفريق”، وهذه الكتب مطبوعة متداولة.

تاريخ بغداد

يُعد “تاريخ بغداد” أضخم مؤلفات الخطيب البغدادي وأهمها وأكثرها شهرة، جمع فيه تراجم لعلماء بغداد الذين من أهلها أو الذين نزلوها زائرين من العلماء والرجال البارزين في كل فن وميدان، متخذًا قاعدة “أن كل من دخل بغداد فهو بغدادي”.

ولم يكن الخطيب البغدادي هو أول من طرق هذا الموضوع، ووضع فيه كتابه المعروف بل سبقه إلى التأليف في تاريخ بغداد عدد من المؤلفين، من أمثال: أحمد بن الطيب السرخسي وأبي سهل يزدجرد بن مهبندار الذي كتب كتابًا في وصف بغداد وخططها وعدد شوارعها وحماماتها، وقد وضع الخطيب مقدمة مفصلة لكتابه تناولت خطط مدينة بغداد وبناءها وأقسامها ودورها وأحياءها ومساجدها، ثم بدأ في الترجمة لأعلامها مبتدئًا بالمحمدين، تبركًا برسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ثم التزم بعد ذلك الترتيب الألفبائي في إيراد الأعلام.

ويضم الكتاب المطبوع 7831 ترجمة، معظمها يخص المحدثين والفقهاء، وتبلغ تراجم رجال الحديث نحو خمسة آلاف ترجمة، وبقية التراجم تخص أرباب العلوم الأخرى ورجالات الدولة والمجتمع، واستخدم المؤلف الإسناد عند سرد الروايات سواء كانت تتصل بالحديث ورجاله أم بالتاريخ والأدب.

وقد لقي الكتاب اهتمامًا واسعا من العلماء، وصار النموذج الذي قلده المؤلفون من بعده في وضع تواريخ المدن الأخرى، ودفع المؤرخين اللاحقين إلى متابعة عمل الخطيب، فألفوا ذيولا على تاريخ بغداد، واستمر ذلك لفترة طويلة، وفي الوقت نفسه اعتمد المؤلفون على هذا الكتاب ينقلون عنه عدة قرون، وصدقت الكلمة التي قالها ابن خلكان في الخطيب البغدادي: “لو لم يكن له إلا التاريخ لكفاه”.

وفاته

بعد عودة الخطيب البغدادي من الشام واستقراره سنة (462هـ=1069م) قام بالتدريس في حلقته بجامع المنصور، واجتمع حوله طلابه وأصحابه، غير أن حياته لم تطُل، فلقي ربه في (7 من ذي الحجة 463م).

  أحمد تمامباحث مصري في التاريخ والتراث.


هوامش ومصادر:

  • الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين ـ مؤسسة الرسالة – بيروت ـ 1410هـ= 1990م.

  • ابن خلكان ـ وفيات الأعيان ـ تحقيق إحسان عباس ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1987م.

  • ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ـ تحقيق أحمد فريد الرفاعي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ 1987م.

  • أكرم ضياء العمري ـ موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ـ دار طيبة ـ الرياض ـ 1405=1985.