يُعَدُّ كتاب “أطلس الحضارة الإسلامية” من أعظم وأنفع وأعمق الكتب التي اعتنت بالحضارة الإسلامية، وتحدثت عنها بمنهجٍ جديدٍ، استطاعت من خلاله أن تُقدِّم زبدة هذه الحضارة العريقة في سِفْرٍ جديرٍ بالعناية والاهتمام. وقد ألف هذا السِّفْر العظيم الدكتور إسماعيل الفاروقي (1921-1986م)، وزوجته الدكتورة لمياء الفاروقي (ت: 1986م)، وقام بترجمته من اللغة الإنجليزية إلى العربية الدكتور عبد الواحد لؤلؤة أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الزيتونة الأردنية، فيما قام بمراجعته الدكتور رياض نور الله.

ولعل مما يُميز هذا المصنف عن غيره من المؤلفات الأخرى التي اهتمت بالحضارة الإسلامية، أن صاحبنا إسماعيل الفاروقي تجوّل بين القارات الأربع: آسيا، وأوروبا، وأمريكا، وإفريقيا، فسمح له هذا التطواف بمعرفة الشعوب والحضارات عيانا ومعايشة “وليس من سمع كمن رأى”، هذا بالإضافة إلى أن الفاروقي يُتقِن ثلاث لغاتٍ، هي: العربية، والإنجليزية، والفرنسية، وكان ضليعًا بعلم الأديان، مع معرفةٍ واسعةٍ بالثقافة الإسلامية، ما أتاح له فرصة الاطلاع على كمٍ هائلٍ من المصادر المختلفة، فبذل جهده في التنقيب في تلك المصادر عن تاريخ الحضارة الإسلامية، فأخرج لنا هذا الكنز الثمين.

السِّفْرُ اليتيم

وُلِد هذا السِّفر المتميّز جدًا “يتيم الأبوين” حسب تعبير هشام الطالب، الذي كتب مقدمةً جميلةً لهذا المصنف الكبير النموذجي، أشاد فيها بالدكتور الفاروقي، واعتبره من “القلة النادرة المؤهلة للكتابة عن الحضارة الإسلامية، وذلك لأسباب جغرافية ولغوية وعلمية وحياتية ودينية”[1].

تشير جملة “يتيم الأبوين” -التي استخدمها هشام الطالب- إلى استشهاد المؤلفين (الدكتور إسماعيل الفاروقي، وزوجته: الدكتورة لمياء الفاروقي)، في رمضان 1986م؛ والكتاب وقتها عند المطبعة. تمت عملية اغتيال هذَيْن العقلَيْن الكبيرَيْن من طرف مجموعةٍ غادرةٍ حاقدةٍ دخلت بيت الأسرة العلمية (في أمريكا)، وقامت بطعن أفرادها الثلاثة بالسكاكين، فتوفيت على الفور لمياء ثم إسماعيل، وأصيبت البنت (أنمار الزين) بطعناتٍ بالغة “لكن الله سلم”، وخرجت “أنمار” من الصدمة لتروي الحادث كشاهد عيان ملطخ بدماء الجريمة البشعة الأليمة، التي حرمت المؤلفَيْنِ من رؤية مولودهما في رفوف المكتبات العالمية.

سبب الاغتيال

يُرجع البعض سبب اغتيال العملاق الكبير إسماعيل الفاروقي وأسرته إلى التأثير الكبير في الحقل العلمي، فقد كان إسماعيل الفاروقي -الباحث والمفكر الفلسطيني المتخصص في مقارنة الأديان- مدافعاً عن القضية الفلسطينية بحق، وقد سلّ سيف العلم والبحث في وجه الصهيونية، وفضحها أمام العالم من خلال المعرفة، لذلك كان لا بد من التخلص منه سريعاً، باعتباره شخصًا علميًا موسوعيًا مهددًا للصهيونية، فهو خريج المدارس اليسوعية المسيحية الفرنسية، والجامعات الأمريكية، بالإضافة إلى الأزهر الشريف.

وعلى سبيل الإيضاح، سننقل هنا كلامًا للدكتور علي إبرهيم نملة يوضح سبب الاغتيال، يقول نملة: “وقبل مقتل الفاروقي بأسبوعين نشرتْ مجلةٌ تُدعى (صوت القرية) تحقيقًا مع رئيس رابطة الدفاع اليهودي؛ ذكر فيه أنه ورابطته بصدد زرع الخوف في أذهان وعقول أعداء اليهودية الصهيونية، وأنه بصدد (إسكات) أحد الأساتذة الفلسطينيين الأمريكيين الذين يدافعون عن فلسطين وعن منظمة التحرير الفلسطينية”[2].

