أحمد تمام

سطعت شخصية “صلاح الدين الأيوبي” في سماء القرن السادس الهجري فخطفت الأبصار، وجذبت إليها القلوب، واتجهت نحوها النفوس، واختفى بجوارها كثير من أعلام عصرها من الحكام والسلاطين والأمراء والملوك؛ فعلى يديه ذاق الصليبيون مرارة الهزيمة في “حطين“، وأجبرهم سيفه وشجاعته على تسليم بيت المقدس بعد أن ظل يئن في أيديهم طويلاً، وبحكمته وفطنته تجمعت القوى الإسلامية تحت لوائه ورايته.

ولم يكن بمقدور صلاح الدين أن يحقق كل هذا النجاح أو ينال كل ذلك التوفيق بكفاءته ومهارته وحدهما، أو بعبقريته في السياسة والحرب معًا، وإنما حالفه النجاح؛ لأنه استعان بالأكفاء وذوي الخبرة من الرجال، ولم ينفرد برأي دونهم أو يسمع صوت عقله دون عقلهم، فأضاف إلى قوته قوتهم، وإلى ذكائه مهاراتهم وفطنتهم، وكان “مظفر الدين كُوكُبُوري” من هؤلاء الرجال الأكفاء الذين اتصلوا بصلاح الدين الأيوبي الذي اعتمد عليهم في حركته المظفرة حتى حقق ما حقق من نجاح باهر.

وإذا كان “صلاح الدين” قد استأثر بالمجد والشهرة واهتمام المؤرخين، فإن من حق رجاله الأبطال الذين التفوا حوله أن يلتفت إليهم التاريخ، ويسجل بطولاتهم، ويشيد بإنجازاتهم، ويعطي صورة واضحة المعالم، مكتملة القسمات والملامح.

في مدينة “إربل” كان مولد مظفر الدين كُوكُبُوري في (27 من المحرم 549هـ)، وكلمة “كُوكُبُوري” تركية معناها “الذئب الأزرق”، وقد اشتهر بهذا اللقب تقديرًا لشجاعته وإقدامه. و”إربل” مدينة كبيرة، تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة “الموصل” العراقية، على بعد (80) كم منها.

نشأ “مظفر الدين” في كنف والده “زين الدين علي بن بكتكين” حاكم إربل، وعهد به إلى من يقوم على تثقيفه وتربيته، وتعليمه الفروسية وفنون القتال، ثم توفي أبوه سنة (563هـ= 1167م)، وكان “مظفر الدين” في الرابعة عشرة من عمره، فخلف أباه في حكم إربل، ولكنه كان قاصرًا عن مباشرة شئون الحكم والإدارة بنفسه لصغر سنه، فقام نائب الإمارة “مجاهد الدين قايماز” بتدبير شئون الدولة وإدارة أمور الحكم، ولم يبق لمظفر الدين من الملك سوى مظاهره.

ولما اشتد عود “مظفر الدين” نشب خلاف بينه وبين الوصي على الحكم “مجاهد الدين قايماز”، انتهى بخلع “مظفر الدين” من إمارة “إربل” سنة (569هـ= 1173م)، وإقامة أخيه “زين الدين يوسف” خلفًا لمظفر الدين على إربل.

اتصال بصلاح الدين

اتجه مظفر الدين نحو “الموصل”؛ لعله يجد من حاكمها “سيف الدين غازي الثاني” معاونة صادقة تمكّنه من استرداد إمارته، لكن “سيف الدين” لم يحقق له رغبته، وعوضه عن “إربل” بأن أدخله في حاشيته، وأقطعه مدينة “حران”، فانتقل إليها المظفر وأقام بها تابعًا لسلطان الموصل، وظل يحكم حران منذ سنة 569هـ حتى سنة 578هـ.

في أثناء ذلك ظهر “صلاح الدين الأيوبي” واستقل بمصر، وتطلع إلى قيام دولة واحدة تضم مصر والشام للوقوف أمام الصليبيين وإخراجهم من الإمارات التي أقاموها بالشام وبدأ يعد العدة لهذا الأمر، فانتهز الخلافات التي وقعت في الشام واستولى على “دمشق”، وتطلع إلى غيرها من المدن؛ لتوحيد الصف الإسلامي، غير أن بعض الأمراء كان يدخل في طاعة “صلاح الدين” دون حرب، ومن هؤلاء كان “زين الدين يوسف” أمير إربل، وأخوه “مظفر الدين كُوكُبُوري” أمير حران.

