تحمل الكتابة الأدبية عدة قضايا، أولها: الوعي بالمستقبل بوصفه قضية إنسانية؛ لأن المستقبل هو جزء من كينونة الإنسان التي تتحرك دوما بين قطبين: الماضي وما به من خبرات توجه الأنا، وتشكل ملامحها الأساسية، والمستقبل وهو الأفق التي تتجه إليه اللحظة الراهنة.

والإنسان في الحقيقة يعيش في المستقبل القريب؛ لأن الحاضر لا يمكن الإمساك به، والمستقبل هو جزء من الزمان، ولذلك فإن دراسة المستقبل تتداخل في حقول معرفية وفلسفية عديدة، فهو موضوع هام في فلسفة التاريخ، لأنه يدرس الآفاق المحتملة لتطور المجتمعات والحضارات الإنسانية، وهو موضوع أساسي أيضًا في فلسفة العلوم التي تدرس التنبؤ العلمي لكثير من الظواهر، ودراسة المستقبل هي دراسة لأفاق التنبؤ الإنساني؛ لأن دراسة المستقبل ليست آراء فحسب، وإنما هي تحليل لطرائق التفكير في المستقبل

الأدب والمستقبل

وثانيها أن الأدب قد اهتم بتصوير آفاق المستقبل الإنساني وصوره، وهذا سوف يتاح له وقفه خاصة؛ لأن الأدب قام بدور في التنبؤ بالمستقبل في مجالات عديدة، ولذلك فإن تعريف فلسفة المستقبل هو دراسة المبادئ التي يقوم عليها تصورنا للمستقبل.

وثالثها وهذا ما يهمنا في هذه المقالة، وهو مستقبل الأدب والكتابة وأشكالها في عصر الاتصالات الراهن.

والموضوع الثاني: صور المستقبل في الأعمال الأدبية، هو دراسة “في” الأدب، وقراءة للخطاب الأدبي حول “المستقبل” وعلومه، والموضوع الثالث دراسة “عن” الأدب والكتابة وصيرورتهما في الحياة المعاصرة، وموقعه من الحياة اليومية، وهذا معناه دراسته من جانبين: جانب داخلي خاص يتصل بأهمية الأدب في حياة الكاتب والقارئ، ودوره في إضاءة الحياة والوجود، وجانب ظاهري يتجسد في الوسيط الجمالي “اللغة المكتوبة”، والتساؤل هو هل تصمد الكتابة لعصر هيمنة الصورة؟ التي تكتسح كل شيء بإبهار وطغيان كبيرين؛ لأننا في عصر الأقمار الصناعية والإنترنت.

الكتابة بين القارئ والكاتب

يتحدد مفهوم الكتابة في أي نص من خلال تحليل البناء التركيبي لهذا النص؛ لأنه يفصح عن إجابة عن سؤال صعب، وهو لماذا نكتب؟ فالأسلوب والشكل والوحدات الصوتية وبناءات المعني والدلالة، كل هذا يحدد لنا العالم الذي يريد الكاتب أن ينقله، وبالتالي يمارس تأثيره فينا.

والكتابة هنا هي فعل لقراءة الوجود، والقارئ يفعل الشيء نفسه؛ لأنه يعيد بناء النص على النحو الذي يساعده في تقديم فهمه الخاص للعمل الأدبي، فالنص لدى الفنان الأديب يقوم علي إرسال رسالة ما من خلال شفرة خاصة هي اللغة، وبالتالي فالمتلقي يقوم من خلال قراءته واستقباله لها بحل هذه الشفرة، وإعادة تركيبها في سياق بنائي يساهم في كشف أبعاد جديدة لم تكن متاحة له من قبل.

والكتابة والقراءة كلاهما عملية تشبه عملية نظر الإنسان إلى نفسه في المرآة، فهو يقرأ في صورته ما يريد من خلال العناصر المتاحة، والأدوات التي يمتلكها الأديب

ودخول الأيديولوجيا إلى عالم الكتابة جعل الكتابة تتحول إلى أداة للدعاية والتزييف للحقائق وقلب الرؤية، بحجج واهية يختلقها المرء؛ لكي يكتب المرء ما يريد عن قصد؛ وذلك لأن نشاط القراءة فعل تأملي، بينما الكلام فعل منخرط في الانفعال المرتبط بالمثيرات التي تحيط بنا في أثناء الفعل.

