“إن سنوات الزواج الأولى هي الأكثر صخبا وامتلاء بالمشاكل”.. مقولة ترددت كثيرا على مسامعي قبل زواجي، وعادت تتردد في أعماقي مع اقتراب موعد زفافي، والذي معه زادت بعض مخاوفي التي ربما لم تكن من الزواج نفسه وإنما من كل الأحداث المصاحبة له.

كثرت الأسئلة في داخلي.. كيف ستكون الحياة؟ هل سأمر بشيء من التجارب والمشاكل التي قرأت وسمعت عنها؟ هل سأتمكن من الاستفادة من خبرتي “النظرية” في التعامل مع المواقف المختلفة؟.

قلق وقرار

كانت البداية محاولة مني للقضاء على مخاوفي وإسكات نوبات قلقي التي صاحبها ترقب شديد للمشاكل خاصة بعد أن أصرت مقولتنا المشهورة على الظهور بشدة في أعماقي، ومعها كثرت في نفسي الأسئلة، فكان القرار.

لم أشأ أن يمنعني انشغالي بها وترقبي لاختبار صحتها عن التعرف على حياتي الجديدة والتعايش معها. قدر الله أن يكون زواجي في بداية السنة الميلادية، فاشتريت أجندة جديدة لعام 2005 وفي أول أسبوع لي في مملكتي الصغيرة قررت إنشاء دستور لإدارة الحياة بداخلها، وعقد بعض الاتفاقات والخروج بقرارات وقوانين تسود على من يسكن فيها.

وعرضت الفكرة على زوجي، ورحب بها!! وكتبنا في مقدمتها إعلان إنشاء مملكتنا، وقرار بإنشاء مجلس الشورى فيها والمكون من كلينا، بالإضافة إلى قرار انتخابه رئيسا للمجلس بموافقة الأغلبية -أنا، وختاما اتفاق على أن جميع بنود هذا الدستور واجبة التطبيق على كل السكان بلا استثناء.

داخلني قلق للحظات -على الرغم من ثقتي الشديدة في زوجي- من إمكانية أن تكون موافقته هذه مجرد إرضاء لي دون قناعة شخصية منه، ونزولاً على رغبتي، أو محاولة منه لاستكشافي ومعرفة ما أفكر فيه فحسب.

ورغم مخاوفي من أن ينتهي الأمر بالقوانين التي سنتفق عليها إلى ما انتهت إليه معظم القوانين التي توضع في كثير من الدساتير، مجرد حبر على ورق، فإن رغبتي في تحقيق الأمر وفي أن تستقر الأمور بيننا حتى نتمكن من بدء حياتنا الجديدة وبنائها كما نأمل غلبت علي، فسكت ولم أستسلم لمخاوفي.

البداية.. مخاوف قبلية

إدارة الحياة داخل المنزل وخارجه تنظمه الاتفاقات
إدارة الحياة داخل المنزل وخارجه تنظمه الاتفاقات

كنت قبل زواجي قد حصرت بعض الأمور التي كانت تشغلني مثل: كيفية التعامل بيني وبين زوجي، وكيفية التعامل مع الأهل، وإدارة الخلاف بيننا إن حدث، خاصة أني لم أكن قد تخلصت بعد من حالة الترقب التي دامت لفترة ليست بالقصيرة وقناعتي بأن الاختلافات بيننا ستظهر مع الوقت، وكيف ستدار ميزانية البيت ومن المسئول عنها، وكيف سنتعامل مع الضيوف ومتى نستقبلهم، وغيرها من الأشياء التي أضيفت إلى هذه القائمة عند بدء الكتابة في الدستور.

اتفقنا قبل كل شيء على ألا يتم كتابة أي قانون إلا بعد مناقشته وموافقة جميع الأطراف عليه –أنا وهو- وبدأت بعرض أفكاري واحدة تلو الأخرى، لنقوم بمناقشتها والاستقرار على كيفية للتعامل معها، ثم يقوم هو بصياغة الاتفاق وإملائي إياه لأكتبه، وذلك حتى يكون القرار شراكة بيننا، وحتى لا أشعر أني خططت وفرضت أفكاري وحدي.

