الإسلام جاء ليشد على أهمية صلة الرحم وضرورة صيانتها والحفاظ عليها، ولكن المجتمع المسلم خاصة والمجتمع الإنساني بوجه عام يعاني من إصرار جماعة من أبنائه على قطع أرحامهم، وهم لا يدرون أنهم بهذا يهددون النسيج الاجتماعي الإسلامي، ويساهمون في تمزيق الرحم وتقطيع أواصره. ومما يزيد الأمر سوءا أن هذه الفئة وجدت في الأعذار التي ساقتها لهم عقولهم مبررا مقبولا -لديهم- فهلا تنبه هؤلاء إلى خطر ما يظنون، وسوء ما يقترفون؟!، قبل أن يداهمهم الموت الذي يأتي بغتة.

فقد خلق الله الرحم لتقرب بين المسلمين، وتكون شاهدة عليهم يوم القيامة، فيُحرم قاطعها من الجنة، وتشفع لواصلها عند الرحمن. يقول الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: 22). ويقول الرسول : “اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة: قاطع الرحم، وجار السوء”.

ومقام الرحم عند الله كبير، فهي دالة على من يحب الله ورسوله، فقد قال رسول الله : “إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة. قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك”.

لكن هناك بعض النماذج الواعية التي تفهمت دور صلة الرحم في السلامة النفسية والاجتماعية للأسرة والمجتمع، وهذا التحقيق يسلط الأضواء على الدور المفقود لصلة الرحم في المجتمع المسلم، سألناهم عن صلة الرحم في حياتهم، وأين هي من قلوبهم؟، فتحدث إلينا بعضهم، بينما ولّى أكثرهم هاربا!.

فلسطين.. السؤال مؤلم جدا

بشيء من الألم، جلس أبو صالح (40 عاما) يروي الحكاية: “كانت علاقتي بأرحامي تسير على أحسن وجه، وذات يوم اختلفنا على الميراث، وقاطعت أختي الوحيدة رغم حبي الشديد لها، وكانت ترسل في طلبي لأراها، وكنت أرفض إلى جانب منعي إياها وأبنائها من دخول منزلي”.

ويتنهد طويلا قبل أن يتابع: “وبعد خمسة أعوام مرت كالسحاب، جاء خبر وفاتها إثر حادث مروري. وساعتها هل ينفع البكاء أو يجدي العويل؟”.

وبصوت اعتلت نبراته مسحات الخجل، اعترف لنا التاجر “أبو خالد 54 عاما” أن صلة الرحم غائبة في حياته. وواصل اعترافه: ” نعم أنا مقصر، ولكن الأمر ليس بيدي فهناك ما يقف حائلا بيني وبينهم”.

ولما سألناه عن هذا العائق أجاب: “لا وقت لدي فأنا مشغول على الدوام في الليل والنهار، عملي يلتهم الساعات والدقائق”. غير أن أبا خالد لا ينفي أن ما يفعله يشعره بالذنب وتأنيب الضمير. وأكد أنه يتمنى أن يجد مساحة من الوقت، ليزور أخواته وخالاته وعماته وبقية أرحامه.

وإن كان أبو خالد قد قدم لنا عذرا، لم يكن أمام الحاج سليم الغفري (56 عاما) أية مبررات لأن يقطع رحمه. ويشير: “لا أزور أحدا ولا أحب أن أذهب لدار أحد. وفي المناسبات الدينية كرمضان والأعياد أبعث أولادي نيابة عني”.

ويسوق الشاب المهندس رامي أبو شعبان (23 عاما) مبرر ثورة التكنولوجيا، ليعلل غياب صلة الرحم في حياته. فيوضح: “بدلا من أن يذهب أحدنا ليزور عمته أو خالته أو أخته، يدخل على شبكة الإنترنت ليبحر في عالمها الفسيح أو يجلس على الفضائيات بالساعات؛ وبالتالي لا يجد أمامه متسعا ليفكر حتى بمن يحيطون حوله. وطبعا أنا لا أؤيد ذلك، ولكن لنعترف أن وسائل الإعلام باعدت كثيرا بين الأسرة الواحدة، فكيف بالعائلة والأقارب؟!”.

من جانبها رفضت الطالبة الجامعية لينا الطويل، ما يسوقه البعض من مبررات لتعليل قطعهم لأرحامهم وقالت: “للأسف كثير من الناس يتهاونون في مسألة صلة الرحم، وللأسف أيضا أغلبهم يعلم حرمة ما يفعلون وأنهم آثمون”. وبغضب تساءلت: “أين الرحمة في قلوب البشر؟ لماذا غابت وإلى متى سنبقى نسوق مبررات لا يقبلها عقل أو منطق؟”.