ولا يمكن أن ننكر أن الكتابة تعبير عن الذات، في محاولة تحققها الوجودي في العالم، والكتابة محاولة للفهم من أجل تفسير ما يحيط بنا من عوالم مختلفة، فيعيد الكاتب إنتاج ما يحيط به من عناصر مشتبكة من خلال ما يكتب لكي ينقل إلينا هواجسه وأحلامه.

ويتأرجح الأديب بين فضاء ين: فضاء المطلق الأدبي الذي يرجع إلى تقدير ذات الكاتب، فيكتب لحل ما يعن له، والفضاء الثاني هو فضاء الواقع الاجتماعي حيث يجعل الكاتب من تجربته في الكتابة محاولة للإجابة عن أسئلة يطرحها عليه الواقع أو تطرحه عليه تجربته في الحياة اليومية، وكلما اتسع مجال الحرية في الكتابة كان الكاتب أمينا مع نفسه.

ويسهل على القارئ المتمرس اكتشاف الكذب والزيف، ولكن إذا كانت مساحة الحرية الممكنة محدودة للغاية فإن هذا يؤدي إلى ذيوع الكذب والزيف، وقد أدى هذا إلى انتشار الكاتب الذي يمكن أن نطلق عليه لفظ “مؤسسة”؛ لأنه يكتب أو يستكتب من قبل جهات كثيرة ويريد أن يملأ صفحات كثيرة دون أن يكون لديه وقت لكي يتساءل عن أهمية ما يكتب؟ ولماذا؟ وكيف؟ لأنه مشغول بذاته على نحو يجعل من الكتابة نوعًا من الاستدعاء من الذاكرة، وليست نوعا من الإبداع الحي، ولذلك تولد كتابته ميتة.

بينما نجد الكتابة الحية تجعلنا نشعر أشبه ما يكون بولادة جديدة توقظ الحواس والقلب والمشاعر، وتجعلنا نقترب من حقيقة الوجود الإنساني، وهذه الكتابة لا تبدأ من تصنيفات جاهزة، وإنما تستخدم كل إمكاناتها للتعبير عن التجربة التي تريد تقديمها، وتستخدم عناصر بصرية وسمعية لاستثارة القارئ، وإضاءة التجربة التي يريد تقديمها.

مستقبل الكتابة

مستقبل الكتابة أصبح مرتبطًا بنوع الحياة التي يحياها الإنسان في مرحلته الحالية، ولعل تأمل أشكال الكتابة يبين لنا كيف أن هناك علاقة متبادلة بين أشكال الأدب والسمات الثقافية والروحية السائدة، ولذلك تعرض فن القص في العقود الأخيرة إلى عملية تغيير، حولته من فن بسيط إلى فن يستوعب أدق الخبرات الإنسانية في صورة تقترب من الفنون الأخرى كالموسيقى التي لا ترتكز إلى معان جاهزة بقدر ما تثير في المتلقي خبرة خاصة، وأصبح الكاتب يلجأ إلى تقنيات عديدة في نصه، بحيث يجعل القارئ يكمل المشهد بخياله الذي يتيحه النص الأدبي.

وهذا التغيير في فن القص يشبه التغيير الذي حدث في تقنيات السينما المعاصرة، فلم يعد يمكننا تصوير الحركة المعروفة سلفًا، ويكفي بدايتها للانتقال لما يليها، ولم يعد التتابع المنطقي مألوفًا في السينما المعاصرة، وإنما لا بد أن يكون هناك منطق داخلي للعمل الفني كذلك الأمر بالنسبة لفن القص، الذي ظهرت فيه اتجاهات عديدة تحاول تقديم تقنيات حديثة للتعبير عن جوانب خفية من الواقع الإنساني الذي لا يخلو من السحر.

وهذه الكتابة تُعنى بتقديم المورثات الشعبية المختلفة المتضمنة في الواقع، هذا الموروث مستمد من أساطير الواقع، وآلياته السحرية، وفيه يتم الإلحاح علي إبراز اللامرئي الذي يؤثر في سلوك الفرد والجماعة ويحدد طبيعة العلاقة التي تشبه الحبل السري الذي يربط الفرد بجماعته البشرية.