كنت متحرجة من طرح بعض الأفكار لحساسيتها، كحدود تدخل الأهل في حياتنا بقراراتهم أو مقترحاتهم وآرائهم، ولكن جاء البند الأول في دستورنا –الوضوح والمصارحة أساس التعامل بين الأعضاء- مخرجا لي من حرجي هذا، وكنت كلما تحرجت من طرح شيء صغته على نفسي، فسهل علي الأمر؛ فمن الصعب أن يشعر الشخص بأن أحدا ما -أيا كان- يتحدث بشيء عن أي من والديه.

ولكن تجنبا لكثير من المشاكل والحساسيات تمت صياغة قانون نص على أن أي توصية أو فكرة أو قرار يصدر من أي من الجهات القريبة –الأهل- يتم الاستماع إليه وقبوله ظاهريا، على أن تتم مناقشته لاحقا –في البيت- للنظر فيه إما بالقبول أو الرفض، على أن يكون تنفيذه إن قررنا الأخذ به وفقا لظروفنا الخاصة.

كنت في البداية أقوم وحدي بطرح الأفكار، ولكن بعد فترة شاركني زوجي باقتراح بنود أخرى تمت مناقشتها وإضافتها، وكان لمشاركته أثر في تهدئة قلقي من إمكانية أن تكون موافقته على الدستور مجاملة لي، فسكنت نفسي وشعرت براحة.

ومن البنود التي أضيفت قانون إدارة الخلافات، فمن الطبيعي أن تظهر –وفقا للمقولة السابقة- الخلافات في هذه الفترة، ولكن كيف سنتصرف في حالة حدوث خلاف؟.

تم الاتفاق على أن أي خلاف بيننا هو شأن داخلي خاص، ليس من المفروض إعلانه أمام الآخرين أو إشعارهم به، وليس من حق أحد أيا كان أن يتدخل فيه إلا برضا الطرفين. وكان من المهم هنا أن نجيب على بعض الأسئلة منها: هل سنسمح لأحد بالتدخل بيننا؟ ومن هو أو من هم الذين سنعطيهم هذا السماح؟ وفي أي مرحلة من مراحل هذا الخلاف يمكنهم التدخل وما حدود تدخلهم وما الصلاحيات الممنوحة لهم.. ولهذا قام كل منا باقتراح شخص من طرفه يثق فيه وفي رجاحة عقله وحياده، على ألا يتم إدخاله إلا بموافقة الطرف الآخر، وألا يتم هذا إلا في حالات الضرورة، ولكن طبعا هذا لا يتعارض مع الأخذ برأي المقربين في بعض الأشياء والمواقف المختلفة التي لا نملك فيها خبرة.

الاحتكاك الأول.. كيف تنشأ القرارات

على الرغم من محاولتي لإرساء القواعد تجنبا للمشاكل واستقرارا للحياة، فإن ترقبي لتحقق المقولة لم يهدأ، وكنت دائما في انتظار الاحتكاك الأول، ولم يطل انتظاري فهذه سنة الحياة، ووضع القوانين والاتفاق على كيفية معالجة المشاكل لا يمنع حدوث الخلاف.

كان هذا الأسبوع الثالث لزواجي، وكنا عائدين من رحلة “شهر العسل” وكان اليوم يوافق اليوم الأخير لمعرض الكتاب السنوي. قمنا بكتابة قائمة ببعض الكتب التي رأينا أن نبدأ بها تكوين مكتبتنا الصغيرة، وصادف في هذا اليوم أن قرر زملاء زوجي زيارتنا لتهنئته بالزواج، فاتفقنا أن أذهب للمعرض ويبقى هو لاستقبالهم، وقد كان.

ذهبت إلى المعرض، وقمت بشراء اللازم من الكتب واتصلت به لأعلمه بأني في طريق العودة للمنزل، ولكن لم يعجبني طلبه وإلحاحه علي أن أواصل جولتي، وأنه لا داعي لعودتي الآن، لكني أصررت على العودة، وانزعجت حين شعرت بانزعاجه من رغبتي في التواجد في البيت وبنظرة الضيق في عينيه بعد وصولي فعلا.

