ما لاشك فيه أن الإسلام دين الوحدة , الذي جمع بين الأمم والشعوب المختلفة الأجناس واللغات والألوان , بما قرره من حكم الأخوة الإسلامية , قال سبحانه وتعالى في ذلك { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات 13).

والرسالة المحمدية كانت للناس كافة ، لا لإقليم ولا لجنس ولا لطائفة من الناس , بل كانت عامة للخلق في الدعوة والهداية، خوطب بها الناس جميعا إبان نزول الوحي، وذلك الخطاب دائم إلى يوم القيامة، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء : 107) . وقال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } (التكوير : 27 ) . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (سبإ : 28) . وغيرها من الآيات، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر لبنة في صرح النبوة كما قال سبحانه { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ( الأحزاب 40 ) فلا نبي بعده فرسالته خاتمة الرسالات السماوية.


وقد أتم الله تعالى علينا نعمته بإكمال دينه فقال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } ( المائدة 4 )

وقال سبحانه : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ( النحل 89) , وهذه من أكبر نعم الله تعالى على الأمة حيث أكمل لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره , ولا إلى نبي غير نبيهم صلى الله عليه وسلم , فلا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا دين إلا ما شرعه الله . وأمرنا جل وعلا بالاعتصام بكتابه ، فقال { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } ( آل عمران 103) , وحبل الله تعالى هو كتابه , ومثله السنة , التي حوت كلام نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم .

وقال سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (النساء 59) .

فأوضح لنا القرآن السبيل التي يجب أن نسلكها عندما تختلط السبل، وتفترق الطرق , وتكثر الآراء ، أن نفزع إلى كتابه سبحانه وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأكد هذا بقوله :{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (الحشــر 7) .

وقد جعل الله تعالى القدوة الكاملة للأمة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم , فقال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } ( الأحزاب 21 ) .

فالواجب علينا جميعا أن نقرأ كتاب الله تعالى ونقف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وأن نتدبرهما للعمل بما فيهما من الأحكام , والاعتقاد بما فيهما من العقائد , والتصديق بما فيهما من الأخبار.

وقد ذم الله تعالى أهل الكتابين لكونهم لا يعرفون من كتابهم إلا مجرد القراءة والتلاوة , فقال سبحانه : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد 24 ) .

ولما كانت الأمة الإسلامية متمسكة بدينها , خاضعة لأحكامه، مقتنعة بمبادئه وتعاليمه وأهدافه، مطبقه لشرائعه في جميع الميادين، كانت منصورة بنصر الله تعالى المبين { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحج 40) .
ثم لما تفرقت بهم الأهواء، وكثرت فيهم الآراء وضعف التمسك بالكتاب الكريم والسنة المطهرة والسير على نهج الرعيل الأول من هذه الأمة، ارتفعت عنها الهيبة، وجعلت عليها الذلة، وتكالبت عليها الأعداء من كل جانب، وتداعت عليها الأمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولا بد أن نعلم أن كل رأي خالف الكتاب والسنة المطهرة، فإنه رأي فاسد لا خير فيه، وإذا قُدّر أن فيه خيرا , فإن ضرره أعظم وشره أكبر من خيره , فالحذر الحذر . وما أعظم تلك الكلمة التي قالها إمام من أئمة الإسلام , ألا وهو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة في زمنه إذ قال : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

العصمة في إجماع الأمة

وقد حذرنا الله تعالى من الخروج عن سبيل المؤمنين , ومخالفة إجماعهم , فقال سبحانه : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } (النســـاء:115)

أي : من سلك غير طريق الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمدٍ منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وهذا ملازم للصفة الأولى، فإن المخالفة قد تكون لنص الشارع ، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية , فإنه قد ضمنت لهم العصمة فيما اجتمعوا عليه , كما صح في الأحاديث الشريفة، فإن الله تعالى توعد من فعل ذلك – أي من المشاققة والمخالفة لسبيل المؤمنين – بالنار والعياذ بالله تعالى.

ولا بد من الحذر من الإعراض عن الدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة , والاعتماد على ماليس بدليل ولا برهان , وقد ذكر علماء الأمة من ذلك :

  1. التقليد واتباع الآباء , والرجوع إلى هديهم وطريقتهم ، ورد براهين الرسالة وحجج القرآن، كقول الكفار لما أنكر عليهم عبادة غير الله تعالى { قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } (الشعـراء 74) .
    وقولهم : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ – أي على دين وملة – وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } ( الزخرف 23 ) , فقالت لهم رسلهم : { أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } (الزخرف 24) .
    فالتعصب للآباء سببٌ للإعراض عن الحق واتباع الدليل .
  2. ومن ذلك التعصب للمذاهب وآراء الرجال , سواء ولفقت حكم الشرع أو خالفته، وعقد الولاء والبراء على ذلك، فإن هذا الأمر مما ذاقت منه الأمة الأمرين، وتفرقت به شيعا وأحزابا متنافرة متقاتلة .

والحق : أن أقوال العلماء والرؤساء يحتج لها، ولا يحتج بها عند التنازع والاختلاف، كما قال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النسـاء 59) .
وقال سبحانه : { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ( الأعراف 3 )

وقد عاب الله عز وجل على أهل الكتاب طاعتهم العمياء لأحبارهم ورهبانهم، فقال سبحانه : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ } (التوبة 31) .

وفي سنن الترمذي وتفسير ابن جرير : عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال : يا عدي , اطرح عنك هذا الوثن ! وسمعته يقرأ في سورة براءة { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} (التوبة 31) ، قال : ” أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم , ولكنهم كانوا إذا أحلوا شيئا استحلوه , وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ” .

وقد حذر أئمة الإسلام أتباعهم من تقليدهم دون نظر إلى أدلة الشرع، وكم لقي المنصفون من أهل العلم من العنت والأذى من مقلدة المذاهب ومتعصبة الرجال ممن لم يقتد بأقوال مشايخه المتبعين.

فنسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم , صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا من مفاتيح الخير ومغاليق الشر إنه سميع الدعاء.