وتحاول الكتابة تقديم الواقعية النفسية، ويقصد بها تحليل المخزون النفسي للإنسان، وحالاته المختلفة، حتى لو كان التناثر أو الجنون ذاته وذلك من خلال لغة خاصة لها منطقها الخاص الذي يحيل الأشياء إلى صور وشفرات مرتبطة بحالات الفرد ، وكذلك نجد بعض الكتابات التي تتجه إلى ما يسمى الواقعية البنائية التي تعيد بناء العالم القصصي من خلال العناصر المستمدة من البيئة الحية بعد أن تدخلها في علاقات جديدة.

اتجاهات الكتابة المعاصرة

والكاتب المعاصر يستفيد من هذه الاتجاهات مجتمعة في أعماله الأدبية، ويستفيد من تقنياتها في بناء نصه الأدبي؛ ولذلك فإن تصنيف الأعمال الأدبية هي حيلة نقدية تريد الاستسهال بدلا من الكشف عن أعماق النص، هناك اتجاهات أخرى قدمت أشكالا جديدة لم يألفها القارئ العربي حتى الآن، مثل استخدام الجنس أو السياسة والدين في بناء مغاير لما هو مألوف بهدف إحداث صدمة لدى المتلقي.

وهذه الاتجاهات تستخدم تعبيرات وجملاً لغوية مستمدة من الحياة اليومية بشكل مباشر، ويزعم أصحاب هذه الاتجاهات أنهم يريدون التعبير عن “القبح” الذي يملأ الحياة المعاصرة، ويضاد كل ما هو إنساني، ويأنف الحس المتأنق لدى البعض، وقد دخلت هذه التعبيرات العادية في نسيج النص القصصي، بل إن تجسيد العادية أصبحت هدفًا في حد ذاته، من أجل هدف جمالي هو تقديم رؤية مختلفة للواقع والإنسان والعالم.

وقد لقي هذا الاتجاه هجومًا عنيفا من النقاد التقليدين الذين وصفوه بالقبح والابتذال، ولكن المدافعين عنه يقولون: إن هؤلاء لم يدركوا القوة التعبيرية الكامنة فيه؛ لإظهار بعد جديد من أبعاد الواقع، وهذا ما نجده لدى كثير من الكتاب الجدد حين يلجئون لاستخدام اللغة الدارجة في السرد والوصف.

ومن الاتجاهات التجريبية الحالية الاتجاه الذي يتعامل مع اللغة بوصفها المادة الأولى للقص، وفيها يتركز كل الخطاب الأدبي، ورسالة القص وهدفه، ويعمل هذا الاتجاه علي إبداع الكلمة كهدف في حد ذاته، وليست بوصفها وسيلة أو أداة للعمل الأدبي.

وهناك اتجاه آخر يرى في الأشياء التي تحيط بالإنسان معاني داخلية ومهمة الأدب الكشف عن معناها العميق، ويتمثل هذا في الحرص علي تصوير ظاهر الأشياء وتقديم جماليات المكان، ويتم هذا عن طريق إضفاء الصفة البشرية على الأشياء والطبيعة والكون، وفي هذا النوع من القص لا يحاول القاص اللجوء إلى الصور المجازية، وإنما يحاول التغلغل داخل الأشياء التي ترتبط بحواس الإنسان مثل رواية العطر؛ حيث تزداد كثافة حضور العطور والروائح أكثر من الحضور الإنساني نفسه.

وهناك اتجاه آخر يستفيد من الأجناس والأنواع الأدبية الأخرى في تكوين نص عبر هذه الأنواع: القصيدة، والفن التشكيلي، والموسيقى، ويتجاور هذا الاتجاه مع اتجاهات تحاول التعبير عن اللامنطقي في الواقع هذا النوع على الرغم من تجريديته؛ فإنه أكثر التصاقا بقضايا المجتمع؛ لأنه يحاول أن يجد طرقا للتعبير عما نعجز عن التعبير عنه.

ولا يمكن حصر كل الاتجاهات الأدبية هنا، ولكن ما نريد بيانه أن الكتابة الأدبية أصبحت أكثر التصاقا بقضايا الإنسان، وآلية من آليات الفهم الإنساني وانعكاسا لتجربة إنسانية يريد الأديب أن يفهمها من خلال الكتابة، فالأدب أشبه ما يكون التفكير في المستقبل من خلال نموذج قوامه اللغة.

د. رمضان بسطاويسي