اتجه الإسبان بعد سقوط الأندلس في أيديهم إلى شمال إفريقيا، متطلعين إلى بسط أيديهم على تلك المناطق، فاحتلوا “المرسى” الكبير في غرب الجزائر سنة (911هـ = 1505م)، واستولوا على مدن: مليلة، والجزائر، وبجاية، وطرابلس، ووهران، وغيرها من المدن الساحلية، وكان ذلك خطرًا داهمًا هدد المسلمين في شمال إفريقيا، ولم تكن هناك قوى منظمة يمكنها دفع هؤلاء الغزاة الجدد.

وأثار هذا الخطر عددًا من البحارة المسلمين من سكان تلك المناطق، فتحركت في نفوسهم نوازع الجهاد والغيرة على بيضة الإسلام، وكانوا قد خدموا من قبل في الأسطول العثماني، فتكونت لديهم خبرة جيدة بالبحر وبفنون القتال، فتعاهدوا على مواجهة الغزاة الجدد، واتخذوا من جزيرة “جربة”، التونسية مركزًا للقيام بعملياتهم الحربية في البحر المتوسط، وكان يقوم على هذه العمليات الأخَوَان “عروج” و”خير الدين بارباروسا”.

وقد أثمرت سياسة هؤلاء البحارة في مهاجمة سفن الإسبان، فتوقفوا عن مهاجمة الثغور الإسلامية، وأحجمت الدول الأوروبية التي كانت تنوي انتهاج هذه السياسة. وتوج الأخوان جهودهما باستعادة ميناء “بجاية” الجزائري من الإسبان سنة (921 هـ = 1515م) ونقل عروج قاعدة عملياته البحرية إلى ميناء “جيجل” الجزائري؛ ليتمكن من توجيه ضربات موجعة للإسبان.

استطاع عروج أن يقيم حكومة قوية في الجزائر، وأن يطرد الإسبان من السواحل التي احتلوها، ويوسع من نطاق دولته حتى بلغت “تلمسان”. وفي هذه الأثناء اتصل بالسلطان العثماني “سليم الأول“، وكان قد تمكن من ضم مصر إلى دولته، وأعلن طاعته وولاءه للدولة العثمانية، غير أن إسبانيا هالها ما يفعله “عروج” ورجاله، ورأت في ذلك خطرًا يهدد سياستها التوسعية، ويقضي على أحلامها ما لم تنهض لقمع هذه الدولة الفتية، فأعدت حملة عظيمة بلغت خمسة عشر ألف مقاتل، تمكنت من التوغل في الجزائر ومحاصرة تلمسان، ووقع عروج أسيرًا في أيديهم، وقتلوه في (شعبان 924 هـ = أغسطس 1518م).

ولاية خير الدين على الجزائر

خلف “خير الدين بارباروسا” أخاه في جهاده ضد الإسبان، ولم تكن قواته تكفي لمواجهة خطر الإسبان، فاستنجد بالدولة العثمانية طالبًا العون منها والمدد، فلبّى السلطان “سليم الأول” طلبه، وبعث إليه قوة من سلاح المدفعية، وأمده بألفين من جنوده الإنكشاريةالأشداء، ثم واصل السلطان “سليمان القانوني” هذه السياسة، ووقف خلف خير الدين يمده بالرجال والسلاح.

ولم يكن خير الدين أقل حماسة وغَيْرة من أخيه، فواصل حركة الجهاد، وتابع عملياته البحرية حتى تمكن من طرد الإسبان من الجيوب التي أقاموها على ساحل الجزائر، وضمّ إلى دولته مناطق جديدة، وقادته رغبته الجامحة في مطاردة الإسبان إلى غزو السواحل الإسبانية، الأمر الذي أفزع الغزاة، وألقى الهلع في قلوبهم، ثم قام خير الدين بعمل من جلائل الأعمال؛ حيث أنقذ سبعين ألف مسلم أندلسي من قبضة الإسبان الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، فنقلهم في سنة (936هـ = 1529م) على سفنه إلى شمالي إفريقيا.

خير الدين في إسطنبول

قام السلطان سليمان القانوني باستدعاء خير الدين بارباروسا إليه في إسطنبول، وعهد إليه بإعادة تنظيم الأسطول، والإشراف على بناء عدد من سفنه، ثم وكل إليه مهمة ضم تونس إلى الدولة العثمانية، قبل أن يتمكن السلطان الإسباني “شارل الخامس” من الاستيلاء عليها، وكانت ذات أهمية كبيرة لموقعها المتوسط في السيطرة على الملاحة في حوض البحر المتوسط.

غادر خير الدين العاصمة العثمانية على رأس ثمانين سفينة وثمانية آلاف جندي، واتجه إلى تونس، ونجح في القضاء على الدولة الحفصية التي كانت تحكم تونس، وأعلن تبعيتها للدولة العثمانية سنة (941 هـ = 1534م).

