من عظيم رحمة الله – تعالى -بنا، وفيض كرمه علينا، وإحسانه إلينا، أن شرع لنا من الدين ما فيه صلاح البشرية وسعادتها في المعاش والمعاد. ولما كان الضعف البشري، والاحتياج الفطري للغير عند بني الإنسان يقضيان بأن يتعامل الإنسان مع أخيه الإنسان في مجالات شتى من الحياة، فقد أولت شريعة الإسلام تنظيم العلائق بين الناس جل اهتمامها، كي تقوم على قواعد مستقرة، وأسس ثابتة تكفل تحقيق ما نشدته الحكمة الإلهية، من تعارف البشر وتحابهم، واستئصال شأفة الخلاف والنزاع، والعداوة والبغضاء.

وحسبنا دلالة على ذلك أن رسم إطار علاقات الناس فيما بينهم يشغل حيزًا يفوق كثيرًا ذلك الذي تشغله العبادات التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه – سبحانه -، سواء في آي التنزيل العزيز، أو في الهدي النبوي الشريف، أو في كتب الفقه الإسلامي.

ولما كانت البيوع أكثر ميادين التعامل تداولا، إذ لا ينفك عنها إنسان في أغلب أيام حياته، ولا يستغني عنها إنسان فقير أو غني، لذا كانت حقيقة بمزيد من الاهتمام، وبتوجيه فائق العناية كي يكون الناس على بصيرة من أمرها، ووضوح في الإقدام على إبرامها.

ومن البيوع التي عرفها الناس منذ القدم، وتعامل بها المسلمون في الخوالي من عصورهم، ما يعرف بـ “بيوع الآجال” وهي التي يكون فيها أحد العوضين مؤخرًا عن مجلس العقد، خروجًا عن الأصول المقررة التي تشترط وجودهما عند الإقدام على إجراء عقد البيع تحقيقًا لمقصود العقد، وحسما لمادة النزاع.

إلا أن الإسلام، وهو دين الواقع ومنهج التيسير ورفع الحرج، رأى أن الحاجة قد تدعو إلى مجافاة القاعدة العامة وصولا لغاية مثلى، وهدف خير ونبيل، فكان أن أجاز تأخير تسليم المثمن أو الثمن عن مجلس التعاقد.

وإذا كان الثمن هو المؤخر، فربما كان تأخيره دفعة واحدة إلى أجل مسمى، أو أن يفرق على دفعات تؤدى في أزمنة متلاحقة معينة، وحين يكون كذلك فهو بيع التقسيط.

وقد شاع هذا النوع في زماننا كثيرًا، وشمِل مختلف السلع دقيقها وجليلها لما فيه من مصالح لكل من البائع والمشتري، ولما كان تأجيل الثمن عن زمان العقد يرافقه زيادة في الثمن تعويضًا للبائع عن تأخير قبضة وحرمانه من استثماره، وإسهامًا من المشتري في تخفيف هذه الآثار مع ما ناله من نعمة تيسير الحصول على ما يحتاجه من السلع رغم ضيق ذات يده..فإن هذا النوع من البيع لا يزال مثار بحث وجدل بين أهل العلم من حيث مشروعيته، نظرًا لما فيه من زيادة في الثمن ربما اشتبهت على بعض الناس بالربا.

ومن ناحية أخرى فإن هذا النوع من البيع تنشأ عنه مشكلات بين البائع والمشتري لما يقتضيه ذلك من تسليم وتسلم وحفظ حقوق، لا سيما أن أحد العوضين – وهو الثمن – يتأخر قليلا أو كثيرًا في تسليمه.

من هنا وجدت الحاجة ماسة إلى إفراد هذه المسألة ببحث يجمع شتاتها، في ضوء خلو المكتبة الإسلامية من دراسة فقهية متكاملة لهذا الموضوع – في حدود معرفتي.

وقد مهدت للحديث عن بيع التقسيط ببيان معناه لغة واصطلاحًا من الناحيتين الشرعية والقانونية، وتوضيح صورته العلمية.

وفي الورقة الأولى بعد التمهيد التالي، بينت مظانَّ هذه المسألة في كتب الحديث والفقه، إذ ليس فيها أبواب مستقلة تتناول هذا الموضوع، وتحدثتُ عن معنى الأحاديث النبوية في “بيعتين في بيعة” و”صفقتين في صفقة” و”شرطين في بيع”… التي هي مظان البحث في هذا البيع، كما وردت على ألسنة علماء الحديث والفقه، والتي نصَّ العلماء على عدم مشروعيتها وحرمتها.