رافعا شعار “صلة الرحم تسكن قلبي”، قدم لنا المواطن حامد النمرة (47 عاما) نموذجا إيجابيا لخصه مؤكدا: “أختلق الوقت لأزور أخواتي وعماتي وخالاتي وكل أرحامي. وما أجمله من شعور عندما تتيقن بأنك تقوم بواجب يقربك من الله عز وجل، وأنه سيرضيك في الدنيا والآخرة. كما أنها تجلب البركة في العمر وفي المال، وعلى المسلم أن يحرص ما استطاع إلى ذلك سبيلا”.

وأشار “النمرة” إلى أن لصلة الرحم مفعولها السحري في نشر الحب والتآلف والإخاء في قلوب الناس وبين أفراد المجتمع، وهذا ما لمسه في حياته الشخصية.

أما أم خالد عبد العال، فأكدت أنها تشجع زوجها وأولادها على صلة أرحامهم: “ربما في فلسطين وضعنا خاص حيث الإغلاقات والحواجز، ولكن هذا ليس بعذر. على الأقل فلنسأل عنهم بالهاتف، لنطمئن عليهم ونشعرهم بأننا وهم على تواصل، وأنهم في قلوبنا مهما زادت مشاغل الحياة”.

المغرب.. بقايا الخيط الأبيض!

لا زالت مجتمعاتنا بخير، ولا زالت بقية من الناس تبغي الود، وتسعى لذلك في كل مناسبة وحين، ومهما ازدادت العلاقات تأزما وتفسخا فإن “الصلح خير”، و”لا تقطع من قطعك”.. هذه الشعارات لا زالت تنير طريق العديد من الناس في المغرب.

فقد اعتاد المغاربة بمجرد الإعلان عن ثبوت رؤية هلال رمضان، أن تنطلق سلسلة من الاتصالات الهاتفية بالأقارب أو الأصدقاء البعيدين لمباركة رؤية الشهر الكريم، بعدة صيغ من أشهرها باللهجة الدارجة المغربية: “عواشركوم مبروكة”.

وفي المساء قبل أذان المغرب -أول إفطار في رمضان- تنطلق عملية تبادل الزيارات العائلية، بحيث في الغالب يجتمعون في “الدار الكبيرة” -دار الأبوين- وفي حالة وفاتهما يجتمعون في دار الابن الأكبر، للمشاركة جماعيا في مائدة الإفطار.

تقول السيدة ليلى وهي ربة منزل: “دائما ومنذ 4 سنوات من زواجي نحرص أنا وزوجي على أن نفطر الأيام الأولى من هذا الشهر المبارك مع عائلتي كما هو حال كثير من الأسر المغربية”.

ويسعى آخرون خلال هذا الشهر العظيم أو بمناسبة الأعياد إلى مصالحة العائلات أو الأفراد المتخاصمين، وبذلك جرت عادة عدد من الأسر المغربية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.

ومن الأسباب التي قد تؤدي إلى قطيعة الرحم بالمغرب ولسنوات طويلة: زواج الأقارب. وتبدأ المشكلة عندما تتدخل أطراف عائلية للزوجين في الحياة الشخصية لهما، وخاصة إذا صادف ذلك أن يكونا الشابين ضعيفي الاستقلالية الذاتية سواء في تفكيرهما أو تدبيرهما المعاشي. مما يحكم على تلك العلاقة الزوجية بالنهاية.. وليست أية نهاية!! بل إن أرحاما تقطع بسببها وتستمر لسنوات عديدة.

تتأسف الأستاذة زهور الحر -قاضية ورئيسة قسم قضاء الأسرة بالدار البيضاء- على غياب بوادر الصلح بين الناس، أو ما كان يسمى في مجتمعنا لعهد قريب “الخيط الأبيض”، ذاكرة: “أتأسف لغياب ما كنا نسميه الخيط الأبيض في المنازعات والمخاصمات، هذا الوسيط سواء كان رجلا في العائلة أو في القبيلة أو الحي نفتقده اليوم.

بل أصبح محله خيط أسود لا يزيد المشاكل إلا تأزما. هناك نزاعات عابرة سطحية يمكن أن تحل بالحكمة والصلح. لكن أصبح اليوم تدخل بعض الأطراف -ربما يكونون من العائلة- لا يزيد الطين إلا بلة. ونحن أحيانا في “مجلس العائلة” للصلح على مستوى القضاء، نضطر إلى إبعادهم من حضور الجلسات.

بريطانيا .. المساجد منتدى اجتماعي

يشير الشيخ ونيس المبروك أستاذ الفقه بالكلية الأوربية للدراسات الإسلامية جامعة ويلز، في بداية حديثه، إلى أبرز الوسائل التي يتواصل بها المسلمون في الغرب، قائلا: “تتعدى المساجد في الغرب كونها دورا للعبادة، ولكنها تمثل منتدى اجتماعيا أيضا. وتلعب المناسبات دور الأسد في لم شمل الأقارب، وخاصة المناسبات السارة كالعقيقة والزواج. وتفسح الأندية الرياضية للالتقاء والحوار بين المسلمين.