أثار هذا النصر شارل الخامس وزاده حنقًا، ورأى فيه تهديدًا للمواصلات البحرية التي تربط بين إيطاليا وإسبانيا، وانتصارًا للإسلام، وتشجيعًا لمجاهدي شمال إفريقيا على مواصلة الهجوم على السواحل الإسبانية واستنقاذ المسلمين الأندلسيين؛ ولهذا تحرك على الفور، وقاد حملة جرارة على تونس، تمكنت من الاستيلاء عليها في السنة نفسها، ورد خير الدين على هذا الانتصار بغارة مفاجئة على جزر البليار في البحر المتوسط، فأسر ستة آلاف من الإسبان، وعاد بهم إلى قاعدته في الجزائر، ووصلت أنباء هذه الغارة إلى “روما” وسط احتفالات البابوية بانتزاع تونس من المسلمين.

قادة الأسطول العثماني

أراد السلطان سليمان القانوني مكافأة خير الدين على جهوده وخدماته للإسلام، فعيّنه قائدًا عامًّا للأسطول العثماني، وجعل في منصبه بالجزائر ابنه “حسن باشا”، الذي واصل جهود أبيه في مهاجمة الإسبانيين في غرب البحر المتوسط.

وقاد “خير الدين بارباروسا” عدة حملات بحرية موفقة، كان من أشهرها فوزه العظيم في معركة “بروزة” بالبحر المتوسط. كانت معركة هائلة تداعت لها أوربا؛ استجابة لنداء البابا في روما، فتكوّن تحالف صليبي من 600 سفينة تحمل نحو ستين ألف جندي، ويقوده قائد بحري من أعظم قادة البحر في أوربا هو “أندريا دوريا”، وتألفت القوات العثمانية من 122 سفينة تحمل اثنين وعشرين ألف جندي، والتقى الأسطولان في بروزة في (4 من جمادى الأولى 945 هـ = 28 من سبتمبر 1538م)، وفاجأ “خير الدين” خصمه قبل أن يأخذ أهبته للقتال، فتفرقت سفنه من هول الصدمة، وهرب القائد الأوروبي من ميدان المعركة التي لم تستمر أكثر من خمس ساعات، تمكن في نهايتها خير الدين من حسم المعركة لصالحه.

وقد أثار هذا النصرُ الفزعَ والهلعَ في أوربا، وأعاد للبحرية العثمانية هيبتها في البحر المتوسط، في الوقت الذي استقبل فيه السلطان سليمان القانوني أنباء النصر بفرحة غامرة، وأمر بإقامة الاحتفالات في جميع أنحاء دولته.

كانت فرنسا ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني؛ ولذلك لم يتأخر السلطان عن تقديم المساعدات الحربية التي طلبها منه “فرانسوا الأول” ملك فرنسا في أثناء الحرب التي اشتعلت من جديد بينه وبين الإمبراطور شارل الخامس حول “دوقية ميلان” شمال إيطاليا.

كلّف السلطان القانوني قائده الباسل خير الدين بقيادة الحملة، وكانت آخر مرة يقود فيها إحدى حملاته المظفرة، فغادر إسطنبول في (23 من صفر 950 هـ = 28 من مايو 1543م) على رأس قوة بحرية كبيرة، استولت وهي في طريقها إلى فرنسا على مدينتي “مسينة” التابعة لصقلية و”ريجيو” الإيطالية دون مقاومة، ثم استولت على ميناء “أوستيا” الإيطالي، وواصلت سيرها حتى دخلت ميناء طولون قاعدة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط، ورفعت السفينة الفرنسية الأعلام العثمانية، وأطلقت مدافعها تحية لها، ودخل الأسطول الفرنسي المكون من أربع وأربعين قطعة تحت إمرة خير الدين، وتحرك الأسطولان إلى ميناء “نيس”، ونجحا في استعادة الميناء الفرنسي في (21 من جمادى الأولى 950 هـ = 22 من أغسطس 1543م).

ميناء طولون

وفي الفترة التي تم فيها تسليم ميناء طولون للدولة العثمانية أُخلي الثغر الفرنسي من جميع سكانه بأوامر من الحكومة الفرنسية، وتحول إلى مدينة إسلامية عثمانية، رُفع عليها العلم العثماني، وارتفع الأذان في جنبات المدينة، وظل العثمانيون ثمانية أشهر، شنوا خلالها هجمات بحرية ناجحة بقيادة خير الدين على سواحل إسبانيا وإيطاليا.

وفاة خير الدين بارباروسا

كانت هذه الحملة المظفرة هي آخر حملة يقودها خير الدين، فلم تطل به الحياة بعد عودته إلى إسطنبول، وتوفي في (5 من جمادى الأولى 953 هـ = 4 من يوليو 1546م)، مسطرًا صفحة مجيدة من صفحات التضحية والفداء والإخلاص للإسلام، وردع القوى الصليبية الباغية.


سمير حلبي


هوامش ومصادر:

يلماز أوزتونا- تاريخ الدولة العثمانية- مؤسسة فيصل- تركيا (1988م).

عبد العزيز محمد الشناوي- الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها- مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة (1984م).

أحمد توفيق المدني- حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا- الشركة الوطنية للنشر- الجزائر (1976م).

محمد فريد بك- تاريخ الدولة العليا- تحقيق إحسان حقي- دار النفائس بيروت (1403 هـ = 1983م).

محمد حرب- العثمانيون في التاريخ والحضارة- المركز المصري للدراسات العثمانية- القاهرة.