ثم استخلصت من هذه العبارات علة تحريم هذه البيوع، كما ذكرت بالنص أو الدلالة، وعلى ضوء ذلك ذكرت مدى التطابق بين بيوع الآجال ومنها بيع التقسيط وهذه البيوع، مما مهد السبيل لبيان حكم بيع التقسيط.

وفي الورقة الثانية أوضحت آراء العلماء في بيع التقسيط – زيادة الثمن مقابل الأجل – وعرضت لأدلة المجيزين له والمانعين، وقمت بمناقشة هذه الأدلة، ثم بينت الراجح من أقوالهم، كما دعمت ما رجحته بفتاوى نفر من العلماء والهيئات الدينية والعلمية، وببيان مزايا هذا البيع.

وفي الورقة الثالثة تناولت أحكام بيع التقسيط من حيث شروط التعامل به وضوابطه كي يكون طريقًا إلى جلب المصلحة، ودرء مفاسد الغش والغبن والاستغلال.

كما بينت مقتضاه من تمليك وتملك، والأمور التي شرعت صيانة لحقوق المتعاقدين من الإهدار والضياع تجسيدًا لمبتغى الإسلام من العقود، وإطراحًا لما ينافي ذلك ويخلٌّ به.

وفي كل ذلك عمِلت على إيراد رأي القانون الوضعي ما استطعت إلى ذلك سبيلا، إظهارا لأصالة التشريع الإسلامي، وتمييزا لأحكامه، وأن له -إما بأحكامه المباشرة أو باستقرار أصوله الكلية واستجلاء روح تشريعاته- قدم السبق في إرساء نظام وتشريعات سداها الحق والعدل والرحمة، ولحمتها ودقة التنظيم وعمقه وشموله.

وبعد، فهذا جهدي المتواضع بذلته، وسعيي الكليل استفرغته في بيان هذه القضية المهمة، متوجهًا إلى المولى – جل وعلا – بالضراعة أن يكون عملي للحق صائبا، ولوجه الحق خالصا، وأن يجعله -بفضله- في ميزان الحسنات، وأن يمحو بكرمه به الزلات، يوم الندامة والحسرات. والحمد لله رب العالمين.

تمهيد في معنى بيع التقسيط:

أولا: في اللغة:

يُطلق التقسيط في اللغة على معانٍ, منها:

1- التفرق وجعل الشيء أجزاء، يقال: قسَّط الشيء: أي فرَّقه وجعله أجزاء، والدينَ جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة.

2- الاقتسام بالتسوية: يقول الليث: تقسطوا الشيء بينهم أي اقتسموه بالسوية. وفي العباب على القسط والعدل. وفي اللسان على العدل والسواء.

فهو بهذا المعنى تجزئة الشيء إلى أجزاء متماثلة، كتأجيل دين بخمسمائة دينار إلى خمسة أسابيع على أن يدفع منه مائة دينا كل أسبوع.

3- التقتير: يقال: قسط على عياله النفقة تقسيطا إذا قتَّر عليهم. وقال الطرماح:

كفاه كف لا يرى سبيها *** مقسطا رهبة إعدامها

4- والقسط الحصة والنصيب، يقال: تقسطنا الشيء بيننا: أي أخذ كلُّ حصته ونصيبه. ويقال: وفاه قسطه: أي نصيبه وحصته.

ومن خلال استعراضنا لهذه المعاني يظهر أن المعنيين الأول والثاني هما أقربها إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي لبيع التقسيط، فهُما يفيدان أن تفريق الشيء إلى أجزاء على وجه من العدل والمساواة، وإذا كان الشيء المقسط هو الدين فالمراد جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة.

ثانيًا: في الاصطلاح الشرعي:

من المعاني التي يمكن اعتبارها بيانا للمراد ببيع التقسيط في المفهوم الشرعي: “أن يبيع التاجر السلعة مدفوعة الثمن فورا بسعر، ومؤجلة أو مقسطة الثمن بسعر أعلى”.

“التقسيط: تأجيل أداء الدين مفرقا إلى أوقات معينة”.

“الثمن المقسط هو ما اشترط أداؤه أجزاء معلومة في أوقات معينة”.