جهاد ضد الصليبيين

بعد أن انفصل “مظفر الدين” عن “الموصل” ودخل في طاعة صلاح الدين وحكمه انفتح له مجال الجهاد ضد الصليبين، وأصبح من العاملين مع صلاح الدين الذي أعجب به وبشجاعته، وثباته معه في ميادين الجهاد، وتحول الإعجاب إلى توثيق للصلة بين الرجلين، فأقدم صلاح الدين على تزويج أخته “ربيعة خاتون” لمظفر الدين.

وقد شارك “مظفر الدين” في معظم الحروب التي خاضها صلاح الدين ضد الصليبيين بدءًا من فتح “حصن الكرك” سنة (580هـ = 1184م) وكان صاحب هذا الحصن “أرناط” الصليبي كثيرًا ما يتعرض للقوافل التجارية بالسلب والنهب.

وفي معركة “حطين” (583هـ = 1187م) التي حشد لها صلاح الدين ثمانين ألفًا من المجاهدين كان لمظفر الدين مهمة بارزة في تلك المعركة الخالدة؛ فقد تولى قيادة جيوش الموصل والجزيرة، وأبلى في المعركة بلاءً حسنًا.

ويذكر له التاريخ أنه هو الذي أوحى بفكرة إحراق الحشائش التي كانت تحيط بأرض المعركة حين وجد الريح في مواجهة الصليبيين تلفح وجوههم، فلما نفذت الفكرة وأضرمت النار في الحشائش حملت الريح الدخان واللهب والحرارة إلى وجوه الصليبيين فشلَّتْ حركتهم عن القتال، وحلت بهم الهزيمة المنكرة.

وكان انتصار المسلمين في هذه المعركة انتصارًا رائعًا فتح الطريق للمسلمين إلى استرداد البلاد الساحلية، ففتحوا طبرية وعكا وقيسارية والناصرة وحيفا، وهيأ لصلاح الدين فرصة تتويج جهاده المتصل باسترداد “بيت المقدس”.

وظل مظفر يشارك صلاح الدين في جهاده حتى تم الصلح بينه وبين “الوليد بن عبد الملك” الخليفة الأموي.

مؤسسات خدمية

أقام مظفر الدين لذوي العاهات دورًا خاصة بهم؛ خصصت فيها مساكن لهم، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتي لزيارتهم بنفسه مرتين في الأسبوع؛ يتفقدهم واحدًا واحدًا، ويباسطهم ويمزح معهم، كما أقام دورًا لمن فقدوا آباءهم وليس لهم عائل؛ حيث يجدون فيها كل ما يحتاجون، حتى اللقطاء بنى لهم دارًا، وجعل فيها مرضعات يقمن برعايتهم، ومشرفات ينهضن بتربيتهم، وأنشأ للزمنى وهم المرضى بالجذام دارًا يقيمون فيها، وزودها بكافة الوسائل التي تعينهم على الحياة الكريمة من طعام وشراب وكساء وعلاج، وجعل لكل مريض خادمًا خاصًا به يقوم على رعايته وخدمته.

وتعدى نشاط مظفر الدين إلى خدمة غير أهل بلاده؛ فبنى دارًا للضيافة في إربل لمن يفِد إليها للتجارة أو لقضاء مصلحة، أو للمسافرين الذين يمرون بـ “إربل”؛ حيث يقدم للضيف كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب، كما زودت بغرف للنوم، ولم يكتف مظفر الدين بذلك، وإنما كان يقدم للضيف الفقير نفقة تعينه على تمام سفره.

وامتد بره إلى فقراء المسلمين في الحرمين الشريفين: مكة والمدينة؛ فكان يرسل إلى فقرائهما كل سنة غذاء وكساءً ما قيمته ثلاثون ألف دينار توزع عليهم، كما بنى بالمدينتين المقدستين خزانات لخزن ماء المطر، حتى يجد سكانهما الماء طوال العام، وذلك بعد أن رأى احتياجهما إلى الماء وما يجدونه من مشقة في الحصول عليه، خاصة في مواسم الحج.

ورأى المظفر أنه مسئول عن الأسرى الذين يقعون في أيدي الصليبيين؛ فلم يتوان في شراء حريتهم، فكان يرسل نوابه إلى الصليبيين لفداء الأسرى. وقد أُحصي الأسرى الذين خلصهم من الأسر مدة حكمه فبلغوا ستين ألفًا ما بين رجل وامرأة.

ظل مظفر الدين يحكم مدينة إربل نصف قرن من الزمان حتى جاوز عمره الثمانين عامًا، ثم وافاه الأجل في يوم الأربعاء (8 من رمضان 630هـ- 1232م) في إربل، وكانت له وصية أن يدفن بمكة، فلما توجه الركب إليها بجثمان مظفر الدين ليدفن بها حالت أمور دون وصولهم، فرجعوا من الطريق ودفنوه بالكوفة بالقرب من مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.