انتظرت حتى غادر الناس، وخرجت ولم يخف علي جموده وصمته، ولم يكن انزعاجي قد زال بعد، خاصة أن الأفكار السلبية كانت قد بدأت في شق طريق لها في نفسي لتنسج فيها تساؤلاتها الشريرة: لماذا يرفض وجودي؟ إن كان لا يرغب في تواجدي في البيت في ذاك الوقت فلماذا لم يقل هذا صراحة؟ هل كان المعرض حجة لكي أشغل فيه بعيدا عن المنزل؟ من حقه أن يستقبل أصدقاءه ويأخذ راحته معهم لكن ليصرح برغبته هذه.. ألم نتفق على الوضوح؟.

ولكن لأننا اتفقنا عليه –الوضوح- خرجت ووجدته يبادر بفتح الموضوع، وفاجأتني –على الرغم من معرفتي السابقة بأن الاختلاف بيننا وارد- نظرة كل منا للأمر.

كان يرى أن هذا آخر يوم للمعرض السنوي للكتاب، وهي فرصة لتكوين مكتبتنا، وأن إعدادنا السابق لقائمة الكتب المطلوبة لا يمنع أني كنت قد جلت جولة أخرى في أروقة المعرض فربما كنت وجدت المزيد من الكتب أو المراجع التي غابت عنا، وكان من المهم أن تتواجد لدينا.

بينما كنت أرى أن وجودي في البيت أثناء استقباله ضيوفه مهم، فهذه زيارتهم الأولى لنا، وهو لا يعرف مكان الأشياء التي سيضيفهم بها لأني من قام بترتيب المطبخ ورص الآنية، وأنه لا داعي لأن يشغل نفسه بالبحث عنها؛ لأن وجوده معهم لاستقبالهم أولى، ودوري هو إعداد الأشياء وتجهيزها حتى يقدمها لهم.

كان لكل منا رأيه المنطقي ووجهة نظره المقبولة عمليا، ولكنه حسم الجولة بقوله إن هؤلاء أصدقاؤه، وإنه لو كان قدم لهم الأشياء كما هي دون أطباق وأكواب وملاعق لقبلوها كما هي، وتصرفوا بمعرفتهم، فعمق العلاقة بينهم يسمح بتجاوز هذه الشكليات.

وكان نتيجة ذلك أننا خرجنا بقانون جديد تم إضافته للدستور، مفاده أنه: عندما يجد أحد منا أنه في موقف يحتاج معه لاتخاذ قرار حاسم في لحظة ما، فإن على الطرف الآخر أن يستجيب للقرار ويتفهمه، على أن يتم توضيح الأمر والنقاش حوله لاحقا إن تعسر فعل ذلك أثناء الموقف ذاته.

أراحني انتهاء الموقف بهذه النتيجة، فقد بدأت الأمور تستقر في رأيي وتأخذ مجراها، وارتحت أيضا لمرور الاحتكاك الأول والذي كنت أترقب حدوثه منذ البداية، فخوضنا لتجربة خلاف بيننا –وإن كانت صغيرة أو شكلية- كان فارقا، فقد كان اختبارا مصغرا لكلينا لنرى كيف سنتمكن من التعامل مع خلافاتنا واختلافاتنا، وكيف لنا أن نتحاكم لما اتفقنا عليه، وأسعدني أن كلا منا التزم بتنفيذ القرار.

قبل الختام

ليست هذه هي كل القوانين، وليست هذه القوانين إلا اجتهادات شخصية منا، ظهرت نتيجة لظروفنا والمواقف التي حدثت بيننا، ولا تعني بالضرورة أنها يجب أن تظهر وتطبق كما هي في كل بيت، ولكن كما قال رسول الله: “العقد شريطة المتعاقدين”، والاتفاق على الأشياء ووضوحها دائما يريح، ويسهل التعامل بين الناس، وكل أعلم بظروفه وبكيفية إدارة حياته.

وعلى الرغم من كل شيء ورضاي بما وصلنا إليه، فإني لا أخفي شعوري بالضيق الشديد كلما اختلفنا على شيء مهما قل حجمه، على الرغم أيضا من يقيني بوجود الاختلاف بيننا والذي هو سر جمال واكتمال الحياة*.


مانيفال أحمد