جمع بعض من تولوا مشيخة الجامع الأزهر  إلى تخصصاتهم الشرعية واللغوية ثقافة أجنبية، وحملوا أرفع الدرجات العلمية من أرقى الجامعات في أوروبا، وهؤلاء الأئمة هم: الشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ عبد الرحمن التاج، ومحمد الفحام، وعبد الحليم محمود، ومحمد عبد الرحمن بيصار. والأربعة الأول حصلوا على درجاتهم من فرنسا، على حين حصل الأخير على درجته العلمية من إنجلترا، ويلاحظ أنهم -عدا الشيخ الفحام- تخصصوا في الفلسفة والعقيدة إلى جانب ثقافتهم العميقة الواسعة، وأن ثلاثة منهم شرف مجمع اللغة العربيةبانتسابهم إليه، كان من بينهم الشيخ محمد الفحام.

المولد والنشأة

استقبلت الإسكندرية مولد محمد محمد الفحام في (18 من ربيع الأول سنة 1312هـ= 18 من سبتمبر 1894م)، ونشأ في أسرة كريمة عُنيت بولدها، فعهدت به إلى من يحفّظه القرآن ويجوّده، فلما أتمه التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، الذي أنشئ في سنة (1321هـ= 1903م)، ويتبع التعليم فيه نظام التدريس في الجامع الأزهر، وكان يضم نخبة من كبار علماء الأزهر.

وفي المعهد تفتحت مواهب الصغير النابه، ولفت الأنظار إليه حتى إن شيخ الأزهر “سليم البشري” أثنى عليه حين اختبره فوجده مُلمًّا بالنحو فاهما لدقائقه، وكان أساتذته في المعهد يهدونه مؤلفاتهم تقديرا منهم لذكائه ونبوغه، وكان للطالب النجيب إلى جانب نهجه للعلوم العربية والشرعية ولع بالمنطق والجغرافيا، وبلغ من شغفه بالمنطق أن ألّف كتابا في المنطق بعنوان “الموجهات” وهو لا يزال طالبا في الصف الثاني الثانوي، انتفع به زملاؤه في المعهد وظل في المعهد حتى واصل الدراسة بالقسم العالي، ونال “العالمية النظامية” بتفوق بعد امتحان أداه بالجامع الأزهر في سنة (1341هـ= 1922م).

في ميدان التعليم

بعد التخرج عمل “الفحام” بالتجارة فترة من الوقت لضيقه بالقيود الوظيفية، لكن رغبته العارمة في الاشتغال بالعلم جعلته يتقدم لمسابقة أجراها الأزهر لاختيار مدرسين للرياضيات وفاز في المسابقة، وعُين في سنة (1345هـ= 1926م) مدرسا في المعهد الديني بالإسكندرية، وقام بتدريس الرياضيات إلى جانب علوم الحديث والنحو والصرف والبلاغة.

ثم نُقل إلى كلية الشريعة سنة (1354هـ= 1935م) لتدريس المنطق وعلم المعاني، وبعد سنة اختير للسفر إلى بعثة في فرنسا، فسافر إلى هناك هو وأسرته، وطالت إقامته بسبب اشتعال الحرب العالمية الثانية ونجح بجده واجتهاده في أن ينال الدكتوراه من جامعة السربون سنة (1366هـ= 1946م)، وكانت أطروحته بعنوان “إعداد معجم عربي فرنسي للمصطلحات العربية في علمي النحو والصرف”، وقد نالت رسالته إعجاب الأساتذة المستشرقين وتقديرهم لعلمه؛ حتى قال بعضهم له: “ما أظن أنه وطئت أرض فرنسا قدم رجل أعلم منك بالعربية”.

وبعد عودته عمل مدرسا بكلية الشريعة، ثم نقل منها إلى كلية اللغة العربية لتدريس الأدب المقارن والنحو والصرف، ثم انتدب إلى جانب عمله للتدريس بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم عين في سنة (1379هـ= 1959م) عميدا لكلية اللغة العربية، وظل في منصبه حتى أحيل إلى المعاش سنة (1380هـ= 1960م).

عالم رحالة

كان الشيخ محبا للسفر والترحال؛ فسافر إلى معظم البلاد العربية ممثلا عن الأزهر، وزار نيجيريا في سنة (1371هـ= 1951م) بتكليف من مجلس الأزهر الأعلى للوقوف على حال المسلمين، وطالت إقامته هناك خمسة أشهر كان خلالها موضع حب الناس وتقديرهم، وذهب إلى باكستان سنة (1381هـ= 1961م) لوضع المناهج الدراسية لتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية بأكاديمية العلوم الإسلامية والعلوم الشرعية، وفي أثناء إقامته هناك زار الهند واتصل بالهيئات الإسلامية بها، وقابل علماءها، ووثق الروابط بينها وبين الأزهر.

ورحل إلى موريتانيا سنة (1383هـ= 1963م) ممثلا للأزهر لدراسة أحوال المسلمين فيها، والوقوف على حاجتهم إلى المعلمين من الأزهر، وتعددت رحلاته إلى إندونيسيا واليابان وأسبانيا وغيرها، وكان يقول بأنه خرج من حصيلة سفره الكثير إلى بعض بلاد العالم أن المسلمين مقصرون في تبليغ رسالتهم، وأن العالم مستعد لقبول الإسلام لو أحسن القائمون عليه عرضه، وتقديمه لهم بصورة جيدة.