ومن أبرز وسائل الاتصال بين المغتربين وأقاربهم في موطنهم الأصلي: التليفون والإنترنت وبطاقات المعايدة، وهناك وسيلة أخرى خاصة بالمقتدرين ماديا، حيث يقوم غير المسموح لهم بدخول بلادهم بدعوة أقاربهم في أقرب بلد مناسب للطرفين، لقضاء العطلة الصيفية معا.

ويكفي أن نقول إن صلة الرحم تتحقق في حدها الأدنى بمجرد السؤال. وهذا يتم عبر وسيلة الاتصال العادية وهي الهاتف. ومن ترك هذا الحد الأدنى فهو قاطع للرحم، إلا إذا كان له عذر”.

ويوضح محمد فهمي -صاحب شركة لاستشارات أنظمة الحاسب الآلي في المملكة المتحدة-: “من أهم وسائل الاتصال بينا في الغرب: التزاور، والحلقات الدينية التي تقام في المساجد والمراكز الإسلامية، والتجمع في المناسبات كالإفطار الجماعي في رمضان والأعياد، والمؤتمرات التي عادة ما يرعاها المجالس العليا للمسلمين، كرابطة مسلمي بريطانيا، والمجلس الإسلامي البريطاني.

وأهم أنواع هذه الاجتماعات وأكثرها تكرارا صلاة الجمعة الأسبوعية، بما فيها من دليل على الوحدة والترابط بين المسلمين في شتى أنحاء العالم.

أما عن كيفية الاتصال بأهلي في الموطن الأصلي، فلا تكفيني التليفونات لوصل والديّ، لما أكنه لهما من فضل. وأرى أننا يجب علينا أن نبذل أقصى جهودنا لإرضائهم. أما أقاربي، فالحمد لله أحرص على الاتصال بهم، والسؤال عنهم دائما”.

الرحم الإنساني
يذكر الدكتور ممدوح العدل -استشاري الطب النفسي بالمملكة المتحدة- أن “من المهم أن يحرص المسلمون على وصل الرحم، حتى مع غير أهلهم، فيما يسمى الرحم الإنساني؛ لأن جميع المسلمين من رحم واحد (آدم وحواء). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13).

ولقد نفعنا نحن مسلمي الغرب مفهوم “الرحم الإنساني”، عقب أحداث سبتمبر حينما تضامنت الكنائس والعقلاء من كافة الأديان مع العرب والمسلمين لصد الهجمات المندفعة ضدهم. وكما حدث أعقاب كارثة زلزال إيران وباكستان وتسونامي من تعاون الجهود الإنسانية لمساعدة المنكوبين. كما أن هناك جمعيات إنسانية كثيرة تعمل على مساعدة شعب فلسطين بالمال، وكشف جرائم الاحتلال الصهيوني ضد المدنيين الفلسطينيين.

أما التواصل بين الجالية المسلمة أو العربية فيتم على مستويات متعددة. ويسهل في مجال العمل التواصل بين مجموعات معينة. فالأطباء مثلا يكونون أكثر تواصلا مع بعضهم البعض، من خلال مجال العمل الواحد.

وقد يؤثر العامل الجغرافي في هذا المجال، حيث تفضل الجاليات المسلمة من بعض الأقطار مثل باكستان أو الهند أو بنجلاديش، التجمع في إحياء متقاربة؛ مما يسهل التواصل بين هؤلاء الأسر.

وتلعب المساجد والمراكز الإسلامية دورا بالغ الأهمية في تنمية التواصل بين أبناء الجالية المسلمة، بتذكيرهم برحم الإسلام ورحم ذوي القربى. وأحيانا تكون الأنشطة الاجتماعية للمدارس سواء العربية أو الإسلامية وسيله للتلاقي والتعارف وتقوية الترابط.

ومن آثار التواجد في المهجر أنه يحرم الأجيال الجديدة من الثراء العاطفي المصاحب لصلة الأرحام في الموطن الأصلي. ولكن يجب بشكل تلقائي دمج هؤلاء الأبناء مع أصدقائهم في المدرسة أو في الحي الذي يسكنون فيه سواء من الوطن الأصلي أو أي قطر إسلامي، حتى يعوضوا افتقادهم لأرحامهم في الوطن الأصلي.

كما أنهم يجدون في آباء وأمهات هؤلاء الأصدقاء تعويضا عن افتقادهم للتواصل مع الأعمام والأخوال والعمات والخالات والجد والجدة. لهذا من المهم أن يتنبه الآباء في المهجر إلى أهمية تواصل الأبناء مع الأصدقاء من الأسر التي تشاركهم نفس القيم والمفاهيم، حتى يحافظوا على هوية الأجيال الجديدة، مع مراعاة التوافق الإيجابي مع المجتمع الغربي دون الذوبان”.


* شارك في التحقيق عدد من الصحفيين، هم: (فلسطين- علا عطا الله)، (المغرب- عادل إقليعي)، (بريطانيا- سها السمان)

30/11/2005