ويبدو للناظر في هذه المعاني أن بيع التقسيط من المنظور الشرعي هو بيع السلعة بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال، على أن يكون دفع ذلك الثمن مفرقا إلى أجزاء معينة. وتؤدى في أزمنة محددة معلومة.

بين التأجيل والتقسيط

لما وضح لنا في ضوء المعنى الشرعي لبيع التقسيط أن عامل الأجل عنصر أساسي فيه ناسب المقام أن نبين العلاقة بين التأجيل والتقسيط.

فالتأجيل هو تأخير دفع ثمن السلعة إلى زمن مستقبل سواء كان ذلك الزمن شهرا أم عاما، وسواء أكان البائع يقبض الثمن جملة واحدة أم على دفعات. أما التقسيط فهو تأجيل دفع الثمن على أن يقبضه المشتري على دفعات.

وعليه، يمكن القول بأنه يوجد بين التأجيل والتقسيط علاقة عموم وخصوص مطلق، ففي كل تقسيط تأجيل، فالتأجيل هو العموم المطلق، وقد يكون في التأجيل تقسيط وقد لا يكون. فالتقسيط أخص من التأجيل.

التقسيط في القانون الوضعي

ذكر المختصون بالقانون تعريفات متعددة للبيع بالتقسيط منها: “أنه أحد ضروب البيع الائتماني الذي يُشترط فيه أن يكون سداد الثمن على أجزاء متساوية ومنتظمة خلال فترة معقولة من الزمن”.

ومنها “أنه البيع الذي يكون سداد الثمن فيه مجزًّأ إلى عدة أقساط، على أن يكون جزءا من هذه الأقساط لاحقا عل تسلم المشتري للبيع”.

ومنها “أنه العقد الذي يكون موضوعه الاستيلاء على شيء في مقابل دفع أقساط معينة في مدة معينة يصبح المشتري في نهايتها مالكا للشيء”.

ويلاحظ أن المعنى القانوني لبيع التقسيط يتفق مع المعنى الشرعي في وجود عنصر التأجيل في دفع الثمن، وفي كون الثمن على دفعات. إلا أنه أضاف بعض القيود والشروط التي لم ترد في المعنى الشرعي منها:

1- اشتراط تساوي المقادير التي يلتزم بها المشتري للبائع في كل دفعة.

2- اشتراط أن يكون الانتهاء من سداد الثمن الكامل للسلعة في مدة زمنية معقولة.

3- اشتراط أن يبدأ دفع أول الأقساط بعد قبض المشتري للسلعة.

4- تقييد انتقال ملكية المشتري للسلعة بدفعه كامل الثمن في نهاية مدة الأجل اللازم لدفع الأقساط. وسوف تكون هذه الشروط وغيرها موضع بحث وتحليل ومناقشة في ضوء حكم الشرع، عند بحث أحكام بيع التقسيط وشروطه في موضع لاحق من هذه الدراسة.

صورة المسألة الفقهية

أن بيع التقسيط يحقق مصلحة تعود على كل من البائع والمشتريº إذ تتمثل مصلحة البائع في تيسير السبل، وفتح الأبواب لإنفاق سلعته، أما المشتري فتظهر مصلحته في حصوله على السلعة التي تمس حاجته إليها، ولا يملك ثمنها في الحال، بأن يدفع ذلك الثمن مؤجلا على دفعات تتناسب وقدراته المالية، علاوة على ما يعطيه الأجل من فرصة لإنماء المال أو كسبه فيدفع الثمن دون عنت أو إرهاق.

وعلى هذا، فصورة بيع التقسيط -الذي أخذ طابعا من الشيوع والانتشار في عصرنا- تتم بأن يقصد المستهلك -لا سيما صاحب الدخل المحدود الذي يحتاج إلى سلعة تسد حاجة من حاجاته أو توفر له أسباب العيش الكريم، أو تجلب له الكسب والنماء أحيانا من غسالة أو ثلاجة أو سيارة وغير ذلك من الأدوات والآلات الكهربائية والميكانيكية والأثاث- يقصد التاجر الذي يبيع هذه الأدوات بالتقسيط فيخبره بثمنها إذا أراد أن يدفع حالا وثمنها إذا أراد أن يدع مقسطا، وهو بطبيعة الحال أعلى من الثمن الحال، فإذا ما اختار المشتري الثمن المؤجل المقسط وتم الاتفاق على ذلك كانت تلك صورة بيع التقسيط الذي نحن بصدد الحديث عنه.

د. محمد عقلة الإبراهيم