مشيخة الأزهر

وفي (5 رجب 1389هـ= 17 من سبتمبر 1969م) صدر قرار جمهوري بتعيين “محمد محمد الفحام” شيخًا للأزهر خلفا للشيخ “حسن المأمون”؛ فنهض بأعباء المنصب ومسئولياته في ظل ظروف صعبة كانت تمر بها البلاد، فظلال الهزيمة في حرب (1387هـ = 1967م) تخيم على البلاد، والمسئولون يحاولون إعادة بناء الجيش المصري، وتسليحه وتطويره.

وفي الوقت الذي بدأت فيه البلاد تستردّ بعض عافيتها إذا بفتنة طائفية عارمة تشعل نارها أصابع خبيثة تهدف إلى العبث بأمن البلاد، وإحداث الفرقة في نسيج المجتمع، وبدأت بوادر الفتنة بانتشار كتب تبشيرية (تنصيرية) قادمة من بيروت، تدعو إلى أن الإسلام امتداد للمسيحية، وتدّعي كذبًا أن القرآن يؤيد ألوهية المسيح وصلبه، وأن التوراة والإنجيل لم يلحقهما تحريف، وأسرفت هذه الكتب في الكذب، وادّعت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليس رسولا، وإنما هو مسيحي مؤمن بالمسيحية درس السريانية والعبرية، وترجم عنهما الكتاب المقدس، وهذه الترجمة هي القرآن الكريم.

وأحدثت هذه الكتب فتنة عارمة، واضطر شيخ الأزهر إلى عقد اجتماع لمجلس البحوث الإسلامية في (28 من المحرم 1391هـ= 25 من مارس 1971م) لمناقشة الأمر، واتفق المجلس على اختيار خمسة من العلماء للرد على هذه المفتريات، وكان في الشيخ أناة وحلم فمال إلى مواجهة الفتنة بالعلم والفكر.

غير أن الأمور تطورت، وتعصب لهذه الفتنة بعض المسيحيين، واشتعلت مظاهرات في حي “الخانكة” من ضواحي القاهرة، وأطلق المسيحيون النار على المسلمين، وثار المسلمون للرد، وكاد يحدث ما لا لم تُحمد عقباه، وتدخل رئيس الجمهورية “أنور السادات” لرأب الصدع والقضاء على هذه الفتنة العمياء في مهدها، وشكلت لجنة برئاسة وكيل مجلس الشعب لتقصي بواعث الفتنة وأسبابها تمهيدا للقضاء عليها، وكان لشيخ الأزهر يد في معاونة اللجنة ومدها بالآراء التي قضت على الفتنة في مهدها، وتجنيب البلاد ويلاتها، وكان الأعداء ينتظرون مثل هذه اللحظة التي يتمزق فيها وحدة الشعب المصري، لكن الله سلم.

وفي سنة (1392هـ= 1972م) اختير الإمام الأكبر لعضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة، يقدمه لهذه العضوية تمكنه من اللغة العربية وفنونها، ويسبقه إليها نفر كريم من شيوخ الجامع الأزهر، هم: محمد مصطفى، ومصطفى عبد الرزاق، وإبراهيم حمروش، ومحمد الخضر حسين، وعبد الرحمن تاج، ومحمود شلتوت؛ فبين الأزهر الشريف ومجمع اللغة العربية رحم ماس ونسب قريب، فكلاهما يحافظ على اللغة العربية ويعمل على رفعتها.

مؤلفات الشيخ

لم يترك الشيخ الجليل على سعة علمه واتساع ثقافته وعمق فهمه مؤلفات كثيرة؛ فقد شغله التدريس وبناء الرجال عن التأليب والتصنيف، وكانت هذه سمة في كثير من فحول علماء الأزهر؛ لا يُعنون بالتأليف عنايتهم بالتدريس وبناء الطلاب، يجدون في ذلك لذتهم، وكان معظم إنتاج الشيخ بحوثا ومقالات متنوعة نشرها في مجلة الأزهر ومنبر الإسلام ومجلة مجمع اللغة العربية، وله إلى جانب أطروحته بحث نفيس عن سيبويه، ناقش فيه آراء النحو مناقشة عميقة، وكتاب بعنوان “المسلمون واسترداد بيت المقدس” أصدرته الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1970م.

وفاة الإمام

لم تطُل مشيخة الفحام للأزهر، فطلب من المسئولين استعفاءه من المنصب الجليل لرغبته الملحة في الراحة بعد أن كبرت سنه، والمشيخة تحتاج إلى دأب ونشاط رأى أنه ليس في استطاعته أن يقوم بتبعات المسئولية الكبيرة على الوجه الذي يرضيه، فوافق رئيس الجمهورية على طلبه، وصدر قرار منه بتعيين الدكتور “عبد الحليم محمود” شيخًا للأزهر في سنة (1393هـ = 1973م)، وقضى الشيخ وقته في القراءة وكتابة البحوث واكتفى بنشاطه في المجمع اللغوي حتى لقي الله في (19 من شوال 1400هـ= 31 من أغسطس 1980م).


 أحمد تمام


من مصادر الدراسة:

علي عبد العظيم: مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن- مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية القاهرة- (1399هـ= 1979م).
محمد مهدي علام: المجمعيون في خمسين عاما- الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية- (1406هـ= 1986م).
محمد رمضان: تتمة الأعلام للزركلي- دار ابن حزم بيروت- (1418هـ= 1998م).
أحمد عمار: كلمة في استقبال الدكتور محمد الفحام- مجلة مجمع اللغة العربية- الجزء الثلاثون- (1392هـ= 1972م).