منهج الكتاب

جاء في مقدمة الكتاب أن الباحثين الغربيين والمسلمين الذي اهتموا بالتأليف في مجال الحضارة الإسلامية كانوا يعتمدون منهجَيْن مختلفَيْن، حيث كان الباحثون الغربيون يميلون إلى منهج الترتيب الإقليمي، في حين كان الباحثون المسلمون يفضلون الترتيب الزمني، لكن إسماعيل الفاروقي لاحظ أن هذَيْن المنهجَيْن يكشفان “عن قصورٍ شديدٍ، لإهمالهما جوهرَ الثقافة والحضارة الإسلامية”[3]، إذ يهمل كل واحد منهما جانبًا معنيًا من الجوانب المهمة في دراسة الحضارات.

وقد وجد الفاروقي علاجَ هذا القصور المنهجي في تطبيق “الطريقة الظاهراتية، التي تتطلب من المراقب أن يترك الظواهر تتحدث بنفسها عن نفسها دون أن يقحمها في إطار فكري مقرر سلفًا”[4]، فجاء كتابه كأول كتابٍ يقوم بتطبيق هذا المنهج في دراسة الحضارة الإسلامية، وقد عكست أقسامُ الكتاب قدرةَ إسماعيل الفاروقي على تطبيق “الطريقة الظاهراتية” بشكلٍ واضحٍ، وقارئ الكتاب سيلاحظ ذلك.

تضاريس الكتاب

قام المؤلفان بتوزيع الكتاب إلى أربعة أقسامٍ رئيسيةٍ تحتوي على 23 فصلًا، وقد كان القسم الأول بعنوان: “السياق”، ويتحدث عن السياق الذي ولدت فيه الحضارة الإسلامية، من خلال الحديث عن “مهاد العرب”، و”اللغة والتاريخ”، و”الدين والحضارة”، في حين يحمل القسم الثاني عنوان: “الجوهر”، ويتحدث عن “جوهر الحضارة الإسلامية”، وقد في جاء في ديباجة هذا القسم “أن جوهر الحضارة الإسلامية هو الإسلام، وأن جوهر الإسلام هو التوحيد”[5]، والتوحيد بوصفه جوهر الحضارة له بُعدان؛ هما: “المنهج والمحتوى”[6].

أما القسم الثالث فحمل عنوان: “الشكل”، ويتحدث عن شكل الحضارة الإسلامية، من خلال أربعة فصولٍ رئيسيةٍ، تتحدث عن “القرآن”، و”السنة”، و”الأركان والمؤسسات”، و”الفنون”، في حين حمل القسم الرابع عنوان: “التجليات”، ويتحدث عن تجليات الحضارة الإسلامية، من خلال 15 فصلًا، تتحدث عن “نداء الإسلام”، و”الفتوحات وانتشار الإسلام”، و”العلوم المنهجية”، و”علوم القرآن”، و”علوم الحديث”، و”القانون”، و”علم الكلام”، و”التصوف”، و”الفلسفة الإغريقية”، و”نظام الطبيعة”، و”فنون الأدب”، و”فنون الخط”، و”الزخرفة في الفنون الإسلامية، و”فنون المكان”، و”هندسة الصوت أو فن الصوت”.

****

وقبل أن نطوي صفحة هذه المقالة، لا بد لنا أن نقول إن هذا الكتاب موسوعةٌ قيّمةٌ جدًا، تعكس الحضارة الإسلامية بمنهجيةٍ جديدةٍ، وقد تم تأليفه من قبل شخصَيْن نموذجيَيْن، لهما باعٌ كبيرٌ في البحث العلمي والاطلاع، وتجربةٌ طويلةٌ في التأليف، لذلك يمكننا أن نجزم أن قارئ الكتاب لن يندم على الوقت الذي سيقضيه متجولاً بين صفحات هذه الموسوعة القيّمة جداً، وبتجواله هذا سيكون قد اطلع على جوانب مهمة من تاريخ حضارته التليدة، وقام بإحياء تراث هذا الرجل الموسوعي.

رحم الله العملاق إسماعيل الفاروقي وزوجته، وأدخلهما فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


  1. إسماعيل راجي الفاروقي، لمياء راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، الرياض: مكتبة العيبكان 1998م، 13.
  2. علي بن إبراهيم النملة، إسماعيل راجي الفاروقي.. رجلٌ فقدته القضيَّة، وانظر أيضًا: ماهر فرغلي، إسماعيل الفاروقي.. مرعب الصهاينة الذي قتله “يهود أمريكا”، مقالان منشوران على الإنترنت.
  3. إسماعيل راجي الفاروقي، لمياء راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، 25.
  4. الفاروقي، المرجع نفسه، 25.
  5. الفاروقي، المرجع نفسه، 131.
  6. الفاروقي، المرجع نفسه، 134.